٭ إن عجائب السودان لا تنقضي وأن التعجب لا ينقطع، وسيظل يلازمنا ملازمة الظل لصاحبه، فما من أمر تنظر اليه إلا وهو مدعاة للتعجب والدهشة وأحياناً كثيرة الى حيرة، والحيرة اذا طالت تدفع بصاحبها الى الذهول، والذهول مرض ويصعب التخلص منه ليدرج اسم الشخص في سجل مرضى الذهول والعياذ بالله. فلو فكرت ملياً من يخطط لهذا البلد منذ الاستقلال والى اليوم، لوجدت أن كل الخطط والتخطيط، القديم فيه والجديد التي وضعت في مجال التنمية الزراعية لا ترقى لمستوى الجدية، والنظرة المستقبلية التي تفيد المواطن لتضع مصلحة البلاد والعباد فوق مصلحة الافراد، وإنما هى خطط لنظرة ذاتية وآنية لفائدة افراد قلائل وأسر معينة تستفيد منها. هذه النظرة الضيقة والانانية جعلت من السودان دولة لا تنمو اقتصادياً ولا علمياً ولا تتقدم شبراً نحو الامام، لأن السودان من اوائل الدول التي نالت استقلالها بالقارة، فكان يجب ان تكون دولة رائدة في كل المجالات، لأن هنالك دولا افريقية نالت استقلالها بعد السودان، والآن متفوقة عليه حتى في صناعاتها الصغيرة مثل الصابون والعطور وغير ذلك. هذا التخطيط الارعن ادى بالسودان الى الوراء وأدخله في ديون تنوء عن حملها الجبال، بقروض اثقلت كاهله ولم توطن لمشاريع تنموية سليمة، وكل ما في الامر أن قروضاً بمليارات الدولارات دخلت البلاد وهى قروض ربوية مخالفة لنهج الشرع الإسلامي لم تخرج المواطنين من خزى الدنيا والآخرة. وظفت القروض في مشروعات فاشلة، وكأن دراسات الجدوى فيها لم تتم بمعايير علمية، أو أنه ربما حشر بنو صهيون انوفهم في ذلك، وليس هذا ببعيد حتى لا يتقدم السودان ولا ينمو، واكبر دليل لما نقول هو ما حدث في مشروع الجزيرة مع القرض الياباني الذي وظف فيما يسمى بمشروع إعادة تأهيل مشروع الجزيرة. لم نر لهذا المشروع أية جدوى زراعية أو فائدة مادية عادت للوطن ناهيك عن المزارعين، غير ان شبكة تليفونات عممت على نطاق (الغيط) قيل أنها لتسهيل اتصالات الإداريين بالتفافتيش المختلفة مع إدارة المشروع. فلِمَ تتصل الإدارات بإدارة مشروع الجزيرة والمشروع في اصله منهار؟ وما جدوى الاتصال؟. الآن القنوات مقفلة تماماً ونباتات مختلفة الانواع لم تكن معروفة لدينا من قبل قيل أنها دخلت السودان عن طريق التقاوي الامريكية، ولعمري هذه لعبة (الموساد) وطفيليات ضارة بالانسان والحيوان والارض، كلها في المساحات المروية بالجزيرة. فالقرض الياباني لم تستفد منه الجزيرة بشيء، والدين معلق على رقاب أهل السودان حتى الولدان هذه الديون على رقابهم وتتحملها الاجيال القادمة بجريرة آخرين خانوا الله وخانوا الرسول وخانوا اماناتهم، وخانوا الشعب عامة وأهل الجزيرة خاصة ومات الحبيب المنتظر (مشروع الجزيرة). ومن العجائب التي قرأنا عنها يوم الجمعة الخامس والعشرين من فبراير الجاري ما جاء بجريدة الصحافة العدد 2236 تحت عنوانين، الاول عن شركة الاقطان السودانية، تتعهد بشراء محصول القطن من المزارعين بعد جني القطن في الموسم القادم، والآخر عن إدارة مشروع الجزيرة التي خططت لزراعة 0053 فدان من القطن بالجزيرة في الموسم القادم!! فإن كلاهما يدفقان الماء على (الرهاب) أو أنهما اشترتا الوتد قبل شراء البقرة، فهذه كلها (احلام ظلوط) والكل يعرف هذا المثل القديم. انا مولدي بالجزيرة وهى مهد طفولتي والآن مزارع بالجزيرة وما زال الحنين يشدني اليها في كل لحظة وكل حين، أينما أكون، اعرف الجزيرة مثلما اعرف جوع بطني، فأسمحوا لي ان اقول، ان