د.إسماعيل صديق عثمان أستاذ العقيدة والأديان [email protected] يدور هذه الايام جدل كبير حول أصل الإجتهاد والفتوى والتجديد في الدين وقد أتى البعض بآراء شاذة لاقت انكار بعض العلماء ،والحقيقة لاأريد أن أناقش هذه الافكار والآراء هنا بقدر ما أريد توضيح مسألة الاجتهاد والفتوى وهل هناك اجتهاد مع نص كما سأحاول إزالة اللبس عند البعض والاختلاط الحاصل عندهم في ميدان الاجتهاد واطلاق الفتوى ؛ والحق أن نعم الله سبحانه وتعالى كثيرة وعظيمة ؛ لكنّ من أعظمها إنزالِ الكتاب المبين وإرسالِ الرسول الأمين ومن أجَلِّ وأكبرِ هذه الأصولِ بعد الأصلين السابقين في الذِّكرِ، وهما الكتابُ والسنة أصلُ الاجتهاد في استنباط الأحكامِ الشرعية غيرِ المنْصوص عليها، وهو أمر أقرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم فيه معاذَ بنَ جبلٍ رضي الله عنه فكان هذا الأصل ميداناً فسيحاً للعلماء؛ لنظرهم واستنباطهم لا يَأْلُون جهداً ولا يدّخرونَ فيه وُسْعاً. ومعنى الاجتهاد في اللغة: أصله المشقة وهو مأخوذ من الجَهد بالفتح أي بلوغ الغاية في طلب أمرٍ معيّن من قولهم: اجهَد جَهدك. أما اصطلاحاً : فقدعرّف الأصوليون الاجتهاد بتعريفات كثيرة مع اختلاف العبارات فيه؛ ولعلّ من أنسبها وأقربها إلى الصواب تعريف الشوكاني، فقد عرّف الاجتهاد بأنّه : بذل الوسع في نيل حكمٍ شرعي عملي بطريق الاستنباط. وهكذا يتبيّن أن مجال الاجتهاد هو الأحكام العملية التي لم يأتِ فيها نص قاطع من كتاب أو سنة، فيحتاج الفقيه معها إلى استنباطٍ وبذل جهد للوصول إلى الحكم. أما الأحكام العلمية التي يسميها بعض العلماء( القطعيات ) وهي الأسس الكبرى التي يلتقي المسلمون عليها، ويبنون عليها وحدتهم مهما تباعدت ديارهم وتنوّعت أجناسهم في مصادر الدين الأصليّة وأصوله الثابتة ، فتوحيد الله والشهادتان وأركان الإسلام ومعاقد الإيمان وركن الإحسان وأصول الشريعة وقواعدها الكلية والضروريات الخمس التي تدور على المحافظة عليها أحكام الشريعة، والأخلاقيّات والفضائل، وحجية الكتاب والسنة والإجماع ؛ هي أمور مسلّمة، لا يتطرق إليها خلاف، ولا يحوم حولها اختلاف، وهي أوعية رحيبة تحوي جميع الفروع والجزئيات، وتصب فيها جميع المستجدات والنوازل. وهذه المسلّمات بمنزلة الدِّين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد الخروج عليه ألبتة، فهي فوق مستوى الخلاف والجدل، فكل المسلمين يؤمنون بها، ويذعنون لها، أما الأحكام العملية وهي الفروع الفقهية، ففي حال ورود النص فلا مجال للاجتهاد حالينئذٍ، وهو ما يُعرف عند العلماء بقاعدة ( لا اجتهاد مع النص )، والمراد بنفي الاجتهاد عند وجود النص ما إذا كان النص صحيحاً صريحاً؛ أما الاجتهاد في فهم النص وتطبيقه على الواقعة إذا كان ظني الدلالة فهذا أمر آخر تختلف الأفهام فيه،وهو نوع من الاجتهاد في النصوص ،وقد ذكر العلماء أنّ الاجتهاد نوعان : الأول : الاجتهاد في فهم النصوص لإمكان تطبيقها، وهذا واجب على كل مجتهد، وخاصة إذا كان النص محتملاً لوجوهٍ مختلفة في تفسيره، أو كان عامّاً أو مجملاً. والثاني : اجتهاد في قياس حكمٍ لا نص فيه على حكم منصوص عليه، أي هو اجتهاد في استنباط العلة من