هذا كتاب صغير في حجمه، وكبير في قيمته، ومهم في توقيته، إنه كتاب الدكتور حيدر إبراهيم \"مراجعات الإسلاميين السودانيين- كسب الدنيا وخسارة الدين\". يدخلك الدكتور حيدر في أطروحته منذ السطور الأولى للمقدمة، إذ يصف موقف الإسلاميين السودانيين بالمأساة والانكسار، ويصنفهم مع أبطال روايات شكسبير التراجيدية، منكسرين ومهزومين وضائعين، ..\"خسروا أنفسهم ولم يكسبوا من الدنيا غير أوساخها، المال والعقار، لم يكسبوا الرحمة والمودة والشهامة، ولم يمدحهم الحاردلو: دا إن أداك وكتّر ما بيقول أديت\"، ويا لها من قصيدة هجاء ليس لها ما بعدها. يناقش الكتاب ويدرس مراجعات الإسلاميين السودانيين لتجربتهم، من حيث جديتها وجذريتها، وما إذا كانت وصلت لمكمن الداء؛ أم أنها طافت بالحمى، ثم غابت، واكتفت بالمراثي والمناحات. ويبدأ الكتاب من دراسة دوافع واتجاهات النقد والمراجعة، وإرجاعها لبداياتها في أواخر الثمانينات؛ بصدور عدد من الكتب والدراسات، أهمها كتاب الدكتور عبد الله النفيسي \"الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية\"، وهو واحد من أهم الكتب، ولا يزال، من حيث قيمته الفكرية وتعدد وجهات النظر والآراء فيه. ويعرج لتجربة المراجعات في تونس، وهي تجربة في غاية الثراء بحكم تعدد منابع ومراجع الاتجاه الإسلامي في تونس. وحين يدلف الكاتب لمراجعات الإسلاميين السودانيين، يبدأ من حيث بدأ عبد الوهاب الأفندي بكتابه \"الثورة والإصلاح السياسي\" الصادر عام 1995، ويقدم قراءة عميقة وطويلة للكتاب ولمراجعات الأفندي ومواقفه، يخلص منها إلى ضعف منهج الأفندي في القراءة والنقد والتاريخ، وهو يضعه مع غيره من الآيدلوجيين الذين يحاولون نقد التنظيم الذي خرجوا منه ...\"لكنه لم يخرج منهم\". ويقف الدكتور حيدر عند مراجعة الدكتور التجاني عبد القادر \"نزاع الإسلاميين في السودان: مقالات في النقد والإصلاح\"، والموصوفة عنده بالجدية والرصانة ومحاولات التنظير، ثم التأصيل للنزاع بين الإسلاميين..\" متجاوزا الوصفية إلى المنهجية والاستشراف\". ويبدي الدكتور حيدر إعجابه بعرض التجاني لتداخلات الحداثة والقبلية في العقل والممارسة بين صفوف الحركة الإسلامية، وكيف انتهى النظام ليكون تحالفا بين دوائر ثلاث: القبيلة والسوق والأمن. وينتهي حيدر بوصف أمنية التجاني بالإصلاح وبعث الحركة الإسلامية من جديد بأنها \"غير تاريخية\"، لأن التاريخ لا يعيد نفسه \"خاصة حين يكون قد أعطاك في المرة الأولى الفرصة كاملة\". ثم ينتقل الكتاب لمراجعات المرارة وخيبة الأمل في كتاب المحبوب عبد السلام \" الحركة الإسلامية السودانية: دائرة الضوء..خيوط الظلام\". ويمكن تلخيص نقده لمراجعات المحبوب في جملة واحدة \" مشكلة الإسلاميين بكل فئاتهم وتياراتهم هي سريان البراقماتية، وبالتالي التبريرية والكيل بمكيالين\"، إذ يلاحظ الجهد الكبير الذي يبذله المحبوب لتبرئة شيخه وتياره من مساوئ الإنقاذ في العشرية الأولى، رغم أنهم كانوا جزءا أصيلا منها. ويمر الكتاب بمراجعات غازي صلاح الدين، أو هاملت الإسلاميين كما يسميه، ثم اسهامات الدكتور الطيب زين العابدين، والدكتور حسن مكي والذي يستخدم منهج الغرائبية والواقعية السحرية، وحوارات وكتابات لياسين عمر الإمام وأحمد عبد الرحمن وأمين حسن عمر، بالإضافة لاستشهادات كثيرة بكتاب الدكتور عبد الرحيم عمر محي الدين، والاستاذ وليد الطيب \"مراجعات الحركة الإسلامية السودانية\". وينتهي الدكتور حيدر إبراهيم، حياه الغمام في منتجعه للكتابة بالقاهرة، بفصل تحت عنوان \"هل كان السودان بحاجة حقيقية لحركة إسلامية، ويختم بمآلات المشروع الحضاري الإسلامي. ليس هذا تلخيصا للكتاب، ولا يمكن تلخيصه في هذه السطور، لكنه تحريض على قراءته ومناقشته، فهو يستحق وأكثر، كما أنه صغير الحجم، كبير الفائدة، شديد الأهمية. الاخبار