إليكم مكتبة عامة في قلب عاصمة ..!! الطاهر ساتي [email protected] ** يقع مقر المحلية في قلب عاصمة الولاية، وليته ما وقع في هذا القلب ..مباني المقر محض أطلال جدارانها لم تنعم بالطلاء منذ افتتاح أول مصنع بوهيات في العالم الثالث، والشوارع التي تمر بجوار المقر بحاجة الي لوحات تشير للسائق بأنها شوارع يجب أن يسلكها وليست بحفر عليه تجنبها..والمدهش أن بجدران هذه الأطلال المسماة - مجازا - بمباني المحلية تحذير حكومي ينبه المارة بخط كوفي أنيق ( ممنوع التبول هنا)، ولأن الأنعام لا تعرف القراءة ظلت الأغنام والحمير تستظل بظلال جداران تلك الأطلال وتخالف ذاك التحذير طوال ساعات النهاروبعض ساعات المساء، ولذلك اقترحت لصديقي باكاش بأن يقترح لسادة المحلية بفتح فصول محو الأمية لتلك الأغنام والحمير لتتعلم بحيث لاتخالف عقولها محتوى ذاك التحذير..تمثال لعثمان دقنة يقف في الركن الجنوبي الغربي لهذه الأطلال، تمثال منكوب جدا ولو كان فيه مثقال ذرة من الروح لهرب من ذاك الركن المظلم الذي جدرانه تجذب كل أكياس المدينة وأوارقها التالفة..هكذا كان قلب عاصمة البحر الأحمرعندما كان بدوي الخير وأبوعلي المجذوب وحاتم الوسيلة ولاة بتلك الولاية..!! ** مررت يوم السبت الفائت بذاك المكان .. لم أجد التمثال ولا الركام المسمى آنذاك - مجازا - بمقر المحلية، فسألت شقيقي عن التمثال فرد بسخرية أهلي : ( إحتمال فرضوا عليه رسوم وقفة وقام شرد )، فضحكت وإستاذنته للدخول إلى حيث تشير إحدى اللوحات..اتجاه اللوحة كان يشير سابقا الى حيث تلك الركام المسمى بمباني المحليه، ولكنه اليوم يشير إلى ( المكتبة الولائية العامة)..دخلتها متوجسا، بحيث لم اكن متحسبا لشراء الكتب، خاصة أن أسعار الكتب في بلادي أغلى من أسعار الأسلحة والمخدرات..وكنا ولازلنا وسنظل نطالبك ياوزير المالية بإعفاء مدخلات صناعة الوعي والمعرفة من أثقال الجمارك والضرائب والرسوم والأتاوات، ليصبح إقتناء كتاب أيسر وأفضل من إقتناء بندقية كلاشنكوف..نعم، فالخرطوم التي كانت تقرأ - ما تؤلفها القاهرة وتطبعها بيروت - لم تقرأ غير أعداد القتلى والجرحى بمسارح العمليات ثم أعداد الضحايا واليتامى بدار المايقوما ومصحة كوبر ..!! ** المهم..دخلت تلك المكتبة العامة، مساحتها واسعة وحولها خضرة وشجيرات في أولى مراحل النمو..بعد ساعة وثلثها من التجوال في ردهات طابقها الأرضي والتأمل في عناوين الإصدارات، شعرت بالرهق ونويت المغادرة مع الأمل بأن أعود إليها مرة أخرى لإقتناء ما تيسر خصما من بند إحدى الضروريات، ويا لبؤس الزمان والمكان حين يصبح فيهما شراء الكتاب ترفا لايقدم عليه إلا هواة الكماليات ومن يصفونه ب( زول ما مسؤول).. قبل مغادرة المكتبة محملا بكل الحزن، دثرني حب الإستطلاع وجنون الصحافة ، فسألت أحدهم - من مصر الشقيقة - عن سعر كتب اخترتها بتوجس، فأجابني بسعر لم أصدق رقمه إلا حين أعاده كرره للمرة الثانية، وأزال دهشتي قائلا ( ما تستغربش، أحنا عاملين تخفيض 50%، علشان الولاية أدتنا المحل ده ببلاش لغاية شهر فبراير)..