غرس الوطن وهل سنصوم لنفطر على بصلة يا قطبي؟ أم سلمة الصادق المهدي أتى في مانشيت الصفحة الأولى لصحيفة الصحافة الغراء 7 اغسطس 2011 أن المؤتمر الوطني أطلق الخبر الآتي: قرارات وشيكة ستغير شكل الحكم في البلاد. وفي ثنايا الخبر تصريح من رئيس القطاع السياسي في حزب المؤتمر الوطني (الدكتور قطبي المهدي) يتحدث فيه عن ذاك التغيير الذي سيطول الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وقد ورد الخبر دون تفاصيل عن أن القرارات المرتقبة ستعطي اشارات واضحة ومؤثرة تجاه بنية الدولة الجديدة وشكل الحكم وكيفية المشاركة فضلا عن مشاركة واسعة للأحزاب وكيفية ذلك ..الخ الخبر.ثم لم يصبح الصبح علينا حتى أتى تصريح آخر من المؤتمر الوطني هذه المرة على لسان بروف ابراهيم غندور ليناقض ما صرح به قطبي قبل (ما بنات عمه يسمعن بيه!) مصرحا : حول ما نسبته الصحف لرئيس القطاع السياسي بالحزب الدكتور قطبي المهدى بخصوص مقاربة الاعلان عن تكوين الحكومة العريضة اكد امين الاعلام انه لم يتم نقاش هذا الموضوع حتى الآن. ثم نتأكد بأن تصريحات قطبي لا تعبر عن الحزب الحاكم الذي يدير دفة الأمور في البلاد بمراجعتنا لحواره مع أستاذ عادل سيد أحمد الذي نشر في جريدة الوطن وقد كشف فيه قطبي عن أنه لا يجد نفسه في (حزب المؤتمر الوطني) الذي ينحو الى ادارة شأن البلاد بعيدا عن القومية التي تقلصت في نظره منذ نيفاشا وأن خيارات عودته لكندا حسب ما ذكر في الحوار تظل مفتوحة. لا نريد تشريح أقوال د. قطبي المهدي ومساءلته عن متى كان توجه الحركة الاسلامية التي قامت بالانقلاب على الديمقراطية في يونيو 89 قوميا في يوم من الأيام، قبل نيفاشا أو بعدها ولكننا إذ نورد التصريح الذي ناقضه زميله في بكريته نستعجب ونتساءل إذا كان ما يبديه قطبي من ضجر بالحزب الذي ينتمي اليه صحيح مما يشي بأنه مبعد أو مبتعد من مطبخ الانقاذ فلماذا تلك التصريحات التي تبيع الترماج للناس؟ أما كان الأجدى لمن لا يوافق على سياسات الحزب الذي يملك قوت يومه بسببه، كونه موظفا في الدولة تحت رايته لدرجة الضجر من أن نجاحه قليل في ايصال آرائه الناقدة لسياسات حزبه (كما ذكر بشأن نيفاشا مثلا) أما كان الأجدى له والأقرب للنفع أن يسجل ذلك الاختلاف باستقالة مثلا أم يحسب قطبي وأهل الانقاذ أن أهل السودان أغبياء فيتبادلون الأدوار فيما بينهم ويقتسمون الشد والجذب وفي بالهم: سوداني فالعب به!؟ لسنا طبعا أول من رصد تناقض تصريحات الانقاذيين مثل التي أوردنا أعلاه ولن نكون الأخيرين. ذلك أن النهج الذي يسّير الأمور معوج ويعتمد على الغش والانحناء للعواصف حتى تمر والمعالجات قصيرة النظر، فقد جاء في الإعلام منذ زمن أن دان فورث المبعوث الأمريكي السابق للسودان قد رصد شيئا مماثلا وقال أنهم تعودوا على التصريح وضده من أهل الانقاذ حتى لم يعودوا يحفلون بما يقوله الانقاذيون فيما يرسمون من سياسات ولا يأخذونهم مأخذ الجد! ومع ما أوردناه من تضعيف لقيمة ما صرح به السيد قطبي المهدي بشأن ارادة التغيير أو الاتفاق مع الأحزاب لكن المؤكد أن الحاجة للتغيير ماسة ومثل هذه التصريحات حتى وإن أتت متناقضة أو متعارضة انما تكشف عن تلك الحاجة للتغيير التي لمسها أهل الحكم أيضا إذ ثبتت لهم استحالة المضي قدما في ذات الطريق دون مراجعات. لا خلاف إذن بين الناس حكومة ومعارضة في أن (التغيير واجب الساعة) كما ورد في سلسلة مقالات د. امين حسن عمر التي نشرت في السوداني 3 نوفمبر 2011ولو بمنظور خاطيء يصنف المؤتمر الوطني ككبير العائلة الذي يجترح المبادرات للم الشمل مما لا نوافقه عليه مبدأ ومنتهى إذ أننا نرى أن المؤتمر الوطني غير مستحق لمثل تلك النعوت التي تحمده بما ليس فيه ولا نراه حادبا للم الشمل كما يدعي أمين كما نختلف معه في رؤيته الزاهرة لانتخابات ابريل 2010 ونيفاشا . لن نمضي في إغراء تبيين ما يفرقنا عن رؤية د.