بيني ..وبينك والأيام.. محمد عبد الله برقاوي.. [email protected] جاء الخبر الأليم وكأنه ارتطام الرأس بصخرة الحقيقة ، ليستيقظ من أعماق الذاكرة شريط طويل تتراقص فيه الصور والأصوات عبر سنوات الطفولة المبكرة ، ونحن صبية نتحلق حول المذياع نشرئب باعناقنا الرقيقة و عقولنا الغضة نحو لمباته التي يتسلل ضؤها عبر ثقوبه وكنا نظن المغنيين يقبعون خلفها ، فينطلق ذلك النغم الساحر ، الليلة أو بلة ، لم نكن بالطبع نفهم معانيه التي ينثرها بالنوبية ولكننا نطرب لحسه الآثر الذي يتسلل بلا استئذان للوجدان دون التفريق بين الكبار ومن كانوا في سن صبانا المبكر ! فصفقنا معهم والاذاعة تطلق سراح صوته فتنساب رائعته يا نور العين ،لتعلن عودته بعد انقطاع ، وراء القضبان وهو يتضامن مع أهل حلفا الذين احتجوا على ترحيل جذورهم من منبتها وقد غمرتها الامواج الشاردة في هجرتها شمالا . وتمضي الأيام وتتسع فينا مواعين الوجدان وتختزن في مستودعاته الاناشيد الأكتوبرية التي كبرت معها مراهقتنا الثورية وبواكير شبابنا السياسي والوطن يخطو نحو غد ارتسمت في ملامحه شتى الوان التفاؤل قبل أن تسرق اشراقاتها أحن الذين اختطفوا أكتوبر التي ذهبت ، وبقيت أناشيد العملاق وردي الذي أحب شعب المهدية وثورة 24 ورفع صوته مبشرا بارتفاع راية الاستقلال للسودان الموحد ، مثلما هام بشعب أكتوبر وأنشد فيه . انني أؤمن بالشعب ..حبيبي وأبي ..وبابناء بلادي البسطاء الذين انحصروا في ساحة المجد فزدنا عددا ، وبابناء بلادي الشرفاء الذين اقتحموا النار وصاروا في يد الشعب مشاعل ..وبابناء بلادي الشهداء الذين احتقروا الموت وعاشوا أبدا .. وحينما تباينت الخطوط بينه وبين مايو، وسحب عنها شهادة اعترافه بها ، أودع السجن قرابة العامين ، فخرج ليجد نفسه مرتسما في عيون وعقول الناس رغم حجب أغنياته في كل الأجهزة ، كان ذلك في رمضان 1973 وقد تدفق الناس الوفا مؤلفة لاستقباله بعيون مشتاقة دفقت له دمعات الفرح وقد اكتظ بهم فناء الاذاعة السودانية وهو يحي حفله الأول بعد الغيبة ، وكان ذلك استفتاءا أفحم سجانه الذي أدرك ان الصوت الأثر والكلمة الصادقة العاطفة و الموقف واللحن الجاذب كالهواء هيهات حبسه خلف الجدران ، وان نور الابداع لا ينطفي ولو طال بقاؤه في غياهب الظلام ، و كم كان تشريفا لي كصحفي مبتدىْ ان كلفني استاذي الراحل عزالدين عثمان وكان مشرفا على الصفحة الفنية بالأيام أن أقوم مع زميلي المصور المبدع أمين بدوى الطاهر بتغطية ذلك الحفل الفريد فحققنا سبقا صحفيا ملاء الصفحة صورا أبلغ عن الحروف ! وتمضي الأيام ، وعقب قوانين سبتمبر 1983 يهاجر الوتر الجريح ، ويرتمي في أحضان اليمن الجنوبي ، فسهرت لاهاته عدن كما لم تسهر لفنان من قبل ، وعرج بعدها على الامارات ، فلم يكن من الممكن أن تفوتني فرصة الظفر بلقاء مع وردي لم تنقصه جرأة الطرح السياسي وعمق الرؤْى الوطنية ، والثقافة الفنية ، احتفت به صحيفة الفجر الظبيانية ايماء احتفاء ! وما أحلى التواصل مع ذلك الفنان الاسطورة ،فتمتد اليه قريحتي الشعرية المتواضعة في خجل واستحياء ، وعرضت عليه نصا اندثر تحت بطاقات سفر رحلات علاجه المتكررة ! أقول فيه ، صورتك في الخيال فكرة ..وو صفك زينة النبرة..بكتب في غناك واقرأ ..أداوي الغصة بالذكرى.. وهاهي الأيام ياوردي ..التي كانت شاهدا لحبنا لك وأنت الرمز والفنان الذي نبت نخلة في تراب الوطن ..ينشر رسالته في كل القلوب التي رددت معك لحن الحياة وانت الذي أحببتها من أجل الناس..تفجعنا فيك ،وتترك لنا الذكرى الجميلة والنبيلة رغم كل الأسى لرحيلك المؤلم ، ولكن هل يقف الموت حاجزا بينك وبين ذلك الحب ، لا والف لا فانت باق روحا وفنا واخلاصا للوطن وأهله وان ذهبت جسدا . وأنا مثلهم لن أنساك ما حييت ، فبيني وبينك والأيام قصة حب طويلة . رحمك الله وغفر لك واسكنك فسيح جناته ، فهو الكريم الرحيم ، وانا منه واليه راجعون ، انه المستعان .. وهو من وراء القصد..