رغم توغله عشرات السنين في الغياب الأبدي ، لم يكن الشاعر التونسي أبو القاسم الشابِّي بعيداً عن جموع الناس العاديين في ذلك البلد الأخضر الجميل عندما خرجوا إلى الشوارع في مثل هذا الشهر من العام لماضي بتلقائية وحماسة وجسارة مرددين في صوتٍ واحد كالموج الهادر مطلع نشيده الثوري المبشر بالحرية وكسر القيود: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة .. فلا بد أن يستجيب القدر". فهذا الشاعر، الذي هام بعشق وطنه وخاطبه قائلاً: “لا أبالي وإن أريقتْ دمائي .. فدماءُ العشّاق دوماً مُباحَة" وعاش “رغم الداء والأعداء" يغني للحرية وكرامة الإنسان ويدعو للنهوض وكسر القيود مراهناً على انتصار إرادة الشعب وطلوع الصباح، كان حيّاً وحاضراً بشعره التحرري وضميره الوطني وسط الحدث التاريخي الذي شهدته تونس خلال يناير الماضي عندما انتصرت إرادة الشعب وانحازت إلى الحرية والحق في العيش الإنساني الكريم، لينجلى الليل وينكسر القيد بعد عقودٍ من الظلم والبطش والطغيان وإهدار الحقوق. في الحالة المصرية كان الغائب الحاضر الأبرز هو عازف العود والمغني إمام محمد أحمد عيسى، الشهير ب “الشيخ إمام" ، الذي حمل مع توأمه الفني ورفيق دربه الشاعر أحمد فؤاد نجم راية المقاومة والممانعة الباسلة في أوقات شاع فيها الخنوع واليأس والإنكسار وصمدا، وهما الفقيران المعدمان، في وجه كلِّ أشكال القمع والبطش وعاشا بين السجن والملاحقة بسبب الأغنيات المضمخة بعرق الكادحين ودموع المحرومين من حقوقهم، والتي سرت في المجتمع المصري سريان النار في الهشيم حتى كاد لم يبق أحد من المصريين، في فترة ما بعد كامب ديفيد، إلا وردّد مع الشيخ ورفيقه: “مصر يمه يا بهية" ، “آه يا عبد الودود" ، “رجعوا التلامذة" ، “كلمتين لمصر" و“دولا مين" وغيرها من الأناشيد والأغنيات المحرِّضة على النهوض والثورة ضد الفساد والإستبداد. كما الشابِّي، كان الشيخ إمام حيّاً وحاضراً وسط الجموع الهادرة في ميدان التحرير من خلال أغنياته الخالدة التي حولها المتظاهرون إلى هتافٍ يثير الشجن ويشحن النفوس بالثورة والغضب النبيل ويمدها بالقدرة على الصمود، وتحديداً من خلال أغنيته الشهيرة: “صباح الخير على الورد اللى فتح في جناين مصر" ، والتي كان الثوار يشيعيون بها شهداءهم إلى مثواهم الأخير. لم يُقدّر لأبي القاسم الشابِّي أن يشهد لحظة انتصار رهانه الخالد على أرض تونس الخضراء، كما لم يُقدّر للشيخ إمام أن يسمع أغنياته الصادقة ترددها آلاف الحناجر في أرض الكنانة وتنتزع بها مصيرها ومستقبلها في مشهد أسطوري رائع. في الحالتين كانت القوة التي تسلحت بها الجماهير وهزمت بها آلة الدولة القمعية هي إرادة الحياة والحرية والكرامة الإنسانية، وهي ذات المعاني النبيلة التي طبعت إبداع الشابي والشيخ إمام وجعلتهما، رغم غيابهما الجسدي، صاحبي أسهم وفيرة في حصاد شعبيهما اليانع. عندما يصدق المبدع مع ذاته وينتمي إلى ضمير شعبه يفيض عن مساحة قبره ويزداد سطوعاً كلما أوغل في الغياب، أما الطغاة فإن مصيرهم مزبلة التاريخ والنسيان. الصحافة