أمين هنا وقد أفدنا من روح دعوته للتغيير وإن كان منقوصا وعلى مقاس المؤتمر الوطني ولكن الدعوة ذاتها تثبت الململة والحاجة للتغيير. والتغيير واجب رأته المعارضة وخلصت إليه ومعها كل المراقبين حتى المحايدين قبل أمد بعيد، قبل أن تضطر الخطوب أهل الحكم للاعتراف بوجوبه مثلما يرشح هنا وهناك. لكن الخلاف بين الفريقين واسع حول درجة التغيير المطلوبة من حيث الشكل والمضمون فبينما يرى أمثال د. امين حسن عمر والمدافعون عن النظام وهي أيضا الرؤية التي يأتي في إطارها الخبر الذي افترعنا به مقال اليوم: أن التغيير أوجبته استحالة الاستمرار كما كان ولا بد لضمان الاستمرارية من تحوير وتبديل لأن السياسات الخاطئة على مدى العشرين سنة الماضية (قد آتت أوكلها اليوم) بحيث تكالبت على دولة الانقاذ كل موبقاتها ونبتت الأشواك التي غرستها واشتد عودها تريد الفتك بها (حفر ايدها وغرق ليها!). على الجانب الآخر تقف دعوة التغيير التي ترى أن ما يطرحه المؤتمر الوطني للتغيير غير كاف، حتى لو لم يكن (فشنك) كتصريح قطبي السابق أو داخلي يخص حزبه كتصريحه اللاحق الذي كاشف فيه أستاذ عادل سيد احمد (المنشور في الوطن) (بضرورة أن تكون هنالك ثورة داخل الثورة ولتكن البداية بمواجهة مسألة الفساد). أو تلك التصريحات التي نقلت عن الرئيس البشير يقول فيها ان البلاد تمر بمرحلة انتقالية تحتاج لاجراءات استثنائية كما ورد في الصحافة 1 اغسطس وأن البلاد لا تحتمل العمل العشوائي في ظل الامكانات الضعيفة. كل تلك التصريحات تأتي في ظل الاعتراف بقلة الحيلة ولكنها تأتي متناقضة وعلى استحياء وأقل بما لا يقاس مع الطموح وقد بلغ السوء مداه الأقصى. وكلها لا تعدو أن تكون مجرد إعادة تعبئة الخمر القديمة في قوارير جديدة مما لن ينفع في حلحلة قضايا الوطن بل يؤجلها بكتابة الاستمرارية للمؤتمر الوطني دون أن يمنع استمرار تفاعل القضايا المستعرة تحت الرماد بما سينتهي حتما الى (الانفجار العظيم) الذي سيكون هوله هائلا ومهولا على بنية كل الوطن لدرجة ستذهب به جملة واحدة-لا قدر الله. التغيير المطلوب لا بد أن يكون ذا مواصفات خاصة: أولها أن يكون تغييرا حقيقيا يطول الشكل والمضمون والشخوص: أي أن يعاد تشكيل الاطار السياسي على أسس الانتخاب الحر النزيه، بما يضمن مواصفات الحكم الرشيد الأربع: الشفافية، المحاسبية، المشاركة وسيادة حكم القانون. وتغيير بالمواصفات السابقة حتى وان أشرك في معادلته المؤتمر الوطني ضمن خيار الحقيقة والمصالحة (على هدى جنوب أفريقيا) أو ضمن خيارات مماثلة أخرى إلا أنه يتطلب نقلة أساسية في تفكير منسوبي المؤتمر الوطني واعتراف بالفشل وبالجرم مما لا نستطيع أن نرى له دلائل أو مقدمات. بل على العكس من ذلك تأتينا إشارات مضادة نورد لها مثلا في ملفين فقط: السياسي والاقتصادي. بالنسبة للملف السياسي وهو من أهم الملفات التي تقتضي التغيير يأتي تحصيل المؤتمر الوطني فيه صفرا كبيرا وهو الأكثر تشكيكا في مصداقيته ونواياه لأنهم مثلا يتخذون انتخابات ابريل السابقة أساسا مرجعيا للتغيير مع أنها كانت مسخا مشوها عمل على إعادة انتاج دولة المؤتمر الوطني بصورة لم يستطع هضمها حتى المشفقون عليها، أمثال د. عبدالوهاب الأفندي بما أوضحه في مقالاته المقروءة المنشورة في الأحداث ووسائط الكترونية عديدة وكذلك غدرهم بالعهود والاتفاقيات النهج الذي صار فنا انقاذيا خالصا يعلمه كل الناس حتى بات مثارا للتندر. بالنسبة للملف الاقتصادي أيضا لا نرى بوادر لتغيير: من المعلوم عرفا وتجربة أن الاصلاح الاقتصادي ومحاربة الفساد لا يمكن انجازها خارج أطر صحيحة محددة المواصفات ولن يكون هناك كسب في هذا الملف دون اضافات أساسية مثل الشفافية والمحاسبية والمشاركة وسيادة