حديث المدينة قضية المتعافي.. مع البرلمان.. عثمان ميرغني طرفة يحكيها الشعب السوداني.. أن رجلاً كان يسير ليلاً في مكان مظلم، فخرج له رجال أشداء مفتولو العضلات.. توجَّس منهم خيفة، إذ ظن أنهم متربصون به.. اقتربوا منه وسأله أحدهم (إنت معانا أم مع الناس التانيين؟) .. وبما أن الأمر فيه خيارات، فلم يجد الرجل بداً من أن يقول بكل فرح (أنا معاكم..).. فما كان من الجماعة إلا أن قالوا له بصوت واحد ( لكن.. نحن الناس التانيين). هذه الطرفة تصور العيب الكبير في قوام الدولة السودانية.. مسرح الرجل الواحد.. إذا اصطدم المواطن بأي وجه في السلطة فإنه بالتأكيد في قبضة (الناس التانيين).. لأن أية جهة حكومية أخرى ستعامله بذات الوجه.. مما يتسبب في انهيار نظرية الفصل بين السلطات.. لكن مع ذلك.. الدراما الأخيرة – قصة الدكتورعبد الحليم المتعافي وزير الزراعة مع البرلمان- كانت في اتجاه معاكس.. اتجاه يبشر بممارسة نيابية رشيدة.. وفصل بائن بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. ورغم أن د. عبدالحليم المتعافي يرد اليوم في مؤتمر صحافي على اتهامات المجلس الوطني ضده.. إلا أنني وبعيداً عن تفاصيل القضية أعتقد أن البرلمان قام بعمل جدير بالثناء.. إثارة القضية في البرلمان، ثم الصرامة والحسم في متابعة تفاصيلها مع وزير الزراعة.. والتشدد في مواجهة تغيب المتعافي عن حضور جلسة المجلس.. كل ذلك يبعث على الاطمئنان.. وحتى لا يقال إن البرلمان ينفذ (أجندة!).. وأنه ما تشدد وتعقب المتعافي إلا لأن الحكومة رأت تقديم كبش فداء بين يدي الحملة الشعبية ضد الفساد.. وأن المتعافي مجرد (كرت محروق) ترمي به الحكومة.. فإن البرلمان مطالب بأن يسير على نفس المنوال ويواجه قضايا أخرى بذات الجدية والصرامة والحسم. هذا هو التغيير الحقيقي الذي يبحث عنه الناس.. أن ترسي دعائم ممارسة في العمل العام لا تقوم على المجاملة أو تدليك الظهر.. فصل كامل بين السلطات حتى يؤدي المجلس الوطني دوره الرقابي على السلطة التنفيذية بكل رشد وحياد.. وصدقوني الحكومة لن تخسر شيئاً.. حتى ولو فقدت نصف وزرائها.. بل تكسب كثيراً من ثقة الشعب واحترامه وتقديره لهذه المؤسسات. ومهما قيل عن الفساد أو تبرأت الحكومة منه.. بل حتى ولو أقسمت أن من يقترفه سينال رصاصة على رأسه في ميدان أبوجنزير.. فالمحك هو الفعل لا الشعارات والبلاغة.. فالقاعدة هي (العدالة لا تتحقق حتى تُرى تتحقق): Justice Must Not Only Be Done It Must Be Seen to Be Done وحتى لا يخرج الشعب إلى الشارع ويهتف (الشعب يريد تغيير النظام) الأوجب أن يتغير النظام بنفسه.. فصل السلطات هو المبدأ الذي تقوم عليه الدول الحديثة الرشيدة.. والفصل يعني أن لا يرى نواب البرلمان غير مهامهم الرقابية والتشريعية بعيداً عن أية مؤثرات حزبية أو من السلطة التنفيذية.. بل النواب في الدول المتقدمة لا يلتزمون حتى بتوجيه أحزابهم. فالنائب يملك ضميره الخاص وتقديره للأمور حتى ولو تضارب ذلك مع رؤية حزبه.. التيار