د.طلال دفع الله عبد العزيز [email protected] البريد و نحن نمارس عملية الامتصاص المستعذب البهي حين تفتح خلايا الروح نوافذ و ابواب مستقبلاتها واسعة و مشيمة الاتصال في تكوُّنها مابين روح التلقى و روح النص .. هكذا على حين غرة و إن لم يكن على حينها تماما و كما تخرج محارات الحلم من صدفات الصُّدَف السعيدة يصدح الاستاذ / عبد الكريم الكابلي بقراءة ثانية لنص ( محمد ود حنينة ) من سِفر \"ضل الضحى\" من كتاب \" ليل المغنين \" للشاعر عمر الطيب الدوش ليأخذنا من دهشة الوقوف على بواباته الى دهشة الدخول عبرها. و كما صمت الشعراء بعد ليل المغنين يتأملون يراجعون و يتحسسون ادواتهم و مواقعهم هاهم الملحنون/المغنون يوقفون من قبل الاستاذ كابلي على نفس البوابات. عن الشاعر ******* ينتمي الاستاذ عمر الطيب الدوش الى شعراء (النص السهل الممتع) يلتقي معه في ذلك محجوب شريف و حميد. تنبع السهولة من اختيارهم المفردة المتداولة حياتيا في يومية التعامل و تدخل المفردة فضاء النص لتأخذ ثقلاً مضمونياً جمالياً جديداً ، و يتم استجلاؤها من عاديتها لتدخل الى عوالم الدهشة و الإبهار ، تلك التي تخلق المتعة الذهنية و هذا من ضروريات النص الشعري الجديد و الجيد . استفاد الدوش من معرفته الدرامية كاستاذ للدراما في (كلية الموسيقى و الدراما) و وظفها في خدمة نصه الشعري حيث اضاف مشهدية للنص و حراكية ادائية ، و اما الشخوص فلها بنية درامية تتحرك داخلها بشاعرية عالية. تقنية السرد داخل نص سعاد جاذبة ذات نَفَس روائي ، تم تطويعه ليُستفاد منه في جَدْل تماسك النص .. الاثر البئوي و تأثيره على العلاقة الاجتماعية في مجتمع مغلق معقد التركيبة النفسية حيث لامتنفس الا \" دقة الدلوكة \" للتعبير عن المشاعر النبيلة لفعل سادي اصلاً ( البطان ) ، فصار داخل النص علامة لتحديد بنية المكان و تحديد دائرة الايهام و سبر عمق الواقع الاجتماعي و معالجة اعقد مشكلاته شعريا . مخيلة الكابلي كشاعر و باحث في أغنية التراث اضافت اضافاتٍ واعيةً للنص بحيث لم تمس و لم تنقص من جوهر مجمل افكار النص : تككت في الراكوبة بالحنقوقه سروالي الطويل ملعون هواي الله اكبر يا معافرة يا مدافرة يا جهاد بينما تلاحظ هناك اجتزاءات مثيرة للجدَل سياتي ذكرها . الدوش يكتب القصيدة .. يبدأ قراءتها .. القاءها و من ثم يعيد نسخها لتصل القصيدة عنده الي صياغتها النهائية , هكذا كما يقرأها و يلقيها لا كما كتبها ابتداء ، أي ان الادائية عنده مقرونة بكتابة جغرافية النص على الورق لتشكل لاحقا اهمية قصوى و ضرورية عند القراءة اللحنية للنص . عن النص ****** القصيدة من مجزوء الوافر الذي تحتمل بنائيته اللحنية عدة ايقاعات مثل الدليب , الريقي , التُم تُم , المردوم ، و هي تمتاز شان اغلب اعمال الدوش الشعرية بغنائية عالية و بمدى واسع من الفعل الدرامي و حراكية الصوت مثل : دقت الدلوكة تككت سروالي الطويل سويتلو رقعات في الوسط في خشمي عضيت القميص اجري و ازيد شوق و انط لامن وصلت الحفلة زاحمت الخلق الى جانب ذلك فهي عالم نفسي فردي/جمعي يتارجح بين السلب/الايجاب , الغضب/الفرح ، الواقع/الحلم , الظاهر/الباطن ، فالنص الشعري لدي الدوش مسرح متكامل العناصر تفتح فيه الستارة على لوحة درامية نشيطة الحركة او صورة ذهنية قزحية النسيج و على هذين الاحداثين يتحرك العمل الابداعي : - ح اسال عن بلد رايح وافتش عن بلد سايح اقول : والشمس في عز الامل تهته و مشيت - في الزمن الموشح بي سكين و حربة و الغيم المسافر دموعي خب و جيت ياحلوة زي زولا قضى الايام بكا و منفى - بناديها و بعزم كل زول يرتاح على ضحكة عيون فيها - الساقية لسه مدورة صوت القواديس و المياه طلعت مشت متحدرة - سحابات الهموم ياليل بكن بين السكات و القول عن القارئ / المستمع ************** قارئ النص/ مستمعه يفاجأ بإجتزاء هنا و اضافة او استبدال لبعض مفردات اوجمل هناك مما يدخله في حيرة مرتبكة و يشعل في ذهنه أسئلة تتأرجح بين الحيرة و اليقين : 1- بوصول النص الى صياغته النهائية يكون قد اكمل تمام ميلاده ، و عليه يصبح من الصعب التلاعب بصبغياته التي تحمل خصائصه الوراثية و صفاته ، عليه : هل اجتمع الشاعر و الملحن قبل و اثناء تلحين النص بغرض إجراء بعض التعديلات او التحويرات او الإضافات ؟ 2 - الاستاذ عبد الكريم الكابلي الى جانب الكثير من صفاته المميزة والمتميزة شاعر غنائي له إسهاماته في هذا المجال و هو مواجه هنا لكي يجيب على : أي الكفتين يجب او يستحسن أن تكون ارجح ، كفة تطويع النص لصالح اللحن ؛ ام كفة تطويع اللحن لصالح النص ؟؟ و هل هنالك بعض المفردات التي تستعصي على اللحن ؟ ام ان وقعها على الأذن اخشن قليلا مما يجب ؟؟ ثم متى الانعتاق الكلي من هيمنة القوافي او حروف الروى الممدودة ( فجيت الخلِق) ؟؟ تلك الهيمنة التي اصبحت تشكل عقبة امام كتابات الأغنية السودانية مما يحرم النص الغنائي من نصوص لاتنطبق عليها هذه المقولة .. و مع ذلك فقد افلح مصطفى سيد أحمد في تلحين (عباد الشمس) . لا يمكن للقارئ/المستمع الا ان يطلق على هذا الصمت الذي ووجه به هذا العمل الضخم من صفة سوى انه صمت مريب !! فإذا لم يحرك مثل هذا العمل الغنائي الذي تباعدت الازمنة عن مثيله .. اذا لم يحرك حواس و عصب المبدعين في مختلف مجالاتهم فأي الاعمال تُرى ينتظر اهل الابداع ؟ و العزاء في الاحتفال الشعبي الطويل العريض المرتفع بهذا العمل الكبير الذي هو جدير به ايما جدارة . عن القراءة اللحنية ************ يبدأ اللحن بتوظيف انسيابي موفق لعناصر التنفيذ : ايقاع موسيقي , اداء ثم توظيف آلى (طنبور) ينقل المستمع الى جغرافيا رغم اتساعها تتسم بمحدوديتها ورويدا .. رويدا .. كما تتخافت الاضاءة في قاعات المسارح المغلقة و في ايحاء استيهامي تتخافض الشدة الموسيقية بصورة مكررة مما يهيئ المتلقي تماما لمفتاح السر الاول (المطلع) فإذا نحن امام راوٍ طيب ومتسام حد التصوف ، ثم و بدون أي تناقض نلقانا امام راوٍ يقرأ واقعَه بحب و يتعلق به على مستوى الرؤيا ، فإذا هو نفس الراوي الأول ، فندرك اننا امام بطل واحد ينقسم في اتحاده : قلنا الدنيا مازالت بخير اهو ناس تعرس و تنبسط اجري و ازيد شوق و انط تاخذنا رحلة هذا الرواي من اول خطواتها بتؤده و سحر خاص حتى اخر خطواتها (ولاكف مشت بتلاقي كف) . و الجديد مابين الافتتاحية و الختام هو دخول ما يحكيه الراوي في الضمير الشعبي الجمعي بعد تلقيها .. استيعابها .. ترديدا لتنتقل مكانيا و زمانيا و هذه الفكرة جديدة تماما و قد وُظفت بصورة متفردة و مدهشة : كبرت كراعي من الفرح نص في الأرض نص في النعال قلت ليهو يا عمدة اختشي و السؤال هل هذه الفكرة البِكْر تم تنفيذها اولاً في (سعاد) ثم أُسقِطت من الاعمال الأخرى .. الايقاع الذي هيمن على العمل بشكلية : خبب الابل وركض الخيول يمسك بذهنيه المتلقي