المشهد السياسي شيزوفرينيا السياسة د. الشفيع خضر سع عندما تمعن النظر في تعامل حكومة المؤتمر الوطني مع تقلبات الفعل السياسي في البلاد، وكذلك تعامل المدافعين عنها في الإعلام من الأقربين و «الخيلان»، قد يتبادر إلى ذهنك، في الوهلة الأولى، أنك تشاهد مسرحية ضعيفة الحبكة في مسرح اللامعقول، أو أن السياسة في السودان أصابها مرض الفصام العصبي «الشيزوفرينيا». ولكنك، سرعان ما ستكتشف براءة مسرح اللامعقول وبراءة مرض الفصام العصبي، وستتجلى أمام عينيك أعراض «الكنكشة» في الحكم وانفراد جهة واحدة بتقرير مصير البلاد، مصحوبة مع ضيق الأفق وسوء الإدارة. ونأخذ عددا من المشاهد لندلل بها على هذه الأعراض: ٭ رغم كل الحديث عن الانفصال السلس للجنوب، والعمل على منع تجدد الحرب الأهلية، والسعي لحل كل المشكلات العالقة بالحوار والتفاوض، اندلعت الحرب في أبيي وجنوب كردفان، ووصل التوتر بين الشمال والجنوب درجة خطيرة جداً، بحيث لا يمر يوم، إلا وتزداد الحالة في البلاد توترا وتصبح الأجواء مشحونة بالقلق وكافة الاحتمالات، وتتجذر لغة العنف والحرب في خطاب الحكومة الرسمي وأفعالها، بما في ذلك استنكارها لمواقف القوى السياسية التي تطالب بوقف اطلاق النار والجلوس لطاولة المفاوضات! فالحكومة لا ترى في موقف القوى السياسية هذه حكمة وتعقلا، بل تراه تخذيلا لأنه لا يدعم موقف الحكومة ضد المتمردين.....! هكذا وبكل بساطة يصرح قادة الإنقاذ.. ثم تأتيك الأنباء من الاتحاد الافريقي بتوصل الطرفين إلى اتفاق بجعل منطقة الحدود بين الشمال والجنوب منطقة معزولة السلاح. ويأتيك الناطق الرسمي لوزارة الخارجية السودانية باقتراح من الحكومة لحل المشكلة الراهنة في أبيي يقول ببقاء القوات المسلحة السودانية شمال بحر العرب وقوات الحركة الشعبية جنوبه، وتبقى في أبيي فقط القوات المشتركة بين الطرفين وشرطة مجتمعية وقوات دولية جديدة من إثيوبيا بدلا من الحالية التي تتهمها الحكومة بعدم الكفاءة، وتعيين إدارة جديدة مناصفة بين الطرفين. وذلك حتى يتوصل الطرفان إلى حل نهائي للمشكلة! وهكذا رجعنا إلى نفس المربع الأول! السؤال: لماذا إذن الحرب والاجتياح وتعميق الجراح والمرارات وتأليب المجتمع الدولي؟ ونعيد إلى الأذهان ما ذكره المندوب الروسي في مجلس الأمن بأن قضية أبيي بعد التاسع من يوليو، أي بعد استقلال الجنوب، لن تظل شأنا داخليا، بل ستصبح مشكلة بين دولتين مستقلتين، مما يعني التدخل الأوسع للمؤسسات الدولية في إطار المواثيق والقوانين الدولية. ٭ منذ أكثر من عامين ونصف العام تستضيف الدوحة مفاوضات بين الحكومة وبعض حركات دارفور، من الواضح أنها كانت مضنية وشاقة، وتخللتها «حردات» ثم تراجعات... والجميع كان ينتظر أو يأمل في توصل الاطراف إلى اتفاق ملزم ينهي المأساة الدارفورية. وانتهى الأمر بأن تحولت المفاوضات إلى مؤتمر سمي بمؤتمر أصحاب المصلحة في دارفور، شاركت فيه الحكومة والحركات المفاوضة وبعض أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني الدارفورية وممثلون عن المعسكرات...