ريال مدريد ينهي خلافه مع مبابي    هل يمكن الوثوق بالذكاء الاصطناعي؟.. بحث يكشف قدرات مقلقة في الخداع    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    سألت كل الكان معاك…قالو من ديك ما ظهر!!!    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أنشيلوتي: فينيسيوس قريب من الكرة الذهبية    حمّور زيادة يكتب: ما يتبقّى للسودانيين بعد الحرب    هجوم مليشيا التمرد الجمعة علي مدينة الفاشر يحمل الرقم 50 .. نعم 50 هجوماً فاشلاً منذ بداية تمردهم في دارفور    عاصفة شمسية "شديدة" تضرب الأرض    مخرجو السينما المصرية    تدني مستوى الحوار العام    «زيارة غالية وخطوة عزيزة».. انتصار السيسي تستقبل حرم سلطان عُمان وترحب بها على أرض مصر – صور    د. ياسر يوسف إبراهيم يكتب: امنحوا الحرب فرصة في السودان    هل ينقل "الميثاق الوطني" قوى السودان من الخصومة إلى الاتفاق؟    كلام مريم ما مفاجئ لناس متابعين الحاصل داخل حزب الأمة وفي قحت وتقدم وغيرهم    الأمن، وقانون جهاز المخابرات العامة    مرة اخري لأبناء البطانة بالمليشيا: أرفعوا ايديكم    تأخير مباراة صقور الجديان وجنوب السودان    الكابتن الهادي آدم في تصريحات مثيرة...هذه أبرز الصعوبات التي ستواجه الأحمر في تمهيدي الأبطال    شاهد بالصورة.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بأزياء قصيرة ومثيرة من إحدى شوارع القاهرة والجمهور يطلق عليها لقب (كيم كارداشيان) السودان    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    بالصور.. معتز برشم يتوج بلقب تحدي الجاذبية للوثب العالي    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رداً على دعوة توفيق عكاشة لاستعمار السودان : الخراف لا تعود للقصَّاب إلا لتنتقم.!ا
نشر في الراكوبة يوم 25 - 11 - 2011


رداً على دعوة توفيق عكاشة لاستعمار السودان...
الخراف لا تعود للقصَّاب إلا لتنتقم!
طلال الناير
[email protected]
تذكير:
رأى آلآف المشاهدين قناة \"الفراعين\" الفضائية المصرية وحديث السيد/ توفيق عكاشة؛ المرشَّح لرئاسة الجمهورية في مصر. شاهدنا توفيق وهو يتحدث عن تفاصيل برنامجه السياسي وخططه في حال أصبح رئيساً للجمهورية. وأود في هذا المكتوب أن أعلِّق فقط على الجزئية التي تختص بالسودان في برنامج المرشح المصري الخاصة والتي يمكن تلخيصها في عدم اعترافه بوجود دولة في الأصل تسمى بالسودان، وعدم اعترافه بالرئيس السوداني ولا أي نظام دولة في السودان الذي يفضل تسميته ب(جنوب مصر). ويقدم السيد/ عكاشة دعوة صريحة بضرورة عودة (جنوب مصر إلى شمال مصر) مهما كان الثمن!
[VIDEO=http://www.youtube.com//v/oRN5Lxn8fpQ]WIDTH=400 HEIGHT=350[/VIDEO]
مدخل:
التاريخ ليس حالة وصفية، إنه أقرب للتحليل وفهم الأسباب؛ أو كما قال \"هيجل\" الذي اعتبر التاريخ جزءاً من الفلسفة، والتاريخ بالأهمية التي جعلت الفيلسوف \"آرنولد توينبي\" يعكف على إنشاء \"فلسفة التاريخ\": التي هي فلسفة كاملة تفسر صعود وسقوط كل حضارة بتواتر عامليْ التحدي والاستجابة - أو كما أعتقد، وما أحوجنا إلى ذلك في يومنا هذا.
إن التاريخ أكبر وأكثر تعقيداً من حصره في اصطلاح \"التعريف بأزمنة الرجال وأحوالهم فيها، ووقائع الزمان من حيث التعيين والتوقييت\". فالتاريخ يتطلَّب الحقيقة كما هي، وليس الحقيقة كما تجب أن تكون، أو الحقيقة كما نحب نحن أن تكون.
