ماذا بعد انفصال الجنوب ؟ محمد خميس عبد الله [email protected] يعيش أهل السودان هذه الأيام أحوالاً نفسية عصيبة تأخذهم يمنةً ويسرة ، رفعاً وخفضاً . فكأنما القلوب معلقةٌ على جناح طائرٍ أخرق مجهول الوجهة والمستقر. وهذه الأحوال سببها أهل السياسة في هذا البلد المبتلى . فقد أعطي السودان بنيه كل ما تشتهيه الأمم لبناء حضارتها وتحقيق تقدمها , ولكنه لم يجد بينهم قادةً من أمثال أولئك الأفذاذ الذين جعلوا من بلادهم المأزومة قمماً في النماء والحضارة والتطور. يتطلع السودان في هذه المرحلة من تاريخه وهو على حافة الهاوية إلى قيادةٍ ذات أفقٍ رحيب يتسع صدرها لكل ألوان أهله وعناصرهم ودياناتهم وجهاتهم وثقافاتهم المتباينة , والتي قدر الله أن تجتمع في هذه الرقعة من الأرض , وأن تأتلف وتتآلف فيها. تتطلع هذه البلاد إلى قيادةٍ في تسامح مانديلا , الذي أهين كما لم يهن أحد. فلم تغره القوة وهو في نشوة انتصاره في الانتخابات , أن يأخذ على أيدي جلاديه.بل احتضن أمام منصة التتويج طفلاً أبيض من أبناء الذين أهانوه . فكان ذلك أصدق تعبير عما يحمله من قلبٍ كبير متسامح , ينظر إلى المستقبل مشرقاً, ويسقط ماضياً من الإذلال والعبودية والظلم طويل . وحاضراً من الفقر والجهل والمرض يعيشه شعبه. وقد يحق له القصاص من جلاديه لو أراد , وهو يستطيع ذلك ويقدر عليه. وربما تساءل في تلك اللحظة بينه وبينه : كم يستغرق من الزمن ليشفي غليله ؟ وكم ينتظر شعبه في واقعه المرير ذاك ؟ . وهل من الحكمة أن ينتصر لنفسه, ناسياً مصلحة الملايين من أبناء أمته؟ . إن بلادنا تعوزها قيادةٌ مثل مهاتير محمد رمز ماليزيا الجديدة . والذي تجاوز ببلاده العصبيات التي يمكن أن تقعد بها بين أذيال الأمم لو اشتغل بطرد الصينيين الأجانب , الذين امتلكوا ناصية المال والأعمال . أو صب حقده على ذوي الأصول الهندية الذين امتلكوا مفاصل الدولة في الإدارة والتقنية والجامعات . أو لو عبأ من شعب الملايو المغبون صاحب الأرض الأصلي جيشاً جيشاً جراراً لطرد كل أولئك وهؤلاء . لكن, تجلت حكمة أهل ماليزيا في اعترافهم بوجود تفاوتٍ مجحف في فرص كسب المال والعلم ومقومات الحياة, بين أبناء الإثنيات المختلفة. وقد أملته ظروفٌ موضوعية وغير موضوعية . وتواثقوا صادقين على إزالة التفاوت المجحف , حتى لا تغرق بهم السفينة جميعاً في الفتن , وقد فعلوا. إن أهل السودان هم الأكثر حاجةً من غيرهم إلى بناء الثقة بين مختلف مسمياتهم المنسوبة إلى الجهات الجغرافية الأربع . أو إلى تكويناتهم السياسية, أو إلى معتقداتهم . وأن الثقة المفقودة هي بيت الداء الذي يفرخ مصائب وأزماتٍ مع كل يومٍ جديد. ولا شك أن الدولة تبذل جهوداً فيما يعرف ببرامج التنمية ورتق النسيج الاجتماعي والمصالحات, ولكن نتائجها المبتغاة لم تدرك. ودليلنا استمرار الأزمات التي نلمسها ونعيشها ونراها. فقد آن الأوان للدولة لتغير وسائلها التي أثبتت الوقائع خيبتها. وأن تعمل فكرها في ابتكار وسائل جديدة . وذاك متاح من مصادر محلية أو مستوردة من تجارب الأمم التي واجهت مشاكل مشابهة لحالة بلادنا. وقبل اللجوء إلى تلك الوسائل لابد من الإشارة إلى بعض الأسس التي لا غنىً عن أخذها في الاعتبار لمناقشة هذا الموضوع : 1- يجب على القائمين على الحكم أن يتذكروا دوماً أن حكم هذه البلاد وإدارتها أمانةٌ ضخمة ، لها تبعاتها المشهودة والغيبية. وهذا من صميم عقيدة المتدينين. 2-أن السودانيين جميعاً يحبون بلادهم، ويرجون خيرها. لا تفاضل في ذلك بين حكومةٍ أو معارضةٍ أو غيرهما. يتساوى في ذلك كل أبناء السودان. وأن رمي أي طرفٍ للآخر بالعمالة أو الخيانة , هو قذفٌ بالباطل ما لم يثبت بالدليل القانوني أمام القضاء. 3- أن أهل السودان لم يهنأوا بثمرات الاستقلال عن المستعمر, رغم مرور أكثر من نصف قرنٍ منه. 4- وأن الشقاق والاصطراع بين السودانيين , أضعفهم , وأطمع فيهم الطامعين من كل حدبٍ وصوب. لقد ذهب الجنوب إلى حال سبيله استقلالاً بدولته. وهذه سابقةٌ تقبل التكرار في أجزاء أخرى من البلاد ما لم يحتط لذلك بتغيير السياسات السابقة, القائمة على تداول السلطة بين أبناء فئة عرقية معينة, وإن تخفت تلك الفئة في ثوب أحزابٍ سياسية, تقليدية وحديثة. ولولا ذلك فإن عوامل دولة سودانية متماسكة أقوى من عوامل الشقاق والتشتت إلى دويلات متناحرة.