** عندما بحث الزملاء هناك عن خبر يصلح بأن يكون مانشيتاً رئيسياً لصحفهم، اقترحت لهم بأن ينتحر أحدنا، فضحكوا..نعم ليس هناك ما يُدهش الصحفي بحيث يدهش به القارئ غير الفراغ العريض.. فراغ في كل أوجه الحياة، أو هكذا حال عاصمة الولاية الشمالية..عاصمة تنام الحياة فيها بعد صلاة المغرب، إلا من محلات متفرقة يجلس أمامها أصحابها وهم يتثاءبون في انتظار زبون أو ثلاثة، فالقوة الشرائية فوق الصفر بقليل..وليس في حجم القوة الشرائية ما يُدهش؟، فالفقر السكاني يمتزج بفقر السكان هناك، ليقدم للناس ملامح عاصمة ولائية يصفها البعض بالهدوء ويصفها البعض الآخر بالخمول، وهي الى الوصف الثاني أقرب..حكومتها غارقة في ديون الحكومة الفائتة، ولا يزال تسديد تلك الديون يعيق التنمية، بل يمنعها نهائياً، أو هكذا التبرير الرسمي.. ولذلك يلقبها الأهل ب(حكومة مرتبات)..أي يوزعون فيما بينهم ما تجود بها المالية المركزية شهرياً، ثم يوزعون ماتبقى للمعلمين وبقية العاملين، و(خلاص).. نعم هي حكومة ولائية مجتهدة في أداء مهمة كان يمكن أن يؤديها أي صراف آلي..!! ** سألت واليها عن نسبة الفقر بالولاية، ولم أجد الإجابة، أي لا توجد إحصائية..وزميل سأله عن حجم الديون، ولم يجد الإجابة، إذ قال ( كتيرة والله، الله يقدرنا على سدادها).. فبحثت عن المشاريع التي استهلكت كل هذه الديون(الكتيرة)، فوجدت مستشفى دنقلا، الأحدث في المدينة، حيث البنايات الشاهقة ذات الألوان الجاذبة، ولكن للأسف (سماحة جمل الطين).. رغم أنف المليارات، رفضت الإدارة السابقة استلام المستشفى الجديد لما يضج به من أخطاء هندسية في المباني وأخرى فنية في الأجهزة والمعدات، فجاءت إدارة أخرى واستلمت كل تلك(الأخطاء)..واليوم تحن الإدارة الحالية الى المستشفى القديم، ولكن هيهات، لقد هدموا القديم بحيث صار نصفه موقفا لمواصلات الدبة والنصف الثاني مقرا لوزارة الحكم المحلي.. والأجهزة ذات القيمة المليارية معطلة ولم تعمل منذ تركيبها قبل ثلاث سنوات، والشركة ترفض إصلاح ما يمكن إصلاحه وإبدال ما يمكن إبداله ، لأن الإدارة لم تخطرها ولم تشركها عند فض الصناديق وتركيب الأجهزة، أو كما ينص أي عقد في تاريخ تركيب وتشغيل الأجهزة الطبية.. هكذا الحال، بنايات شاهقة فوق برك مياه الصرف الصحي، وأجهزة معطلة.. وعليه، نسأل عبد الوهاب عثمان - رئيس مجلس إدارة تلك المآسي المسماة مجازا بالمستشفى الجديد - نسأله : من المسؤول عن إهدار هذا المال العام؟، والى متى تحتفظ بملف كل التجاوزات في دهاليز مكتبك الخاص بعيداً عن قاعات المحاسبة؟..(ياخ الكلام دا غلط)، أو هكذا همست وغادرت ما كان يجب أن يكون مرفقاً صحياً بالمدينة..!! ** وصغارنا كانوا يحبون حديقة نميري التي كانت خضراء وذات ظلال وارفة، ويداعبون (الأسد الحبيس).. سألت أحد أعمامي عن الأسد قبل كذا سنة، فأجاب ساخراً (مات بالحزن).. والجمعة الفائتة سألت ابن عمي عن الحديقة ذاتها، ناهيك عن أسودها، فذهب بي الى حيث أطلالها، فعدت أكثر حزناً من ذاك الأسد..ولا يزال وزير التربية يفتخر بالدعم الأهلي الذي تحظى به مدارس الولاية، أي يفتخر بالرسوم الممنوعة في الخرطوم، ليداري بها عجز ميزانية التعليم عن تجاوز راتب المعلم.. ومدرسة السرايا، أعرق بناية أثرية مجاورة النيل، تخرجن فيها رائدات العمل العام والنسوي بالولاية والسودان، حالها لا يسر الناظرين، إذ هي مهجورة، بلا أبواب أو نوافذ، وآثار تهديم لم يعقبها بناء.. فسألت عما حدث لها، وإن كانت قد تعرضت لغارة جوية تجهل الحكومة هويتها وسلاحها، كما سوناتا بورتسودان، فأجابوا (شلعوها عشان يقلبوها فندق، لكن الشغل وقف)، أي فقدت عاصمة الولاية مدرسة ذات تاريخ عريق، وكذلك لم تجد نظير ذاك الفقد ولا محض (سبيل بزيرين)..وهكذ.. تلك الديار لم تفقد مدرسة السرايا فقط يا حكومة يامركزية، بل فقدت ما هي أعز، إذ فقدت روح المبادرة التي كان يتميز بها إنسانها.. فالكل محبط، عدا حكومة تخدع نفسها باجترار ذكرى بعانخي وتهراقا في كل المحافل.. ولقد صدق أحد رفقاء الرحلة حين قال: نعم للاحتفاء بالحضارات القديمة، ولكن مايحدث هو الهروب من الواقع..!!