وما بقيت إلا وزارة الري!! في السياسة: د. هاشم حسين بابكر [email protected] أتساءل إن كان هناك برنامج ممنهج للقضاء على مؤسستين هامتين يقف عليهما اقتصاد البلاد وهما مؤسستان بدأتا العمل في القرن التاسع عشر وأقصد بأولاهما السكة حديد، أما المؤسسة الهامة الثانية فقد بدأت بعدها بحوالى ثلاثين عامًا أي في العام 1927 وهي إدارة الري!! إدارة الري بدأت بمشروع طيبة بمساحة 300 فدان «أنشئ عام 1925» وبدأت الإدارة في تطويره وتنميته حتى تضاعفت المساحة إلى 202 مليون فدان فيما يُعرف اليوم بمشروع الجزيرة! هذا إضافة لما يُعرف اليوم بمشاريع النيل الأبيض والأزرق والنيل ودلتا طوكر والقاش.. وشكل الاثنان «السكة حديد ومشروع الجزيرة» رئة التنفس للاقتصاد السوداني.. وتم القضاء على السكة حديد وبأسلوب ممنهج وبقيت وزارة الري التي بدأ منهج القضاء عليها بأسلوب البتر كما لمريض السكري، ولكن ظلت الوزارة بخبرائها ومهندسيها ومخططيها تعمل رغم كل شيء!! إعداد المهندس الخريج في وزارة يتم عبر دورات في إدارة المشروعات وفي هذه المرحلة تتم دراسة ومراجعة وتصميم وإعداد الوثائق والعقود على أساس المواصفات العالمية. بعد ذلك ينتقل المهندس إلى مجال التنفيذ فيما تعلّمه في إدارة المشروعات بما في ذلك إدارة الأعمال الهندسية ومتابعتها بالتنسيق الدقيق مع قسم المشروعات والجهات ذات الصلة. ومع إدارة المشروعات وقسم التنفيذ تأتي إدارة المياه وهي تشمل مراقبة التوزيع ومستوى الأداء وسلامة منظومة التوزيع حيث يقوم المهندس بالإضافة إلى توزيع المياه زماناً ومكانًا، يقوم بمسح سنوي للقنوات لتحديد كفاءتها. يُصقل المهندس جيداً لذلك تجده في المنظمات الإقليمية والدولية كالأمم المتحدة والبنك الدولي وغيرها، وكان الطلب على مهندس الري عالياً، حيث أرسلت الوزارة مهندسيها إلى كلٍّ من تنزانيا وموزمبيق ورواندا وجمهورية اليمن وليسوتو وقد وضع هؤلاء البنية الأساسية للري في تلك البلدان وقامت على أساسها وزارات الري فيها! شهدت العديد من المنظمات الدولية كالصناديق العربية والبنك الإفريقي والبنك الدولي والذين أرسلوا خبراتهم وتعرفوا على الكفاءات بوزارة الري الأمر الذي أقنع الصندوق الكويتي الذي وعد بتمويل مشروع الرهد، وكان البنك الدولي قد اشترط قيام شركات أجنبية بتنفيذ المشروع لكن إصرار الصندوق الكويتي وثقته بكفاءة الوزارة في التنفيذ أجبرت البنك الدولي على المشاركة في التنفيذ الذي قامت به وزارة الري بواسطة مهندسيها المحليين!! صقلت وزارة الري خبراء في مجال الري والخزانات والسدود، فكان الرواد العلماء أمثال صغيرون الزين، ويحيى عبد المجيد أطال الله أعمارهم وأفاد بهم عباده وكثيرون كثيرون تخرجوا في ذلك الصرح وخرجوا بخبراتهم إلى المنظمات الدولية ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الخبير الدولي الخير حاج الأمين الذي كان مسؤولاً عن جنوب شرق آسيا في البنك الدولي، ود. أحمد آدم الذي عمل في ليسوتو مع المصرف العربي فأجاد وأفاد!! ولو حصرت الكفاءات التي تخرجت من تلك الوزارة بعد صقلها لاحتجت إلى مجلدات ومجلدات فتلك مدرسة قامت منذ أكثر من ثمانين عاماً وما زالت تعطي بلا انقطاع ولا منّة!! منها تخرج الدكاترة أبوشورة، والريح عبدالسلام الذي كان خبيراً في البنك الإسلامي في شؤون الري وكما تخرج منها وزير الري الحالي كمال علي الذي يعتبر عالمياً مرجعاً من المراجع الهامة والتي يُعتمد عليها في مياه النيل!! كان لاستشارة هؤلاء العلماء صغيرون والخير ود.محمد وبرئاسة أستاذهم بروفسير الترابي عظيم الفائدة في خزان مروي حيث ضمت اللجنة الفنية خبراء وعلماء الري، أرجو معذرتي حيث لم أذكر كل الأسماء، كان الري بعلمه وخبرته هناك منذ أن كان الصرح على الورق حتى أصبح حقيقة واقعة تعم السودان بخيرها!! هذا قليل من كثير مما قدمته تلك الوزارة والتي تعتبر من الوزارات الرائدة ليس في السودان فحسب بل تعدى صيتها الحدود منطلقة لآفاق إفريقيا والبلاد العربية والمنظمات العالمية.. أي وسواس خناس همس في أذن الحكومة بتفتيت وزارة الري الصرح العلمي العظيم.. وعلى أي أساس ستقوم المشاريع التنموية الزراعية، بل وعلى أي أساس ستدار المشاريع القائمة الآن بعد أن تفقد الوزارة حجمها وعلمها الذي سيتلاشى بعد أن يتم ذبحها عمداً مع سبق الإصرار والترصد!! هل يا ترى أعجب البعض الحال الذي آل إليه مشروع الجزيرة بعد أن ذهبت كل البنى التحتية للري في المشروع وأصبح أعظم مشروع عرفته إفريقيا قاعاً صفصفا..؟ إن كانت هذه التنمية والنهضة الزراعية المطلوبة والتي ترضي الله ورسوله فعليكم بوزارة الري احرقوها ودمِّروها كما فعلتم بالسكة حديد إن كان في ذلك خير للسودان وأهله! كل دول العالم تحترم مرافقها الهندسية وتصرف عليها بالمليارات تدريباً ورفعاً للمستويات بالأبحاث العلمية والأجهزة الحديثة لترقية أدائها، لينتفع بها المواطن وينمو اقتصاد البلد فوزارة الري هي الجهة الوحيدة التي تُعنى بالمياه سطحية كانت أم جوفية، فكيف بالله عليكم نقضي على صرح مثل هذا وهو الذي يُعنى بالذي جعل منه المولى كل شيء حي!! أيها السادة أصحاب القرار، إن السياسة هي التي تخضع للعلم، وحتى يحدث العكس فإن الأمور ستقودنا إلى أسوأ مما نحن عليه الآن.. اللهم فاشهد .. الله فاشهد.. اللهم فاشهد!!