الخ. وأعلن أن المؤتمر اعتمد وثيقة السلام التي أعدتها الوساطة لحل مشكلة دارفور حلا شاملا وعادلا. وكل هذا كلام جيد، لكنه لا ينفي الملاحظات أو التساؤلات التالية: - رئاسة المؤتمر قالت إن الوثيقة وجدت تأييداً بالاجماع، واعتبرت أساسا للسلام الشامل في دارفور، وستودع نسخ منها لدى المنظمات الدولية والاقليمية، ثم بعد ذلك ستكون مفتوحة للتوقيع لمن يرغب !! من ينضم لها أهلاً وسهلاً وسيكون الباب مفتوحاً، وقطر دائما بابها مفتوح لمن لم يكن جاهزا للتوقيع الآن. وعند عودته إلى الخرطوم من المؤتمر، أكد د. نافع أن الحكومة تقبل بالوثيقة، لكنه، في تصريحه الصحفي، شدد وأكد بقوة على أن صدور هذه الوثيقة هو نهاية المطاف والتفاوض، ولا مفاوضات بعد ذلك! - الدكتور التجاني السيسي، رئيس حركة التحرير والعدالة، قال أمام المؤتمر: «تجدد الحركة التزامها بالسلام وبما تم التوصل اليه هنا فى الدوحة، وهى على اتم الاستعداد للتوقيع تماماً حال تجهيز الوثيقة النهائية». أما حركة العدل والمساواة، فخاطبت المؤتمر مؤكدة تمسكها بالحل السلمى المتفاوض عليه رغم كل المعوقات، وعددت مطالبها الأساسية حول ما تراه حلا شاملا لأزمة دارفور وأزمة البلاد. - بقية قادة الحركات، خاصة عبد الواحد ومني، لم يشاركوا في المؤتمر. كما وزع محجوب حسين بيانا منتقدا فيه المؤتمر ومخرجاته. أعتقد أن هنالك خللا ما...! وعموما، يتخوف الكثيرون من تكرار سيناريو أبوجا الفاشل مرة أخرى. ٭ خلال فترة الثلاثة أسابيع الماضية، انتظمت، في العديد من العواصم والمدن الأوروبية عدد من اللقاءات حول السودان وأزماته. واللقاءات تمت في مدن بروكسل، برلين، هيرمانزبورج ولاهاي، وهي تتميز بعدة قواسم مشتركة بينها، منها: 1- كل هذه اللقاءات تمت بدعوة وتنظيم وتمويل من جهات غير سودانية: حكومات، جامعات، ومنظمات. 2- شاركت فيها الحكومة والمعارضة، إضافة إلى ممثلين عن بعض المنظمات غير الحكومية السودانية، وكذلك بعض الباحثين والأكاديميين السودانيين والأجانب. وكان مستوى التمثيل عاليا، ومن الصف الأول، كما هو الحال في مشاركة السيد الصادق المهدي، ود. قطبي المهدي، ود. مكي علي بلايل، ود. لام أكول، ود. بيتر أدوك... وآخرين. 3- تقريبا الموضوع واحد في كل اللقاءات، الوضع في السودان، مع التركيز أحيانا على العلاقة بين الشمال والجنوب، والوضع في الشمال بعد استقلال الجنوب، وسبل منع تجدد الحرب. 4- اللغة السائدة كانت لغة الحوار الهادئ المتحضر بعيدا عن أية مهاترات أو «لحس كوع» أو «مطالعة إلى الخلا»؟ بل وفي أحد اللقاءات طلب ممثل الحكومة، قبل اللقاء، من الآخرين بضرورة الاتفاق على عدم الهجوم المتبادل وعدم نشر «الغسيل الوسخ» أمام «الخواجات»، وأهمية أن نظهر أمامهم بوصفنا سودانيين متسامحين..!! 5- على الرغم من أن مخرجات هذه اللقاءات وبياناتها الختامية كانت تعج بالمطالبات الموجهة للحكومة من حيث ضرورة احترامها لحقوق الانسان، عدم تغولها على الحريات الديمقراطية وخاصة حرية التعبير، عدم انتهاكها لحقوق المرأة وحقوق القوميات والإثنيات المختلفة «الدين، الثقافة، اللغة...الخ»، عدم اللجوء إلى لغة السلاح والعنف.....