الشيخ الغنوشي والهوية الوطنية السودانية!! تيسير حسن إدريس [email protected] . لن أخادع لأقول بأنني من الذين استبشروا خيرا بالفوز الذي حصده حزب النهضة الإسلامي التونسي في انتخابات المجلس التأسيسي الأخيرة والذي جاء بأغلبية مدوية، والسبب هو تاريخ هذه الحركات الإسلامية في المنطقة المترع بالانتهازية والميكافيلية التي ظلت الشريان الرئيس الذي يغذي الدامغ في جسد طغت فيه شهوة السلطة على ما دونها من شهوات، وظلت الهاجس الذي يؤرق منام شيوخها بغض النظر عن الوسيلة المتبعة لإشباع تلك الشهوة، فالغاية تبرر الوسيلة هذا النهج يكاد ينطبق على جميع تيارات الإسلام السياسي حتى حين تختلف الوسائل يظل الخطاب هو نفس الخطاب الذي يبدأ خافتا متزنا تزينه باقة من الشعارات الرنانة عن الديمقراطية وعدم إقصاء الآخر وحرية المرأة وبعد (التمكين) ينقلب الحال وينتهي إلى ما انتهت إليه التجربة الشائنة للنظام الإنقاذ في السودان، دمار في كافة مناحي الحياة وحلقات من الفشل الذرئع تأخذ بعضها برقاب بعض حتى لا يكاد المرء يرى بصيص ضوء في نهاية النفق. أدهشني بحق الشيخ الغنوشي الذي استضافه برنامج (في العمق) على قناة (الجزيرة) بإجابته عن: الأسباب التي أدت لفشل وتعثر تجربة الحكم الإسلامي القائمة في السودان وعن إمكانية تكرار الفشل في تونس؟؟ ..كنت سأحترم الرجل لو حافظ على تقيمه السابق لتجربة الإنقاذ حين قال:( في مقابلة صحافية قبل أشهر عن فشل التجربة السودانية «تحول ذلك المشروع إلى حكم سلطوي قامع، وتحولت طائفة كبيرة من رجاله إلى رجال دولة في حكم مستبد، يزاحم كثير منهم لنفسه ولأسرته على المشاريع التجارية والشركات والمناصب والمصالح، ويبذلون ما بوسعهم للاستئثار بالمصالح والمناصب») أو على الأقل لو قال إن طريقة وصول التيارين الإسلاميين للسلطة في الدولتين مختلفة، فالحركة الإسلامية السودانية أتت إلى السلطة اغتصابا بالليل، في حين جاءت السلطة عروسا طائعة تجر أذيالها لمخدع النهضة التونسية، أي الأولى وصلت لهدفها بخرق الشرعية والانقلاب عليها، في حين أن الثانية ابن شرعي لانتخابات أجمع المجتمع الدولي على نزاهتها، لكن الرجل طرح تقيمه المنطقي السابق والأسباب المعقولة التي أضفناها جانبا وقفز فوقها معللا سبب إخفاق (إخوانه) في السودان بالهوية الوطنية السودانية التي لم تتبلور بعد في مغالطة تاريخية من العيار الثقيل يصعب على المرء تقبلها من رجل مثله يوصف ب (المفكر). استطرد الشيخ المفكر في إجابته لقناة (الجزيرة) قائلا: (هناك فرق كبير بين السودان وتونس فالسودان لم يستطع صياغة هويته الوطنية إلا مؤخرا) وهو يعني أن هوية السودان الوطنية قد اكتملت صياغتها بانفصال الجنوب، وبهذا الطرح يكون الشيخ الغنوشي لم يشذ عن الخطاب والذهنية الاستعلائية التي أسهمت بل قادت السودان لدخول النفق المظلم الذي ما زال يتخبط فيه، هي نفس ذهنية الإسلامي التقليدي المنغلقة والتي تسيطر عليها مغالطة أن الإسلام كعقيدة مرتبط بالعرق، فهو يرى أن السودان بعد انفصال الجنوب الزنجي المسيحي قد نال شرف النقاء العرقي واكتسب الهوية العربية الإسلامية!! قافزا بهذا الطرح السخيف فوق إرث شعب يمتد تاريخه لأكثر من سبع آلاف سنة. لو أمعن الشيخ النظر في كتب التاريخ القديم لوجد أن المؤرخ اليوناني الأشهر (هوميروس) قد تحدث عن اجتماع الآلهة القديمة سنويا بالسودان للاحتفال بعيدهم، كذا لو أعاد النظرة كرة أخرى في المراجع لوجد (ديودورس) قد خلص من أبحاثة التاريخية لنتيجة هامة