امساكا مريحا يجعله يصطاد المفردة و الفكرة و يستصحبها معه في لهاثه الجميل خلال مسارب العمل الابداعي : وان كانت هناك مساحات ايقاعية أخرى لم تستخدم .. استمع الى اوبريت مروي للكابلي و لجميلة و مستحيلة لمحمد وردي و لعم عبد الرحيم لمصطفى سيد احمد . . هناك توظيفات موفقة أخرى مثل الصوت الثالث لحنياً كما في : قالت لي تعال او القائياً كما في : قالت سعاد بطل كلام الجرسة انجض يا ولد او في كلام العمدة : مسئول كبير زار البلد ... الخ . فكان يمكن توظيف الصوت الثالث بصوت غير صوت الراوي/المغني - ترك الكابلي الخاتمة ،بصورتها المفتوحة التي اتت بها، تهيئة ذكية للمتلقي لبدايات جديدة قادمة . هناك بعض السدود وقفت في طريق سيل التداعي و الانسياب الدرامي للنص في ارتقائه نحو ذروته ففي : كبرت كراعي من الفرح نص في الأرض نص في النعال يجتزأ اتلخبط الشوق بالزعل اتحاوروا الخوف و الكلام و هنا يتعين التوقف لان تضارب الشوق بالزعل و محاورة الخوف و الكلام هما الجسر الطبيعي الذي بدون عبوره لن نصل . و ايضا في رده على العمدة يكون الجسر الأنسب : صلحت طاقتي الحرير و اتنحنح الحشا بالكلام و رميتو من حلقي الوصل قلت ليهو يا عمدة اختشي إذ أن الأبيات الثلاثة الاولى لازمة و ضرورية لايصال الحالة النفسية لدي الراوي بكثافتها العالية التي نستشعرها من خلال النص و استبدال كلمة \"الدنيا\" بشموليتها و اتساعها الكوني الصوفي بكلمة \"الحِلَّه\" بضمورها و محدوديتها ، ينزل بلطافة الدوش المتصوفة لمستوى الكثافة . إمكانيات كابلي اللحنية غُيِّبت احيانا لصالح إمكانياته الشعرية او هي لم تستخدم بما يكفي لتطويع اللحن لصالح النص . اما في : كبرت كراعي من الفرح نص في الأرض و نص في النعال و نقيضها : ضاقت نِعالي من الزعل من تحتها اتململ تراب فقد اديتا بنفس الجمل اللحنية و بنفس الشدة و النبرة الصوتية و الادائية و الايقاعية رغم تناقض المناخين النفسيين . . إمكانيات الكابلي اللحنية لم تستخدم لاقصى مداها من أجل تطويع اللحن لقولبة النص و مع ذلك فهناك توظيفات لحنية و ادائية جديدة على الأغنية السودانية . ختاما : **** اخذت أغنية سعاد موقعها الطليعي و الطبيعي كمعبر من أغنيات هذا الجيل الذي بدأت تتضح ملامحه عند محمد وردي مرورا بابوعركي البخيت و تتويجا بمصطفى سيد احمد الذي كثف انتاجه في هذه اللونية حتى اصبح ملمحا اساسيا في تجربته و منعطفا يصعب تجاوزه في الغناء السوداني و الكابلي بكل تاريخه الفني العظيم يتواضع و يقرأ قراءة صحيحة لواقع الأغنية السودانية اليوم و يسهم بفعالية في دفعها نحو أغنية تنبع من الناس و تعود للناس . . و عليه يكون الكابلي قد عمل منفردا حتى الأن على الاقل لإستعادة الوعي الفني الغنائي و انهاضه من غيبوبته كما انه يكون قد اضاف الى اعماله الكبرى عملا كبيرا جديرا بالإحترام يجب التوقف عنده طويلا. و نرجو ان يكون الصمت الذي قوبل به العمل قد أتى من عنصري الدهشة و الإندهاش فالصمت أحيانا فعل و حضور. ...................................................................................................................... (نقلت مقالي هذا من أحد المواقع الإلكترونية ، بعد أن فقدت نسخته الأصلية، لهذا أرجو أن يكون مطابقاً للنص الأصلي .. كما أن الذاكرة لم تسعفني بتاريخ كتابته أو نشره .. فقط أتذكر أن المقال كُتب بعد صدور ألبوم سعاد بأيام).