رحم الله إمبراطور الفنون والإبداع الأستاذ محمد وردي ذلك الإنسان الشفيف والمسكون بحب الوطن الممزوج بالقدرة الفائقة بكل ثقافاته المتنوعة في تاريخه وجغرافيته وإمتداداته الواسعة من الدوبيت والمدائح النبوية مروراً بإيقاعات القبائل الإفريقية والعربية وتلك الألحان الحديثة الشجية حتي صار أسطورة عصره في كل الأغنيات العاطفية والوطنية التي صاغها لحناً وحماساً واسهمت بقوة في تشكيل وجدان الشعب السوداني فخراً وحباً ليصبح "وردي" حالة خاصة جداً في وطن الجدود والمستقبل الواعد كأحد الأهرامات التاريخية الخالدة وطوداً شامخاً باقياً في القلوب إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. كتبت بتاريخ 28مارس عام 2011م, مقالاً بصحيفة "السوداني" تحت عنوان "إطلاق سراح وردي" وكثيرون حينما قرأوا العنوان إعتقدوا أن الفنان "وردي" قد عاد مرة أخرى لسجن كوبر وإكتشفوا حين قراءة تفاصيل المقال بأنني أعني إطلاق سراح روائع "وردي" المحبوسة في مكتبات الاذاعة السودانية والتلفزيون القومي من أناشيد وطنية وأغنيات رمزية قديمة وقلت يومها في ذلك المقال إلى متي تظل روائع الفن والإبداع الجميل حبيسة وإلى متي يستمر حظر الأغنيات والأناشيد الجميلة عبر تلك القرارات السياسية التي لا تمت للثقافة وإحترام وجدان أمة بشئ وتتعارض تماماً مع نصوص الدستور الإنتقالي الذي أسهب صانعوه في كل مفردات الحرية والديمقراطية المستدامة وإلى متى يتواصل الاصرار على حرمان الأجيال الجديدة من حقهم في المعرفة وروائع الإبداع القديمة وإلى متي يستمر التعامل مع ذكريات الثورات الشعبية باعتبارها أياما عادية دون أدني إهتمام وإحتفالات رسمية وشعبية بثورة أكتوبر 1964م، وإنتفاضة أبريل 1985م، وهل في إمكانهم القدرة على شطب تلك الملاحم الخالدة من ذاكرة الشعب السوداني الذي سطرها بدماء شهدائه الأبرار من أجل الحرية والكرامة. وأذكر جيداً وأنا بعيد عن الوطن حينما عاد الأستاذ محمد وردي إلى أرض الوطن بعد غياب قسري دام لأكثر من ثلاثة عشر عاماً قضاها معارضاً في منفاه لحكم الإنقاذ حيث كان إستقباله في مطار الخرطوم مهيباً وحدثاً فريداً على الصعيدين الرسمي والشعبي باعتباره قامة كبرى وثروة وطنية نادرة وقيمة فنية عالية في نفوس كل أهل السودان شمالاً وشرقاً وجنوباً وغرباً إلى أن ظهر ذلك التجاهل المتعمد من كل المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة لتصبح كل تلك الإبداعات بين يوم وليلة حبيسة ومعتقلة في داخل مكتبات الاذاعة والتلفزيون القومي بفعل فاعل. اليوم وبعد أن فارق الهرم الشامخ هذه الدنيا الفانية بالضرورة أن يتم إطلاق سراح كل روائعه الخالدة تكريماً وإجلالاً للرجل الذي اسهم في صياغة وجدان أمة وباعتبار أن تلك الأغنيات والأناشيد الوطنية الوردية ملك للشعب وجزء مكمل للشخصية السودانية المرتبطة بحب الوطن وسلامة أراضيه حيث لا يمكن نسيان الروائع الأكتوبرية الشجية وملاحم الاستقلال الرائعة والتي صاغها شعراً إسماعيل حسن والفيتوري وأبو قطاطي ومحجوب شريف وإسحق الحلنقي وأشجي للفيتوري حروفاً ذهبية للوطن قال فيها: في زمن الغربة والإرتحال تأخذي منك وتعلو التلال وأنت عشقي حيث لا أعشق يا سودان إلا نسور الجبال يا مشرقة التاريخ يا راية منسوجة من شموخ النساء وكبرياء الرجال وكانت الرومانسية في الحان "وردي" قمة الإبداع حينما تغني برائعة عمر الطيب الدوش الحزن القديم والتي من بين نصوصها: اسأل على بلد مجروح وعارف الجارحو ليه جارح وأبكى على بلد ممدوح وعارف المادحو ليه مادح. يظل الهرم محمد عثمان حسن وردي إبن "صواردة" السوداني النوبي وهو العملاق وفنان السودان الأول حتى بعد مماته فالعلماء والعباقرة العظماء لا يموتون بل تذهب أجسادهم وتبقى تعاليمهم وإبداعاتهم خالدة أبد الدهر فنشيد "اليوم نرفع رأية إستقلالنا" يظل عبر التاريخ يثير الشجون ويدمع العيون في أي زمان ومكان مثل رائعته "أصبح الصبح" وكل الروائع الوطنية الخالدة والباقية في النفوس جيلا بعد جيل. على صعيد العلاقة الخاصة بالغائب المقيم "محمد وردي" فقد جمعتنا القاهرة منذ بداية تسعينات القرن الماضي حيث كان التجمع الوطني الديمقراطي المعارض والذي كان "وردي" في قمة قيادته ممثلاً للفنانين وشخصي ممثلاً للاتحادي الديمقراطي الذي كان يترأسه في القاهرة الصديق أحمد السنجك ولم ينقطع النشاط الفني لوردي في القاهرة حيث تغني للسودانيين هناك وأيضاً هو فنان كل النوبيين المصريين من اسوان وحتي الاسكندرية، رحم الله الفنان الخالد محمد وردي بقدر عطائه الثر وما قدمه من إسهامات في تشكيل وجدان كل شعب السودان ويا ليت الجامعات تبادر بتسمية قاعات علمية بإسمه وأن يصدر والي الخرطوم قراراً بتسمية شارع الاذاعة في أم درمان باسم الهرم "محمد عثمان وردي" كما أن الظرف الآني يستوجب على وزير الإعلام بإطلاق سراح تلك الإبداعات الوردية المحبوسة في المكتبات الرسمية ليظل وردي بيننا جيلاً بعد جيل.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.