مفادها أن (السودانيين) هم أول الخلق على الأرض، وأول من عبد الآلهة وقدم لها القرابين، وأن حروف الكتابة قد خرجت من أرضه لمصر القديمة. أو تدبر في الإرث الإنساني الضخم لشعب السودان لما وقع في المحظور، ولما تجرأ على التفوه بهذا الطرح السطحي الفقير لأبسط المعارف والمسلمات التاريخية، وربما لما سقط في فخ التحيز الأعمى لوطنه الذي جعل له السبق في صياغة الهوية الوطنية رغم أن الجميع يعلم مدي الاستلاب الحضاري والثقافي وحتى اللغوي الذي يعانيه شعبه حتى اليوم ، ويجرد بطرحه السطحي أحفاد ملوك (كوش) الذين دانت لهم الدنيا ووصل حكمهم ساحل المتوسط حيث تقبع تونس من شرف الهوية الوطنية!!. ولكن يا سبحان الله يظل خطاب (المتأسلمة) صورة كربونية يتساوى في حمق منطقه الجاهل والمفكر، خطاب قائم على تزييف الوقائع لتخضع -ولو بكسر عنق الحقيقة- للأوهام التي تفترض أن الهوية الوطنية لشعوب المنطقة قد تمت صياغتها بدخول مجاميع المهاجرين العرب للقارة الإفريقية ونشر الإسلام فيها، وفي ذاك مغالطة وتعدٍ سافرٌ على حقائق التاريخ، نربأ بالشيخ المفكر من الوقوع في وحلها. فالشيخ الغنوشي في إجابته على سؤال قناة (الجزيرة) يرى أن هوية السودان الوطنية -وبعد كل هذه التاريخ الحافل الذي أخذنا في عجالة بإطرافه- قد اكتملت صياغتها باكتمال فصول الكارثة الوطنية السودانية الكبرى بتمزيق الوطن وشتات أهله، في عهد (إخوانه جهابذة الإنقاذ) الذين دمروا الهوية الوطنية بخطابهم المتعجرف ومشاريعهم الإقصائية، يوم مكّنوا الشيخ الغنوشي وأمثاله من حمل وثائق وجوازات السفر الدبلوماسية السودانية والتمتع بامتيازاتها ، فأي خطل هذا وأي منطق معوج استند عليه الشيخ (المفكر) الذي يَنتظر منه العالَم ومن حزبه تقديم تجربة حكم إسلامي راشد تزيل عار التجارب الطالبانية الماضية. فيا شيخنا النهضوي الجليل تريث ولا يصيبك ما أصاب (إخوانك) من غرور وظنوا أنهم ظل الله في الأرض وأرجو أن لا يطول الفرح بنتيجة الانتخابات فالعبرة ليست في الوصول للسلطة بل في إدارتها وفي البرامج التي ستنفذ من خلالها لخدمة المواطن وإسعاده وإصلاح شأن الرعية، فنتيجة الفوز بالانتخابات كانت متوقعة ولا تحتاج لعناء في التحليل؛ فالتصويت لصالح برنامج حزب النهضة الإسلامي قد تم في سياق ارتداد مجتمع ظل طوال عقود يعيش تحت وطأة الظلم والإفساد، فَقَدَ خلالها قيمه العليا وسيطرت عليه المشاعر السالبة التي أفقدته الإيمان (بالفكر) الحداثي المستورد والمفروض من السلطات العليا بالقهر دون أن تكلف تلك (السلطة) نفسها عناء البحث عن معادلة تجعل برنامجها الحداثي يتعايش ولا يتصادم مع المخزون الحضاري للمجتمع، فكان من الطبيعي أن يرتد هذا المجتمع مع أول فرصة تتاح له نحو (اليقين) الذي تمثله (العقيدة) والتي يظن المواطن بأن حزب النهضة الممثل الشرعي لها. عموما على الشيخ الغنوشي وحزبه إذا ما أراد لتجربته النجاح الانفكاك السريع من أسر الخطاب الماضوي، والمضي قدما في وضع برامج نهضة حقيقية نابعة من الإرث الحضاري للمجتمع، دون إهمال الايجابي من الانجازات والحقوق المدنية التي تحققت في الفترات الماضية، ويقطع دابر التوجهات السلفية ذات الأحلام والبرامج الواهمة التي لا تمت لروح العصر بصلة، حتى يتجنب الوقوع في الفخ الذي وقع فيه (إخوانه) في السودان، الذين فشل حزبهم طوال ربع قرن من الحكم في إيجاد معادلة توائم بين مشروعه الفكري وواقع الوطن وهويته القائمة تاريخيا على التنوع والتعدد. تيسير حسن إدريس 02/11/2011م