المنصوص عليه لتعديتها للفرع الذي لم يُنص على حكمه ليحكم عليه بحكمها، وهذا لا يجوز أن يُلجأ إليه إلا بعد ألا نجد حكم المسألة المبحوث عنها في الكتاب أو السنة أو الإجماع؛ لأنّ محل القياس إنما هو عند عدم النص. أما الفتوى في اللغة : فقد قال ابن منظور : أفتاه في الأمر: أبانه له، وأفتى الرجلُ في المسألة واستفتيته فيها فأفتاني إفتاء .. وفتوى اسم يوضع موضع الإفتاء. ويقال: أفتاه في المسألة يُفتيه إذا أجابه، والاسم الفَتْوى، والفُتيا تبيين المشكل من الأحكام،والفُتيا والفُتوى والفَتوى: ما أفتى به الفقيه، يقال: أفتى الفقيه في المسألة إذا بيّن حكمها، واستفتيتَ إذا سألتَ عن الحكم. يقول الراغب الأصفهاني: الفُتيا والفَتوى: الجواب عما يشكل من الأحكام؛ ومما سبق يتبين أن الاستفتاء في اللغة يعني السؤال عن أمر أو عن حكم مسألة، وهذا السائل يسمى المستفتي، والمسؤول الذي يجيب هو المفتي، وقيامه بالجواب هو الإفتاء، وما يجيب به هو الفتوى، فالإفتاء يتضمن وجود المستفتي والمفتي والإفتاء نفسه ؛والمعنى الاصطلاحي للإفتاء هو المعنى اللغوي لهذه الكلمة، وما تتضمنه من وجود مستفت ومفت وإفتاء وفتوى؛ ولكن بشرط واحد هو أن المسألة التي وقع السؤال عن حكمها تعتبر من المسائل الشرعية، وأن حكمها المراد معرفته هو حكم شرعي .أما صفتها فهي : بمثابة الشروط؛ لكي تكون سليمة وصادقة ويصح الانتفاع بها، وهذه الصفات، بعضها لا بد منه وبعضها تكميلي استحساني فمنها أن تكون الفتوى قائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما دلّ عليه هذان الأصلان ، أما الرأي فإن كان موافقاً للكتاب والسنة وما دلّت عليه النصوص والمقاصد الشرعية فإنه يكون مقبولاً، أما إن كان مخالفاً للكتاب والسنة، أو قائماً على الحيل المحرّمة شرعاً فإنه لا يُقبل. وكذلك أن تكون الفتوى محرّرة الألفاظ لئلا تُفهم على وجه باطل قال ابن عقيل : يحرم إطلاق الفتيا في اسم مشترك إجماعاً ، فمن سئل : أيؤكل أو يشرب في رمضان بعد الفجر ؟ لا بدّ أن يقول : الفجر الأوّل أو الثّاني ، كما ينبغي أن تكون الفتيا بكلام موجز واضح مستوف لما يحتاج إليه المستفتي ممّا يتعلّق بسؤاله ، ويتجنّب الإطناب فيما لا أثر له ، لأنّ المقام مقام تحديد ، لا مقام وعظ أو تعليم أو تصنيف . وعلى المفتي أن يذكر ما يعضُد الفتوى من دليل من الكتاب أو السنة أو إجماع، ولا يُلقيها إلى المستفتي مجرّدة ، فإنّ هذا أدعى للقبول بانشراح صدر وفهم لمبنى الحكم ، وذلك أدعى إلى الطّاعة والامتثال. ولا يقول في الفتيا : هذا حكم اللّه ورسوله إلاّ بنصّ قاطع ، أمّا الأمور الاجتهاديّة فيتجنّب فيها ذلك لحديث : ( وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم اللّه فلا تنزلهم على حكم اللّه ، فإنّك لا تدري أتصيب حكم اللّه فيهم أم لا ) وكذلك إذا كانت الفتوى مكتوبة فالأفضل أن تكون بخط واضح، ولفظٍ واضح حسن تفهمه العامة. وبالنسبة لاحكام الشريعة فانها تنقسم إلى قسمين أساسيين: الأوّل: القطعيّات وهي الأحكام التي مصدرها المباشر نصوص القرآن والسنة النبوية الشريفة؛ كالواجبات القطعية مثل وجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج وبر الوالدين ونحو