إن علم الميتودولوجيا وُضع للتثبُّت من الحقائق التاريخية وعرضها، وهذا العلم الذي أرساه المؤرخ الألماني \"برنهايم\" وتبعه الفرنسيان \"لانجلو\" و\"سنيوبوس\"، أراد به أن يكون التاريخ فاصلاً بين العلم الحق والعلم الزائف، والعلم الحق هو العلم بالأسباب، ولا يرقى التاريخ إلى مصاف العلم إلا بتوفر هذا الشرط، شرط \"العلم بالسبب\"!!
وهذا ما أراده ابن خلدون لمقدمته المشهورة أن تكون للحكمة صواناً وللتاريخ جراباً، هذا التاريخ الذي رأى فيه الرئيس الأمريكي \"ولسون وودر\" أنه من الأهمية بحيث جعل من معرفة الإنسان بالتاريخ مقياساً ل\"جنتلمان\"، الذي قال عنه ذات مرة: \"على الرجل الجنتلمان أن يعرف تاريخ العالم منذ بداية الكون ونشأة الحضارة حتى الآن، وأن يعرف التاريخ السائد من الفكر، وأن يعرف علماً من العلوم\".
تدوينة إلى توفيق عكاشة وآخرون:
كنوع من المجاملة، وجس النبض، يتم طرح شعارات مشروع (وحدة وادي النيل) كلما تحسنت العلاقات الدوبلوماسية بين مصر والسودان، أو في المناسبات المشتركة بين السودانيين والمصريين، ويستند دعاة هذا المشروع إلى وجود كيان سياسي ربط بين مصر والسودان في فترات متقطعة من التاريخ يحب البعض الابتداء من عهد الفراعنة والكوشيين، والغزو العربي الإسلامي للسودان، مروراً بالاحتلال التركي المصري للسودان وانتهاءً بعودة المصريين بصحبة البريطانيين لحكم السودان في الفترة من 1989م إلى 1956م، وهي الفترة التي نعرفها كسودانيين باسم \"الحكم الثنائي\"!!
رفع علمي دولتي الحكم الثنائي علي قصر الحاكم العام في الخرطوم في يوم 4 سبتمبر 1898
في العهد الحديث، دخل المصريون كوكلاء للأمبراطورية العثمانية فقام \"محمد علي باشا\" بغزو السودان طمعاً في الذهب والرجال الأقوياء، وأرسل جيوشه بقيادة ابنه \"إسماعيل باشا\" الذي قُتل حرقاً مع جنوده في حريق شندي الشهير، وعندها أرسلت مصر حملة (الدفتردار باشا) الانتقامية التي أثخنت السودانيين وأعملت فيهم تقتيلاً وأسراً على طول مجرى النيل وصولاً إلى كردفان!!
محمد علي باشا
بعد أن دانت السيطرة للغزاة الجدد على البلاد، وضح الجهل البيِّن للمصريين والأتراك بالسودان وأحواله وأهله؛ ففي عهد سلطنة الفونج كان نظام الحكم يقوم على القبائل والمشيخات التي يحكمها أحد أفرادها إما بالوراثة أو بالتزكية، وأثقلوا كاهل السودان وأهله بالضرائب، وكان الباشبوزق يعذبون كل من يتأخر في سداد الضرائب والجبايات، فانشغل نظام الدولة بجباية الضرائب الفادحة بنهم وجشع، وسَلَب مقدرات القبائل وأنهكها. وقد ذكر \"بروكهارت\" في كتابه (الدولة والنظم الاقتصادية): \"الباب العالي في الإستانة يطلب الموارد ولا شيء سواها، ولكي يتسنى للباشا إشباع هذه الحاجة فإنه يعمد إلى إرهاق الشعب ووضع الأعباء الثقال على عاتقه. أما الباشا الذي يريد خيراً بالشعب ويقنع بالإيراد العام فإنه بلا ريب يجلب على نفسه سخط مليكه، لا لأن عدالته تمنع المليك من النهب ومن نقل جانب ما ينهب إلى الديوان، وإذا أراد الباشا أن يُبقي على نفسه فليس أمامه إلا من سبيل إلا أن يسلم رعاياه البائسين إلى عصا المستبد. وكان الارتقاء عن طريق الرشوة والسرقة، فكانت الرشوة الطريق إلى قلب السلطان، وكان الباشا الذي يريد خيراً للشعب يجلب على نفسه سخط مليكه\".