على الرغم من كل هذه المطالبات التي تحمل روح الإدانة للحكومة، لم يعترض أي من ممثلي الحكومة على تلك المخرجات والبيانات الختامية، ولم ينسحبوا من الجلسات أو يقاطعوا اللقاءات..!! كيف نفسر هذه الحالة؟ ألا تحتاج إلى طبيب نفساني متمكن من تخصص جديد في أمراض انفصام الشخصية، لا تلك التي تصيب البشر بل التي تعاني منها سياسات وممارسات الحزب الحاكم في بلادنا؟ بالطبع الأمر أوضح وأسهل من أن نستعين بطبيب، فبكل بساطة هنالك من يعتقد، بكل سذاجة، في عصر الانترنت والفيس بوك والموبايل، أن أسلوب الخطابين، أحدهما للخارج والثاني للداخل، هو قمة الحرفنة والتاكتيك السياسي. ٭ الملاحظ في هذه الأيام، وفي الحقيقة منذ ظهور نتيجة الاستفتاء، علو نبرة أصوات الداعين لقيام دولة أهل القبلة في السودان، والتي وصلت حد أن أحدهم طالب المؤتمر الوطني بتقديم التنازلات في بعض مواقع السلطة، وزارات وولاة ومعتمدين..الخ، لحزبي الامة والاتحادي الديمقراطي، حتى تشكل الأحزاب الثلاثة سلطة ولاية دولة أهل القبلة. والدعوة منطلقها أن السودان أصبح بعد انفصال الجنوب، كيانا عربيا مسلما خالصا. ولا أود هنا أن أحاجج أصحاب هذه الدعوة بمنطق المواقف المعروفة لحزبي الامة والاتحادي والداعية لتأسيس دولة المواطنة الديمقراطية في البلاد، كما لا أود مناقشة جوهر الدعوة مبتدأً، فهذه قد ناقشناها من قبل، ويمكننا إعادة المناقشة مرة أخرى متى ما كان هنالك داعٍ لذلك، ولكن ما أود الطرق عليه هنا، هو أن الدعوة لقيام دولة أهل القبلة تأتي مشحونة بعيار ثقيل من خطاب الكراهية والعنصرية والإقصاء تجاه الآخر، والذي ينفث حقده على كل تفاصيل هذا الآخر، بدءاً من المجموعات غير العربية وغير المسلمة التي يضمها السودان وتتمسك به كيانا لها، إلى المجموعات التي تختلف مع أصحاب الدعوة هؤلاء في السياسة والرأي والفكر، حتى ولو كانت هذه المجموعات تدين بالاسلام، عربية أو غير عربية.!! يا هؤلاء وأولئك، ظل أهل السودان في حالة حرب متواصلة لعشرات السنين، تخللتها فترات مؤقتة من الهدنة لم تكن كافية لالتقاط الانفاس.. وظل بسطاء السودان يبحثون عن السلام المستدام مع كل بارقة اتفاق وإطلالة صباح جديد.. بعد اتفاقية أديس أبابا.. بعد اتفاقية السلام الشامل.. بعد اتفاقية أبوجا.. بعد اتفاقية القاهرة.. بعد اتفاقية الشرق.. ويأملون خيرا في وثيقة الدوحة... ولن يرفضوا أي اتفاق قادم في أية مدينة أو قرية في أي بلد في أية قارة من قارات الدنيا...فقط يأتيهم بسلام دائم ووطن يسع الجميع، يعيشون فوق أرضه وتحت سمائه الملونة بقيم الحرية والكرامة والعدالة والعيش الآمن.. فمالكم تواصلون عشق رقصات الحرق والقتل والصلب؟ نعم.. هي ليست ملهاة أو تراجيديا هزلية في مسرح اللامعقول، وهي ليست حالة من حالات الفصام العصبي أو شيزوفرينيا السياسة، إنها فعلا سمات التشبث بكرسي السلطة، وفق منهج ضيق الأفق والاستعلاء. لكن، إذا كان هنالك من الصفات والتصرفات ما يسند ويؤكد سمة ضيق الأفق تلك، فليس هنالك أي أساس لذاك الشعور الزائف بالاستعلاء والتعالي..!! الصحافة