ذلك، وكذلك المنهيات القطعية كالاعتداء على النفس والأموال والأعراض وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن وأكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك. وهذا القسم لايجوز بحال من الاحوال أن يتطرق إليه التغيير أو التبديل؛ لأنه ثابت بنص قطعي لا يمكن أن يتغيّر عن حالة واحدة، ويمكن أن يُستدل لذلك بأدلة كثيرة، فمن ذلك قول الله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لامبدل لكلماته وهو السميع العليم) قال ابن كثير رحمه الله: ( قال قتادة: صدقاً فيما قال وعدلاً فيما حكم، يقول صدقاً في الأخبار وعدلاً في الطلب، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة ). ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم :( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام فكل من أحدث في الدِّين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء ). والثاني: الأحكام الاجتهادية المبنية على المصلحة أو على القياس أو العرف أو العادة. وهذا القسم يمكن أن يتغير حسب المصلحة لأن الأصل الذي يُبنى عليه أصل متغير سواءٌ أكان مصلحة أو عادة أم عرفاً. أسباب اختلاف الاجتهاد المؤدي إلى تغيّر الفتوى: ونعني هنا باختلاف الاجتهاد : تبدّل استنباط المجتهد بتغيّر ظنّه لِعِلّةٍ تُغيِّر الحكم الشرعي، وهذا ما يؤدي إلى فتوى جديدة تتناسب مع المتغيرات، وهو المقصود بأثر تغير الاجتهاد في الفتيا أي تبدل الأحكام بالاجتهاد الثاني ). واختلاف الاجتهاد وتغيّره سواء أكان على مستوى المجتهد الواحد بأن يتغير اجتهاده الثاني عن اجتهاده الأول، أم كان على مستوى المجتهدين بأن تختلف اجتهاداتهم في المسألة الواحدة؛ وكل ذلك من رحمة الله تعالى بعباده. ولايفوتني أن أنبه علي ضرورة الاجتهاد الجماعي في هذا العصر وهو مصطلحاً معاصراً لم يُفرِد له العلماء السابقون بحثاً خاصاً، وتعريفه هو ( بذل جمهور العلماء الوسع في نيل حكمٍ شرعي عملي بطريق الاستنباط ). وهو في العصر الحالي يكتسب أهمية خاصة ليس لكثرة المشكلات والوقائع الجزئية التي ليست لها أحكام فقط، وإنما لوجود الظواهر المعقّدة والأوضاع العامة التي هي فوق جزئيات تلك المشكلات والوقائع. ففتح باب الاجتهاد يُعتبر من محاسن الشريعة الإسلامية، التي يجعلها قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان، غما تجمدت وتقوقعت؛ بل كان عندها لكل مشكلة حل ، فبقيت حيّةً تساير أحوال الناس ومتطلباتهم، والمتتبع لمنهج الأئمة يجد أنهم ساروا على منهج واضح في التعامل مع المسائل الاجتهادية، والذي يجمعهم في ذلك أنهم لا يتجاوزون نصاً شرعياً يُبنى عليه الحكم، فعلى المجتهد أن يقتفيَ أثر أولئك الأئمةِ الأعلام الأفذاذ، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفّوا ، والمجامع الفقهية في الوقت الحاضر خير ما يُمثل مبدأ الاجتهاد الجماعي، فجهودها مشكورة في بحث كثير من القضايا الفقهية المستجدة التي تهم الناس، ولذلك ندعوا العلماء للاجتهاد عبر المجامع لتوحيد الكلمة ففي ذلك وقاية المسلمين من مشاكل الاختلاف الذي ينتج عن اختلاف الآراء الفردية كما نتابع ونسمع في هذه الايام والله الموفق والمستعان.