ويذكر الأستاذ/ السني بانقا في كتابه (أضواء على النظام القبلي في السودان) بأن المصريين والأتراك كانوا يجهلون طبيعة أهل السودان وغير مدركين حتى لماكينيزمات الاقتصاد المحلي الذي يمثل قمة هرم اهتماماتهم، فكانوا مثلاً يطالبون السكان بدفع الضرائب نقداً على عكس السكان المحليين الذين كانوا يفضلون نظام المقايضة والتعامل بالذرة والدمورية بدلاً من النقود وذلك لأن الريالات المتبادلة بين الناس كان قليلة ولا توجد أسواق كافية للبيع!! عندما لعب المصريون والأتراك دور المستعمر البغيض بدلاً من الأخوة في الإسلام أبانوا للسودانيين أنهم حتى يفتقرون حتى لمعلومات أولية وأساسية عن البلد التي يحكمونها ناهيك عن امتلاكهم لفلسفة أو منهج واضح لإدارة البلاد. ولم يراع الغزاة الجدد روابط الإسلام الذي يدعي السلطان العثماني ووكلائه من المصريين أنهم حماته، ولا تزال تلك الحقبة المظلمة محفورة في أذهان السودانيين بكل ماضيها الأليم، فبانت في بعض أمثالهم الشعبية، وأشهرها \"زولين في تربة ولا ريال في طلبة\" الذي ضُرب لتبيان شكوى السودانيين وكراهيتكم لحكم المصريين والأتراك الذي قتل من الشعب الآلاف المؤلفة وأذل من بقي على قيد الحياة منهم وأجبرهم على دفع الضرائب، فضرب السودانيون المثل ليقولوا أنهم يفضلون الموت على هذا الحكم البغيض!!!
جدارية للنحات السوداني (سباعي)
وصل صلف الحكم التركي المصري حداً لم يستطع بعده السودانيون الاحتمال بسبب فداحة الضرائب وتفشي الفساد والشكوى من ظلم وقسوة الباشبوزق! وقد ذكر المؤرخ \"نعوم شقير\" أن الجنرال الإنجليزي \"تشارلز غوردون\" قال إن المحرك الأساسي للثورة المهدية ضد الحكم التركي المصري لم يكن دينياً من الدرجة الأولى بل كان المحرك الرئيس هو الغضب الشعبي من الضرائب وقسوة وجشع المسؤولين وعسكرهم وفساد نظام الحكم. وقال إن الدين لم يكن إلا الغشاء الخارجي لهذه الثورة الشعبية التي أزاحت الحكم التركي المصري، مؤقتاً، وذلك عقب سقوط مدينة الخرطوم يوم 25 يناير 1885م ومقتل \"غوردون باشا\"، وليظل السودان دولة مستقلة لفترة قصيرة ما بين عامي 1885م إلى 1898م.
محمد أحمد المهدي
دخلت الجيوش المصرية السودان مجدداً، ولكن هذه المرة برفقة الجيوش الإنجليزية السودان للقضاء على الدولة المهدية التي يقودها \"الخليفة عبد الله التعايشي\". وكان الصدام الكبير والحاسم في معركة كرري في يوم 2 سبتمبر 1898م التي سقط فيها أحد عشر ألفاً من الأنصار، وجُرح فيها ستة عشر ألفاً من جراء القصف المدفعي العنيف والبنادق الحديثة التي كان يتسلح بها الجيش الإنجليزي المصري في مقابل جيش بدائي لا يمتلك إلا الحراب والسيوف الصدئة، ويمتلك الشجاعة والإقدام. كرري هي المعركة التي ذكرها رئيس الوزراء البريطاني \"ويلسون ترتشل\" في مذكراته المعنونة ب(حرب النهر) التي حكى فيها عن حياته كجندي في الجيش البريطاني وذكر عن شجاعة السودانيين في إحدي رسائله المنشورة في كتاب (:Young Winston's Wars: Original Dispatches (1897 -1900)) :
\" لقد كان الدراويش أشجع من مشي على الأرض. و تولد عندي إيمان راسخ بأنهم طلبوا الموت بشرف وعزة وكرامة تماما كما فعل جنودنا. قد تكون تلك فكرة تفتقر إلي الأصالة أو قد تكون فكرة مكذوبة، بيد أنه من المؤكد أنها فكرة لم تكن لتلاقي أي إستحسان عند جيشنا! \"
لوحة تصور معركة كرري
بعد عودة المصريين للسودان، ولكن هذه المرة بصحبة الإنجليز. انتهت الدولة المهدية بعد مقتل \"التعايشي\" في معركة أم دبيكرات في يوم 24 نوفمبر 1898م، بعدها شرع الحُكام الجُدد في تقاسم الغنائم، ولم تكن مسألة سيادة السودان بائنة أول الأمر ولم تُثر القضية إلا بعد بدء النزاع بين المصريين والإنجليز وضرورة \"فرز الكيمان\" حول المسائل الاقتصادية والنقاط الإستراتيجية، فمصر تود تحسس مواضع وجودها وذلك بعد انفصالها من الإمبراطورية العثمانية التي سقطت على يد مصطفى كمال أتاتورك في العام 1922م. أما بريطانيا فقد أحست بضرورة تحديد وضع المستعمرة الجديدة خاصة بعد مقتل سردار الجيش المصري وحاكم السودان \"السير لي ستاك\" في أثناء زيارته للقاهرة في 19 نوفمبر 1924م والتي أعقبها ثورة اللواء الأبيض.
