د.علي عبد القادر/ باحث أكاديمي- باريس [email protected] تبدأ هذه الأيام محاكمة أحد أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي ألا وهو رئيس فرنسا السابق جاك شيراك، الذي حكم فرنسا من 1995م إلى 202م لفترة رئاسية أولى، ثم من 2002م إلى 2007م لفترة رئاسية ثانية، وكان قبلها قد تقلد عدة مناصب عليا في الدولة الفرنسية من أهمها : رئيساً لوزراء فرنسا من 1974م إلى 1976م في عهد الرئيس جيسكار ديستان، وكذلك رئيس للوزراء من 1986م إلى 1988م في عهد الرئيس ميتران. ثم عمدة لمدينة باريس عاصمة فرنسا لفترة 18 عاماً من 1977م إلى 1995م في عهد الرئيس ميتران. وبغض النظر عن سعي الجميع حكومة ومعارضة لإيجاد مخارجة قانونية مقبولة لإنهاء هذه القضية التي يفترض أن يحاكم فيها شيراك، فما يهمنا هو مبدأ استقلالية القضاء مساواة الجميع إلى درجة معقولة أمام القانون بحيث أن الرئيس نفسه يقدم للمحاكمة بمجرد انتهاء حصانته الدستورية. منذ 2007م عند انتهاء فترة رئاسته الثانية في 2007م وحتى تاريخ هذا المقال لم يجد الرئيس الفرنسي السابق شيراك بيت يأويه وآواه آل الحريري رئيس وزراء لبنان السابق في إحدى شققهم بباريس، أي أنه خلال 30 عام من وجوده في أعلى المناصب بالدولة الفرنسية لم يظهر عليه ما يدل على امتلاكه الأموال وإن تردد بأن له مبلغ لأبأس به في إحدى البنوك اليابانية، حتى وإن ثبتت هذه فماذا تفيده وقد بلغ من العمر 78 عاما، حتى إبنته ليست سوى موظفة في القطاع الخاص. ملاحقة الرئيس شيراك قضائياً ليس بسبب جرائم أرتكبها أو أخطاء أقترفها في حق المواطن الفرنسي أو فوائد مالية أو غيرها جناها للمصلحة الخاصة مستغل مناصبه العديدة في أعلى هرم الدولة خلال تلك الثلاثين عام بل تهمته التي يتفق أغلب السياسيين الفرنسيين بأنها ممارسة يقومون بها هم أيضا بصورة أو بأخرى هي ما يسمى إيجاد وظائف وهمية بحيث تذهب مرتبات هذه الوظائف لدعم الحزب الذي ينتمي إليه المسئول ليس إلا. هذه هي تهمة شيراك التي يقدم للمحاكمة عليها الآن باعتبار أنه قد فعلها إبان تقلده لمنصب عمدة باريس. عند استلامه للعمودية كان هناك عدد 17 وظيفة وهمية إنشئت قبل توليه المنصب وعند انتهاء فترته إرتفع عدد هذه الوظائف الوهمية إلى 400 وظيفة. وما يلاحق عليه شيراك اليوم هو عدد 21 وظيفة فقط كانت مخصصة لخدمة الحزب الحاكم بينما كانت رواتب من خزانة الدولة. والمبلغ الملاحق عليه يبلغ 4.5 مليون يورو ذهبت لصالح الحزب الحاكم، تمّ إرجاع 2.2 مليون يورو منها لعمودية باريس وتستمر الملاحقة القانونية بخصوص ما تبقى. ما يهمنا هنا هو إذا كان رئيس إحدى الدول العظمى مثل فرنسا ولفترتين رئاسيتين ورغم كل السلطات والمكانة والعلاقات التي يتمتع بها حتى اليوم، يقدم للمحاكمة لأي خطاء أرتكبه طال الزمان أم قصر، فما بالكم بأي مسئول أخر غير الرئيس. هناك قضايا فساد أخرى أتهم فيها مسئولين فرنسيين وسنكتفي بإيراد بعض الأمثلة لقضايا فساد تورط فيها كبار المسئولين الفرنسيين خلال السنوات الأخيرة في فرنسا، ولنبدأها بوزير الخارجية الجديد آلان جوبيه وهو وزير خارجية سابق من 1993م إلى 1995م