زاوية حادة رمضان وشجون بدناوية جعفر عباس لا أحمل في ذاكرتي وقائع ذات طعم خاص عن رمضان إلا تلك المتعلقة بطفولتي وصباي في جزيرة بدين، وكان أجمل ما في رمضان البدناوي، أنه كان يكفل لنا نحن الصغار حرية التجوال ليلا، بحيث نستطيع لعب الدكي (الشدة/ حرينا) والكود (شليل) والكدى (الهوكي وكنا نستخدم أعوادا من السنط كمضارب ونواة ثمرة الدوم ككرة)، ففي غير رمضان لم يكن واردا أن نلعب بعيدا عن بيوتنا خوفا من الجن، فاجتياز أي مسافة تفصل بين الأحياء كان يعني المرور بإحدى قواعد الجن، فمثلا في حي فيدي حيث بيتنا كانت هناك مقار للجن في ركن المدرسة الجنوبية وقبة حاجنتود وخلف من منزل مريم ود سوركتي (داية المنطقة)، والأشجار المحيطة بحي سمون من الناحية الجنوبية، وبما ان الجن يخضعون للتكتيف في رمضان فقد كنا نمارس الصرمحة العابرة للأحياء حتى منتصف الليل، وكان الليل ينتصف في بدين في نحو التاسعة مساء، لأن الناس كانت تنام بعد الدجاج بدقائق معدودة أي عقب صلاة العشاء مباشرة. ويا ما مقلبنا أهلنا بأن نقرع الصفيح في نحو العاشرة مساء ونوقظ القوم لتناول السحور، ولم يكن ذلك فقط من باب الشقاوة، بل لنضمن لأنفسنا نصيبا من الشعيرية والرز باللبن، وإلى يومنا هذا افتقد طعم الشعيرية التي كانت تصنع يدويا من القمح كامل القشرة.. فإذا نمنا مبكرا لم يكونوا يوقظوننا للتسحُّر، ولم تكن ظروف ذلك الزمان تسمح بترك «بواقي» الطعام، فكل ما يطبخ يتم نسفه أولا بأول، لعدم توافر إمكانات تخزينه دون تعريضه للتلف، وبالتالي فإن الطفل الذي لا يكون يقظانا عند حلول موعد السحور كان يصحو «محسورا» لتفويت وجبة شهية.. كنا «بطينين»، أي مهووسين بحشو بطوننا ونقضي على كل طعام يوضع بين أيدينا، ولهذا كنا رغم صغر السن نحرص على الصوم أو ندّعي الصوم في كل الأيام ما عدا الجمعة اليتيمة (عشاء الميتين)، ولا أدري لماذا أسموه «عشاء» في حين أنه وجبة يتم تقديها ظهرا «كرامة» لروح الميت.. في بدين كنا نصيح في يوم الجمعة تلك بعبارة أكثر دقة ونحن نطوف البيوت التي تقدم الفتة: ديورين أشاقا.. آنجرين قداقا.. أي عشاء الميتين وغداء الأحياء.. في المدن الناطقة بالعربية كان ذلك اليوم يسمى أيضا «الرحمتات»، و «الحارة» وكان أطفال المدن يطوفون بالبيوت وهم يصيحون: كبريتة، كبريتة ست الدوكة عفريتة (تخيل بجاحة الطفولة فأنت تدخل على سيدة البيت ? ست الدوكة ? طلبا للطعام، ولكنك تضفي عليها أبشع الألقاب).. وكنا نلتقط لقيمات بسيطة من بيوت الفقراء حيث الفتة عبارة عن كسرة مرة مرشوشة بمرق أي كلام، لنترك فسحة في بطوننا للحم الذي يعلو الفتة في بيوت الميسورين.. كنا في عيد الفطر أيضا نتجاهل قبور الفقراء التي كان الأحياء من الأقارب يضعون قرب شواهدها التمر وأصنافا من الكعك التعبان، ونتسابق الى قبور الأغنياء لنجد قرب شواهدها حلوى، وكان أشهر أصنافها هو «ريا» الذي أحسب أنه كان يصنع من السكر المخلوط بشوربة الكوارع فقد كان أكل تلك الحلوى يؤدي الى التصاق الفكين. وبعد دخول حلويات كريكاب وسعد السوق تحسنت حالة الست «ريا». ورغم أننا كنا مزلوعين، إلا أن ذلك لم يكن يعني أننا كنا فقراء، بل لا أذكر عائلة واحدة في بدين كانت تعاني مشكلة في توفير الطعام والملبس والمسكن، كانت الخضروات أينما زرعت ملكا مشاعا، ورغم أن والدي لم يكن مزارعا ولم نكن نملك إلا بضع عنزات لزوم اللبن الخاص بالشاي، إلا أن أقاربنا وجيراننا المزارعين كانوا يزودوننا ? دون أن نطلب ? بالسمن والروب واللبن الحامض.. كان أبي يملك نخلة واحدة تسمى «شاناده» تنتج تمرا حامضا كثير الألياف تعافه الحمير، ولكن كذا «قسيبة» في بيتنا كانت تمتلئ بشتى صنوف التمر الحلو، تردنا كهدايا من هنا وهناك.. وباستثناء السكر والشاي والزيت والصابون كان كل بيت مكتفيا ذاتيا بكل ضروريات الحياة. ورغم أننا في طليعة الدول المنتجة لحركات التحرير إلا أنه فات علينا تشكيل حركة تحرير تطالب بعودة السودان «القديم» بالنموذج البديني أعلاه. الرأي العام