اعتبرت بريطانيا أن مصر دولة مستقلة منذ 28 فبراير 1922م، وقامت لجنة الدستور المصري بتقديم توصية أصبح بعدها لقب الحاكم المصري يلقب ب(ملك مصر السودان)، وأوصت لجنة الدستور كذلك بوضع \"نظام أصلي\" لتسيير إدارة السودان وهو الشيء الذي ماطل فيه المصريون حتى العام 1951م عندما قدم (الملك فاروق الأول) قانون الحكم الذاتي الذي رفضه البرلمان يوم 25 أكتوبر 1951م.
اجتمع الحكام الجدد لتقسيم تركة السودان، فجلس قنصل بريطانيا في مصر \"اللورد كرومر\" مع وزير الخارجية المصري \"بطرس غالي\" في يوم 19 يناير 1899م فقاموا بعقد \"اتفاقية غالي – كرومر\" ذات ال12 مادة التي تتناول توضيح حدود السودان، ورفع العلمين البريطاني والتركي في كل أنحاء السودان مناصفة، وتحديد كيفية سن القوانين، وتحديد الرسوم الجمركية، وتبيان الأحكام العرفية وحدود تفويض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية للحاكم العام وطريقة تعيينه. ومن نقائص هذه الاتفاقية أنها لم تحدد مدة زمنية لانتهائها، وهذا ربما يرجع تفسيره إلى أن \"اللورد كرومر\" كان يرمي إلى ضم السودان إلى الإمبراطورية البريطانية، خاصة أن مصر قامت بإخلاء السودان في عهد \"نوبار باشا\" في 15 يناير 1884م تحت ضغط جيوش المهدي وأنصاره. وقد بلغ المؤرخ المصري \"عبد الرحمن الرفاعي\" من التطرف بأن ذكر في كتابه (مصر والسودان) أن هذا الإخلاء تسبب في ضياع نصف الإمبراطورية المصرية. ولا أحسب نفسي مبالغاً في وصف \"الرفاعي\" بالتطرف إذا عرفنا بأن رأيه هذا جاء في العام 1953م، أي بعد عام من اعتراف مجلس ثورة 23 يوليو بسيادة السودان!!!
أعضاء مجلس ثورة 23 يوليو
تجاهلت الاتفاقية سيادة السودان باعتباره - نظرياً وعلى الورق - خاضعاً للسيطرة المصرية التي تمثل السلطنة العثمانية بالوكالة ذلك منذ غزو جيوش \"إسماعيل بن محمد علي باشا للسودان\" عام 1820م، ولكن هذا الوضع تغير بعد أن عزلت بريطانيا الخديوي عباس وإعلانها مصر \"محية بريطانية\"، وعندها طلب الوطنيون المصريون بالسيادة على السودان باعتباره (ممتلكات مصرية)!!! مصر الدولة كانت تنظر للسودان دوماً كمورد هائل للمياه ومساحة ضخمة للأرض تمثل ملاذاً للباحثين عن حل لمشكلة الانفجار السكاني الذي لا يتناسب مع محدودية الأراضي الزراعي التي تبلغ مساحتها سبعة ملايين فدان تتضرر كل عام بحموضة التربة التي زادت بعد إنشاء السد العالي.