ثم رئيس وزراء سابق من 1995م إلى 1997م أثناء حكم الرئيس شيراك، فلقد اضطر قبل عدة سنوات للاستقالة من منصبه كعمدة لمدينة \"بوردو\" بغرب فرنسا وكعضو في البرلمان عندما حكم عليه في 2004م بأنه غير مؤهل قانونياً للانتخاب، لأنه استغل منصبه لمساعدة ابنه - انتبه لهذه المفردة- في الحصول على سكن بالإيجار في المساكن الشعبية وهي مساكن لذوي الدخل المحدود، فاضطر آلان جوبيه لتقديم استقالته واختار كندا منفى له لمدة عام حتى تهدأ الأزمة قليلاً. كما أن وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي هيرفي قيمار قدم استقالته في 2005م بعد 10 ايام من توليه الوزارة لأنه أستغل منصبه كوزير وقام بإستيجار شقة لإيوائه وأطفاله الثمانية، مساحتها 600 متر في قلب باريس بمبلغ 14400 يورو شهرياً على حساب الدولة، وقام في نفس الوقت بتأجير شقته الخاصة لآخرين. وحين كشفت الصحافة الأمر قام الوزير بتقديم استقالته فوراً. حالة أخرى كان اللاعب الرئيسي فيها مدير صندوق النقد الدولي الحالي دومنيك ستروس كاهن، الذي قدم استقالته من منصبه كوزير للاقتصاد والمالية عام 2001م، باعتبار انه استلم في السابق ما يعادل 100 ألف يورو كأتعاب من صندوق التامين الفرنسي للطلاب دون أن يقدم عمل يذكر رغم إصراره بأنه أدى العمل الذي كلف به كاملاً ، ولكنه اضطر في الأخير تقديم استقالته من وزارة الاقتصاد والمالية عام 2001م. وزارة الخارجية شهدت حالة أخرى من قضايا الفساد طالت أحد وزرائها في عهد الرئيس ميتران وهو رونالد دوما الذي تقلد منصب وزير الخارجية من 1988م إلى 1993م، والذي رغم تبوئه بعد الخارجية من 1995م إلى 2000م، منصب رئيس المحكمة الدستورية وهي أعلي هيئة قضائية بفرنسا، ولكن رغم ذلك استمرت ملاحقته قضائياً بخصوص تلقيه رشوة للموافقة على بيع غواصات بحرية لتايوان أثناء فترته في الخارجية وقدم للمحاكمة وسجن فعلياً . ولعل الحالة التي أدت إلى أسوأ النتائج هي تلك القضية التي اتهم بيير بيروقوفوا رئيس الوزراء بين 1992 إلى 1993م في عهد الرئيس ميتران، بأنه استدان مبلغ مليون فرنك أي ما يعادل 150 الف يورو بدون فوائد، ليشترى شقة مساحتها 100 متر بباريس، حيث استدان المبلغ من رجل أعمال تعلقت به فضيحة مالية في 1989م، ولما كشفت الصحف الأمر، قام بيروقوفوا بالانتحار بإطلاق النار على نفسه وإن كانت هناك أقوال تتردد بأنه اغتيل لمعرفته ببعض حقائق الأمور المتعلقة بالفساد المالي من قبل جهات نافذة. مقالنا يطرح سؤال بسيط. هل يمكن أن نسمى ما ارتكبه الفرنسيين قضايا فساد مقارنة بما يحدث في بلادنا؟ ولكننا نبسط الأمر فنقول إن الطريقة التي يطبقها حكام فرنسا والكثير من دول الغرب هو تطبيقاً بدون دراية منهم، لما عبر عنه الصحابي \"عدلت فنمت قرير العين يا عمر\" وكذلك ما عبر عنه الإمام ابن تيمية بقوله \"ينصر الله الدولة الكافرة بالعدل\". هذه هي حالة الفساد ومصير من يتهم بقضايا فساد في فرنسا والعالم الغربي بشكل عام، فما هو حال الفساد والفاسدين في حكومات العالم العربي والإسلامي؟ فلنترك للقارئ أن يتخيل موقعه من الإعراب إن كان في خارطة القضاء الفرنسي.