واتخذت كلمة( بلاش) مدخلا لكشف أسرار هذا المكان الغريب، اذ لم يصدق العقل بأن قاموس جهة حكومية في السودان لاتزال تحتفظ بمفردة (المجان) وتستخدمها في تعاملها مع الناس ..!! ** نعم والله..هي مكتبة للعامة، بمعرضها اليوم (4500 عنوانا)، لإصدارات تطبعها وتوزعها دور نشر بالقاهرة والاردن ولبنان والكويت والسودان أيضا..حكومة الولاية تدعم تلك الإصدارات بحيث يكون العرض مجانا باحدى مبانيها مقابل أن تُخفض هذه المجانية سعر الكتاب بنسبة (50%)..هذا أمر عجيب، بل دعم الكتب لايقف عند حد التنازل عن قيمة إيجار قاعة العرض فقط، بل يمتد الى حيث مد تلك القاعة والأخريات بالكهرباء والمياه مجانا أيضا..ولهذا الكتاب الذي سعره بمكتبات الخرطوم - وكل السودان - عشرين جنيها، يرقد هناك بنصف ذاك السعر..شكرت البائع وحكومة الولاية واقتنيت كتبي بسعادة وصعدت نحو الطابق الاول، وإذ بقاعة بذات مساحة قاعة الطابق الأرضي هناك.. وجدت عند مدخلها ما يلي ( قاعة إطلاع، ممنوع الإزعاج، دع الكتاب على الطاولة بعد قراءته)، وغيرها من الإرشادات التي ترغمك بأن تكتم أنفاسك قبل دفع الباب برفق..القاعة تفيض بالناس،ومع ذلك لاتسمع همسا..طلاب يلخصون درسا ويتهامسون مع بعضهم، وعلى الطاولة الأخرى طالبة نصف وجهها بين صفحتي كتاب ولا تشعر بما حولها ولو كانت حربا، و..و.. بين كل طاولة وطاولة، طاولة أخرى مزينة بالأزاهير..الأناقة هي التي تميز المكان، وكذلك الإضاءة و أرتال الكتب تغطي جدران القاعة من كل جوانبها، ثم .. الهدوء .. !! ** سألت أحدهم عن سعة القاعة، وليتني ما سألت ..تلقيت أنظار الإستياء من بعضهم وأنظار الدهشة من البعض الآخر، ثم جاء الموظف ليهمس(محتاج لي أي خدمة؟)..فاستحيت وأعتذرت ثم اعترفت ( معليش ياحبيب، أنا مواطن وعندي مرض اسمو حب الإستطلاع وعايز لي زول اتكلم معاهو حول المكتبة دي، صدقني أنا ما مجنون بس شليق شوية)،فضحك شقيقي وصديقه رغم أنف تحذير(ممنوع الإزعاج)..وخرج بي الموظف الى حيث مكتب العاملين، وسألتهم ثم سألتهم حتى ارتويت..(عملنا يبدأ عند التاسعة صباحا ويتواصل حتى المغرب.. قاعة الإطلاع لكل الناس، بعضهم يأتي بكتابه والبعض الآخر يأتي ليقرأ كتبنا، وكل هذا بلا مقابل..نستقبل حوالي 150 مواطن في اليوم، ولكن يتضاعف العدد في العطلات..معظم الرواد طلاب بجامعة البحر الأحمر، نجحنا في توفير بعض المراجع والكتب العلمية والثقافية..وبالطابق الأرضي مقاهي أنترنت، بلا مقابل أيضا..لسنا بعاملين في هذه المكتبة، بل متعاونين نظير حوافز تدفعها حكومة الولاية..بعضنا تخرج في الجامعات والبعض الآخر لايزال يدرس، ولكن لدينا أوقات فراغ ومن الأفضل أن نخدم أهلنا بتشغيل هذه المكتبة و خدمة روادها)، هكذا تبادل الشباب الحديث، فشكرتهم بلسان حال قائلا : ( شكرا لكم، ولحكومة تعترف بالوعي والمعرفة وتنشرهما في رعيتها)، وخرجت منتشيا..ولكن - فجأة كدة - تذكرت تلك الموؤدة في قلب عاصمة البلد، والتى كانت تسمي ب ( مكتبة القبة الخضراء ) ..!! .............. نقلا عن السوداني