وحتى عندما أدرج نص عن السيادة في \"معاهدة الشرف\" الموقعة بين مصطفى باشا النحاس و\"السير مايلز لامبسون\" عام 1936م، كان نصاً ضبابياً مبهماً. وعلى إثر ذلك قام رئيس مؤتمر الخريجين السيد إبراهيم أحمد برفع مذكرة نيابة عن الشعب السوداني عام 1939م يطالب فيها بضمان حق تقرير المصير لكامل حدود السودان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالطبع لم تجد المذكرة التأييد من الحكومة بحجة أن معظم المطالب التي وردت تمس وضع السودان السياسي والدستوري، التي ارتكزت على اتفاقيتي الحكم الثنائي ومعاهدة الشرف والتي لا يمكن تغييرهما إلا باتفاق مشترك بين مصر وبريطانيا، ولكن مؤتمر الخريجيين أفلح في عقد جبهة موحدة للأحزاب السودانيية لتعديل معاهدة 1936م. لاحقاً أصبحت رغبة السودانيين الصريحة في الاستقلال أكبروهم الذين رفضوا قرار الملك فاروق بوضع دستور خاص بالسودان عام 1951م وهو القانون الذي رفضته الجمعية التشريعية على لسان السيد/ ميرغني حسن الزاكي: \"إما حرية مطلقة... وإما الموت في سبيل الحرية.. فلا سلوى إلا في الممات... ولا استسلام إلا بعد الموت!\".
وتمثلت قمة موجة الاستقلال في اجتماع القوى السياسية في أم درمان في دار الحزب الشيوعي السوداني \"الجبهة المعادية للاستعمار حينها\" وكانت تضم حزب الأمة والحزب الجمهوري الاشتراكي وشخصيات مستقلة وشخصيات عمالية. وقد طالب الجميع بالاستقلال التام من الحكم الإنجليزي المصري، وعندها تم تكوين الجبهة الاستقلالية التي انضم إليها لاحقاً حتى الأحزاب التي كانت تنادي بالوحدة مع مصر مثل الحزب الوطني الاتحادي برئاسة الأزهري، وأيضاً الحزب الجمهوري الاستقلالي الذي أسسه ميرغني حمزة وخلف الله خالد وأحمد جلي. بعدها وقَّعت كل القوى الوطنية السودانية على الميثاق الوطني وتعديل مواد اتفاقية 12 فبراير 1953م الخاصة بتقرير المصير. وهذا الشيء قطع خط الرجعة وأقفل باب الاتحاد مع مصر تحت أي مسمى من المسميات؛ خاصة بعد إعلان الاستقلال من داخل البرلمان بالإجماع في 19 دسمبر 1955م وتنكيس العلمين المصري والبريطاني من سارية قصر الحاكم العام والذي يسمى الآن بالقصر الجمهوري.
تنكيس العلمين البريطاني والمصري ورفع علم الأستقلال
ما دعاني للكتابة بشأن دعوة السيد/ توفيق شاهين مرشح رئاسة الجمهورية في مصر لإعادة احتلال السودان هو أن هذه الدعوة الجديدة/ القديمة تأتي من شخص يُحتمل – نظرياً على الأقل – أن يصبح رئيساً لدولة جارة، وهو مرشح رئاسي يضع في برنامجه الانتخابي إعادة احتلال السودان كأولوية بالنسبة له، ولمصر كذلك. وأنا آخذ حديثه مأخذ الجد ولن أعتبره \"معتوها\" على حد وصف مانشيت إحدى الصحف السودانية. بصفة شخصية يمكنني أن أصف مشروع (وحدة وادي النيل)، أو أي مسمى للوحدة القديمة بين مصر والسودان بأنه مشروع استعماري يهدف إلى نهب ثروات السودان وتقويض استقرار شعوبه المتعددة الثقافات والمتمايزة عن الثقافة المصرية بشكل لا لبس فيه، ويرمي ذلك المشروع إلى التغيير الديموغرافي القسري للبلاد عن طريق الإحلال والإبدال. ويمكنني أيضاً أن أصف بعض دعاة هذا المشروع بالعنصريين، خصوصاً من جانب السودانيين (المصريين الجنوبيين كما في تعريف توفيق عكاشة)، فقد يكون البعض قد سمع بأن توطين المصريين في الولاية الشمالية يهدف إلى إحداث موازنة سكانية بين العرب والأفارقة وتقليل نسبة الهجرات القادمة من غرب أفريقيا، والعهدة على راوي الحديث المنسوب للمسؤول السوداني الكبير في إحدى الندوات بالقاهرة! وقد يكون للمشروع أهدافاً أقل ضرراً، يمكنني أن أسميها بالأهداف التجميلية التي ترمي إلى (تحسين النسل السوداني) كما يدعو صاحب المنبر الشهير!
