بشفافية الحقيقة ونصف الحقيقة واللا حقيقة حيدر المكاشفي هذا عنوان عريض يصلح أن تندرج تحته كل أحوال البلد وقضاياها التي تاهت بين الحقيقة ونصف الحقيقة واللا حقيقة حتى كاد أي شيء فيها أن يصبح هلامي التكوين ثعباني الملمس، حلزوني الملمح، اليوم على شكل وهيئة وغداً على آخر، تتبدل فيه الأحوال والأقوال والمواقف كما يبدل الثعبان جلده وكأن شيئاً لم يكن، إلى أين تمضي البلاد وإلى أي مصير سينتهي بها المسير، هذا ما لا يستطيع التكهن به كائنٌ من كان، فالكل تائه بين نصف الحقيقة واللا حقيقة، والسيد وزير المالية والذي هو أحد نتاجات وافرازات هذا المناخ الملتبس، الملبد بالغيوم قدم بالأمس مثالاً حياً على حالة التوهان بين الحقيقة ونصف الحقيقة واللا حقيقة التي تكابدها البلاد وذلك حين ذكر نصف الحقيقة في معرض ترافعه عن قضية الساعة «مخصصات مدير سوق الأوراق المالية» التي كان بطلها، فنصف الحقيقة الذي يُعد شراً من الجهل الذي قاله الوزير هو أن حرية الصحافة لا تعنى الحصول على أوراق ومستندات بصورة غير شرعية، ومنتهى أرب قوله هنا ان الصحفي الذي نشر تفاصيل عقد مدير سوق الاوراق المالية قد حصل عليه بطريقة غير مشروعة، ونصف الحقيقة الآخر الذي إعتد به السيد الوزير كما يعتد جوزيف جوبلز وزير اعلام هتلر الذي جُبل على خلط الحقيقة بالكثير من الأكاذيب، هو قوله ان قضية راتب ومخصصات مدير سوق الأوراق المالية قضية «إنصرافية».. حسناً، فالوزير لم يكذب، ولكنه للأسف تحدث بنصف لسان وبنصف الحقيقة وبنصف الصدق، فمن عدم كذبه صحة ما قاله حول ان محددات العمل الصحفي وأخلاقيات المهنة ومدونات سلوكيات الصحافيين ومواثيق شرفهم تواضعت كلها على عدم السماح للصحفي الحصول على المعلومات أو الوثائق بطرق غير مشروعة وغير أخلاقية، ولكن يبدو أن من أشار الى الوزير ونفحه هذه المعلومة ليفحم بها قد غرر به والله أعلم ان كان عن دراية أو لجهله هو الآخر بأن هذا المنع مستثنى منه أية معلومة أو وثيقة يترتب على نشرها جلب مصلحة عامة أو دفع ضرر عام ولم تكن هناك أدنى فرصة للحصول على هذه المعلومة أو الوثيقة بالطريق الرسمي، وهل يسلمك المختلس أو الفاسد أو العابث بالمال العام أو المتلاعب بالقوانين ذقنه ويمنحك دليل إدانته بيده، طبعاً وابداً لا، يستحيل أن يمضي المجرم إلى حتفه بظلفه، وما يحسب لصالح نشر عقد راتب ومخصصات مدير سوق الأوراق المالية هو أنه فتح الباب واسعاً للتداول حول بدعة التعاقدات الخاصة في المؤسسات العامة لتولي وظائف في هياكلها وليس لأداء مهمة محددة وفي زمن موقوت ومحدد، ولعل من بشائر النشر أن البرلمان انتبه أخيراً لهذه «الثغرة» التي يمكن أن يتدفق عبرها المال العام «سائباً» وها هو الآن ينوي فتح هذا الملف، أما كون أن هذه القضية إنصرافية فهي قد تكون كذلك لو كان الهدف من إثارتها استهداف مدير الأسواق في شخصه، وليس النظام «السيستم» الذي قنن مثل هذه العقودات، فالمدير كشخص ليس مسؤولاً عن هذا الرزق الذي ساقه الله إليه فهو لم يسرقه أو يختلسه أو يفرضه بالقوة، ثم من أدرانا فربما كانت فعلاً قضية راتب ومخصصات مدير سوق الأوراق المالية التي أطلعنا عليها قضية انصرافية بل وهامشية مقارنة بما لم نطلع عليه من عقودات أخرى سيبدو عقد راتبه ومخصصاته إلى جانبها ضئيلاً وهزيلاً لا يستحق إثارة أي ضجة، وهكذا فان نصف الحقيقة الذي تفضل به الوزير لم ينتهِ بنا الى شيء سوى اللا حقيقة بينما ماتزال الحقيقة غائبة وكامنة في أدراج الوزير ربما إنتظاراً لأبي القاسم آخر وليس بالضرورة أن يكون في المرة القادمة من الحقل الصحفي.. الصحافة