إدارة مشروع الجزيرة والشركة السودانية للاقطان كلاهما (وهم) وتصريحاتهما هذه ما هى إلا احلام ظلوط كما ذكرت لكم من قبل، وهم حلم لن يتحقق. نحن الآن في اخر يوم من شهر فبراير ولم يبق من الموسم الزراعي إلا اربعة أشهر فقط، وحتى المساحات لم تخضر بعد ولكن في الخيال، حصدنا القطن وحلجناه بالمحالج وصار ريالات وشركة الاقطان سوقت وقبضت الثمن بالدولارات والبالات الآن على رصيف بورتسودان للتصدير!! كل هذا في الخيال ولكن الواقع خلاف ذلك، على الرغم من ان كليهما يعلمان أن الارض حتى الآن لم تحفر والقنوات لم تتطهر، والممول غير معروف ولم يحصل اتفاق قانوني بين المزارع والممول، والمزارع صفر اليدين لا يملك قوت يومه (لقمة بإدام) ومطالب بأن يمول حرثه ذاتياً أو أن يؤتي بمستثمر وكأنه عاش في عصر الاقطاع لا رحمة في قلبه. مزارع مفلس مواجه بالملاريا والتايفويت والبلهارسيا واطفال مهددون بالموت من سوء التغذية، وتعيش الاسر في ظروف نفسية صعبة. وحتى الآن المزارع لا يدري بالضبط من الممول الحقيقي، وهنالك دلائل قاطعة بأن لا نجاح للموسم، فلا حرث ينجح بلا ري ولا ري بدون تطهير القنوات من كل الشوائب الخطيرة التي تهدد استمرارية المشروع بنجاح. الارض لم تخضر وغابات الحشائش تسد القنوات، وإدارة المشروع حددت المساحة ب053 ألف فدان، كلام كله من نسج الخيال، الواقع في وادي شعير والخيال في وادي أزوم. منذ أن ولدنا بالجزيرة في عهد الاستعمار وترعرعنا فيها وعرفنا نظام الزراعة ان التحضير لموسم القطن يبدأ في ديسمبر قبل حلول العام الموسمي الجديد ويستمر التحضير حتى نهاية مايو من العام الجديد، لتبدأ زراعة القطن في اوائل يوليو، وكل شيء في الغيط جاهز، الترعات الرئيسية والفرعية وتوابعها داخل الحواشات من ابو ستة، ابو عشرين ومواسير وغير ذلك من الوسائل التي تعين على لانتاج الذي يضمن حق المواطن المزارع والممول (إدارة المشروع). فالحديث عن وضع خطة لزراعة كذا وكذا من المساحات كزراعة القطن ماهو إلا زخم إعلامي على وتيرة كل شيء تمام (سعادتك) والكل وهم في وهم، الاتحاد يؤمن والمزارع المسكين يصدق، والكل غارق في نوم عميق وفي النهاية حصاد الهشيم و(عند المخاضة تبين الكوكة) كما يقال في المثل المشهور. فيا إدارة مشروع الجزيرة وشركة الاقطان السودانية، ويا اتحاد المزارعين، إنما تتحدثون عنه الآن ماهو إلا ( علوق الشدة) لا طائل منه والمشروع بالهيئة التي رأيتها فيه ، فلا تحلموا بانتاجية تروي غليل المزارع وتخرجه من دائرة الفقر المدقع الذي جثم على صدورهم اليائسة، فأي حديث عن مشروع الجزيرة يجب الا يتخطى مسألة التحضير الجيد، والتمويل المريح بلا استغلال بتوفير التقاوي الجيدة والاسمدة والمبيدات وغير ذلك من المدخلات الزراعية التي تنجح الموسم ويتوقع الانتاج الوفير، والأهم من هذا كله تطهير القنوات لضمان انسياب المياه بسهولة ويسر لأن الحرث كائن حى ( وجعلنا من الماء كل شيء حي). فاذا ضمنا هذا الجانب، ضمنا نجاح الموسم (محاصيل نقدية كثيرة) وعندئذ نتحدث بنفس عن الخطط والتحضير المستقبلي، وتتكلم شركة الاقطان عن التسويق والبيع وتحتفل إدارة المشروع بعيد الانتاج وتفتخر بنفسها. فالكلام عن التسويق سابق لآونه، وعلى الاتحاد ان يضع مصلحة المزارع فوق مصلحة الإدارة والشركة، لتضمن تنمية المشروع وتنمية المزارعين مادياً واجتماعياً، حتى نعيد لهذا المشروع العملاق مجده، ونعيدها لسيرتها الاولى بإذن الله، وهذا على الله ليس بعيداً، وهو المستعان.