اللوحة: طلال الناير
لا أدري لمَ يُصر بعض المصريين على ارتداء أقنعة المستعمر القديمة وهم لا يدرون أن عقب كل محاولة لصب الخمر القديم في القوارير الجديدة فإنهم يعيدون تذكيرنا بأنهم لم يأتوا للسودان إلا بصحبة المستعمر، وأنهم يقومون بانتهاك حق الجوار ودوماً يصبحون عوناً للغزاة وأدوات لإرهاب وتعذيب السودانيين. وحتى بعد أن نالت الدولة المصرية الحديثة استقلالها من بريطانيا، ولاحقاً سقوط الحكم الملكي لم تقم الحكومات المصرية في السودان إلا بتقويض الحكم الديموقراطي الذي يمثل تهديداً لوجودها؛ فهي أنظمة عسكرية تحكم الشعب المصري بالحديد والنار وهي حكومات شمولية لا يسرها وجود حكم ديموقراطي قد يكون ملهماً للمصريين وحاثاً للانتفاض على الحكومات العسكرية المتعاقبة.
الشموليات المصرية لا يريحها وجود ديموقراطية سودانية في الجوار لتشكل مهدداً لمصالح الدولة المصرية في مياه النيل الذي تحتكره باتفاقيات منذ عهد الاستعمار وتأبى تغيير النسب غير العادلة بين دول حوض النيل، والدولة المصرية قد رفعت بيارق الحرب في وجه أي دولة تتحدى التقسيم القديم للمياه. وأنا هنا لا أعني موقف مصر من اتفاقية مياه النيل حديثاً وتهديدها بشن حرب ضد أثيوبيا إن هي أكملت سد الميللينيوم وتوعُّد حكومة الرئيس المخلوع حسني مبارك لكينيا بالهجوم العسكري إذا قامت بالانتقاص من حصة مياه مصر، بل أتحدث عن موقف مصر التاريخي من أي دولة تهدد حصتها في النيل. فقد نشرت صحيفة الميدان (لسان حال الحزب الشيوعي السوداني) في عددها ليوم 22 يناير 1988م تقريراً سرياً مسرباً صادر عن المخابرات المصرية مفاده أن مصر سوف تقوم بتغيير أي نظام حكم في السودان يحاول التأثير على حصة مصر من مياه النيل، وهي مصر ذاتها التي غذَّت غضب تيار الاستقلال بتغوُّلها علي حصة السودان الضئيلة أصلاً عام 1929م والتي بلغ نصيب السودان منها أقل من 1:22 من نسبة مصر. هكذا كانت قسمة المصريين لأشقائهم السودانيين الذين يودون إقامة وحدة وادي النيل معهم! هل هكذا يجب أن يتعامل (شمال مصر) مع (جنوب مصر) يا توفيق عكاشة؟
مصدر الصورة هنا
السيد/ توفيق عكاشة يدافع عن ما يعتبره (الحق التاريخي) لمصر في السودان، ولا أظن بأن المرشح الرئاسي المصري قد
قرأ شيئاً من تاريخ السودان، أو جنوب مصر كما يحب تسميته، فإنْ فعل لكان قد أدرك بأن \"إسماعيل باشا\" قد قتله صلفه وغروره وإهانته للسودانيين، ولعل ابن محمد علي باشا قد أدرك وهو يحترق في شندي بأن السودان ليس جنوب مصر، وأن نظرية عجلة التاريخ قد تكون صحيحة، فالبشر يكررون أخطاءهم، وكذلك غباءهم، فيعيد التاريخ نفسه مرة على هيئة ملهاة، ومرة على هيئة مأساة!
عكاشة يتبنى منظوراً استعمارياً قديم الطراز لا يرى في السودان إلا دولة مارقة ومنشقة ومتمردة على السيادة المصرية، ويجب عودة الخراف الضالة إلى الحظيرة. الإنجليز في خاص لغتهم يطلقون على الشخص المتمرد والمارق عن الجماعة اسم (Black Sheep)، أي الخروف الأسود، وللمفارقة فنحن أيضاً \"سود\"، وبحسب مفهوم عكاشة فنحن متمردون على السيادة المصرية، والتمرد يستدعي رفع العصا لمن عصى. يريد عكاشة عودة الخراف السودانية السوداء إلى الحظيرة المصرية؛ حيث القصاب بالانتظار، ولكن ما لا يعلمه عكاشة هو أن الخراف المتمردة إذا هربت من القصاب فإنها لا تعود إليه، وإن رجعت فإنها لا تعود إلا للانتقام!
الرسام مجهول بالنسبة للكاتب
http://tnayer.blogspot.com/2011/11/blog-post_25.html


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.