حكم القانون من مباديء الحكم الرشيد وبغير ذلك سيظل الفساد كما هو عليه وتظل النتيجة شديدة الفقرلا يمكنها أن تضمن خضوع الكبار للقانون فلن يحاسب الشريف الذي يسرق بما يسجله المراجع العام الحكومي وليس بتسجيل جهات معارضة كما ستظل المنح والرشاوى مثل الخبر عن تخصيص 5.7 مليار جنيه لنواب البرلمان كدعم اجتماعي من الرئاسة كما ورد في الصحافة في 12 أغسطس (وهو الخبر الذي تم نفيه في اليوم التالي في ذات الصحيفة من قبل رئاسة البرلمان ونورده رغما عن ذلك لأن معرفتنا بالانقاذيين أكدت لنا من قبل مرارا أن ذلك النفي لا يعني شيئا بل هو إثبات!) أو الأولويات الخاطئة بما يصوره المثل السوداني( فراغ من متلها الباعت أمها وكست راجلها )حيث ورد في أحداث 2 اغسطس من أن السودان يمنح القرن الأفريقي 2مليون دولار ويتفوق على السعودية وروسيا في العطاء في وقت فيه تهدد المجاعة البلاد وغيرها من قصص الفساد التي رصدها المتتبعون!. لا شك أن كل ذي بصيص من بصيرة قد انتهى به النظر في مآلات الأمر في دولة الوطن الى نتيجة خلاصتها المفيدة أن القائمين على الأمر اليوم في السودان قد ثبت فشلهم في شتى مناحي الحياة ووجوهها بما لا يجدي معه تلتيق وترقيع. هذه الخلاصة التي تصنف السودان دولة فاشلة تحت إدارة حكامه الحاليين تزامنت كذلك مع ما توصلت اليه محافل علمية أكاديمية مثل ذلك التصنيف الذي أصدرته مجلة (فورين بوليسي) الأمريكية 2010 و التي حددت أن السودان قد أتى ثالث دولة فاشلة في كل العالم وتتخذ المجلة خمس مؤسسات هامة باعتبارها جوهر الدولة وهي القيادة، الجيش، الشرطة، القضاء، والخدمة المدنية لتحكم بها على مدى فشل أو نجاح الدولة قيد البحث وقد وضعت المجلة إثني عشر معياراً لتحديد ما إذا كانت الدولة فاشلة أم لا ونورد هاهنا باختصار: 1 تزايدالضغوط والتغيرات السكانية. 2 حالات لجوء ونزوح داخلي واسعة تتسبب في أوضاع إنسانية معقدة. 3 وجود تراث من الرغبة في الإنتقام الجماعي والمظالم الجماعية والرعب الجماعي. 4 نزوح جماعي حاد وهروب للأدمغة والكفاءات ونشوء الجاليات في المنفي. 5 عدم المساواة في النمو الاقتصادي بين المجموعات السكانية. 6 التدهور الاقتصادي الحاد. 7 تدهور مشروعية الدولة. 8 التدهورالمتصل في الخدمة العامة. 9 تعليق القانون أو استخدامه بشكل عشوائي وانتشار انتهاكات حقوق الإنسان بشكل واسع. 10 أن تعمل الأجهزة الأمنية كدولة داخل الدولة. 11 صعود النخب المتخاصمة. 12 تدخل الدول والقوي الأجنبية . تلك المعايير التي اتخذتها مجلة فورين بولسي الأمريكية (قد لا تجد قبولا كونيا) كما كتب أستاذ محمد عثمان ابراهيم في منتدى الحوار المتمدن وقد يراها البعض ملونة بالرؤية الأمريكية أو الكيل بمكاييل مختلفة تتسامح مع البعض (وتبلع ليه الظلط) وتفتش عن (الغلط) للبعض الآخر(وتحدر ليه في الضلمة) لكن مهما كان التشكك في أغراض مثل تلك المؤسسات فالذي لا يستطيع أحد أن يغالط فيه أو يكثر حوله الجدل أن هذه المعايير الاثني عشر والمؤسسات الخمس التي تعتبرها المجلة جوهر الدولة تصلح لدرجة كبيرة للمقايسة والمعايرة ويستطيع الجميع وضعها على التربيزة ثم استعراضها معيارا معيارا على احداثيات السودان ودون الحاجة لشهادات أمريكية أو غيرها يستطيع الباحث المحايد أن يصل لنتيجة يطمئن لها قلبه تدمغ دولة المؤتمر الوطني بالفاشلة في كل ما يتم استعراضه من معايير. وكما أسلفنا بالقول أن هذا الفشل البادي للعيان يستوجب تغييرا فوريا دون تأخير أو هوادة، ولا تأتي مناورات المؤتمر الوطني التي يلوح بها من حين لآخر لامتصاص الغضب من ضمنه. هذا الغضب المتنامي الذي يحسه كل من يغشى الأسواق، هو المحرك الأساسي للتغيير المطلوب ، حيث صار الناس يتساءلون علنا أما من بوعزيزي يحرق نفسه ليشعل الثورة المباركة؟. وسلمتم الصحافة