[email protected] وفر المناخ السياسي والاجتماعي الراهن،الأخذة ملامحه في التشكل،في أعقاب هبوب رياح التغيير على منخفض المنطقة،وفر سانحة وحافزاً إستثنائياً لكثير من المفكرين والأقلام،للتأمل الباصر في جملة الظروف التي تعمل بشكل معلن أو متواطئ لتكريس ما يسمى بثقافة الاستبداد،والتي تعمل بدورها كحاضن أمثل لصناعة الطواغيت.وقد حاولت العديد من القراءات كذلك معاينة الأمر من زاوية أخرى تتيح النظر داخل دماغ الديكتاتور نفسه،في محاولة لإستقصاء كنه مركباته النفسية والعاطفية،وما تختزنه ذاكرته،للكشف عن تلك الكيمياء العجيبة المتقلبة.ويذكرنا ذلك بالحفر المعرفي الحثيث لإدوار سعيد في محاولاته للبحث في خبايا السلطة وسراديبها،وتحليل مفردات الخطاب السلطوي،الشائك في غموضه،وتمويهاته بالغة التعقيد.وقد عكف إدوارد سعيد طويلاً ليؤكد عبر مباحثه التنويرية على أن ثقافة الإستبداد تنتج، من حيث لا تدري، رحم آخر تخرج منه ثقافة المقاومة والمناهضة.ذلك أن التطلع للحرية والكرامة الإنسانية طموح تتشاركه كل البشرية،وأمر غريزي مستودع في الفطرة،وبالتالي يصعب كبحه أو لجمه.ويضيف سعيد بأن لكل ثقافة وحضارة آليات خلاقة للإصلاح الذاتي،تعمل بشكل يتجاوز السلطة في كل أشكالها. ولنقف كذلك عند عيسى الحلو الذي يمضي ليتأمل لحظة مفارقة في حياة طاغية،قدمت شخصيته مادة خصبة،ومثال بارز وشديد النتوء لصورة الديكتاتور.يقول عيسى الحلو: (اللحظة التي قبض فيها الثوار على القذافي كيف تكون؟! هي لحظة كثيفة حضر فيها كل الزمان.. ماضي القذافي كله .. أحلام اليقظة .. أوهام العظمة المطلقة.. والتي أصبحت أكذوبة أسطورية حولت الرجل نفسه إلى أكذوبة،وإلى شخصية وهمية،ولعل الرجل كان داخل هذه اللحظة الكثيفة، المشحونة بالماضي والحاضر والآتي،قد رأى كل شي،وعرف كل شئ ،ففي لحظة الموت تأتي كل الأزمنة متصاحبات،فإن عرفت الروح هذا المصير،دخلت في مجرتها.وإلا لأفلتت إلى الأبد،وأخذت تدور في اللا مكان واللازمان..ترى هل رأى القذافي ما لا يُرى في هذا اللا مرئي؟! أم أن روحه قد ضاعت فلم تصل إلى مجرتها ؟!).وهكذا تتعدد المحاولات في سبيل تقديم تفسير يحيط بشخصية الطاغية،والتي تبدو أقرب ما يكون للعلة السيكوباتية،والتي رغم أنها لا ترتبط مباشرة بمرض ذهاني أو عصابي، إلا أنها تشير لسلوك إعتلالي منحرف،وإضطراب سلوكي يتجلى عبر صفات ضيق الأفق وعدم النضج الإنفعالي،والفقر في الاستبصار.وكذلك تحوصل الضمير وإدقاع الوجدان، والشطح اللاعقلاني، والتذبذب والنرجسية والشك المرضي. ونعود لثقافة الإستبداد التي قد إرتبطت في تاريخها الأقدم ،ومنذ أن عرف الأنسان الدولة، بالبطانة أو الحاشية،المتعيشة على تلك السلطة،لذلك فهي بالضرورة صاحبة الدور الأكبر في التزييف وضخ الأكاذيب، عبر تدبيج الثناء وجوقات المديح،ليتحول ذلك مع مرور الزمن إلى ترسبات لبيكة،وطبقات لازبة من الكذب والتدليس.وتحرص تلك الحاشية فيما تحرص على تسوير الذات السلطوية بالأوهام، إلى درجة الإنفصال عن الواقع،ولتتحول بالتالي إلى ذات معزولة كلياً عن محيطها. وغالباً ما يظهر ذلك المؤثر السالب بشكل مباشر علي شخصية المستبد، التي تبدأ في الانتفاخ الذاتي،والتمدد الورمي،وبالتالي في التحول من شخص إلى "حالة"،أو ما يسمى بالمتفردد/المتعدد بمعناه السلبي المرضي.و يتفاقم الحضور الفاقع للذات في مقابل تغييب صوت الآخر ومحوه،ليرتفع بذلك صنم الفرد على حساب قصف وهدم وكنس الآخر.ثم ما يلبث ذلك أن يتطور بدوره إلى مرحلة تصعيد أنا الفرد كمشروع كلي جمعي،أرفع قامة وأطول ظلاً من مجمل" الضجيج" الإجتماعي والسياسي والاقتصادي،بل وكصاحب رسالة تتجاوز القومي إلى العالمي،وقد لا ترضى بأقل من ملامسة تخوم الكوني . وفي مرحلة اخرى متقدمة تنتج المعاقرة المزمنة للوهم،ما يتحول به التصعيد المرضي للذات،و فائض النرجسية الهائل إلى مجموعة من الأقنعة الجاهزة،فهو القائد المُلهم والجنرال القاهر، والمفكر الأريب والفيلسوف الحاذق، والكاتب والشاعر والخطيب.غير أن تأمل تلك الحال غالباً ما يكشف أن تلك الأقنعة لا تمثل في حقيقتها محاولة لأنسنة الوجه السلطوي،بقدر ما تؤكد على الأرق المزمن بالذات.ليصبح مشروع تثبيت الذات ومركزتها مُستدعى بلبوسات وألقاب وأقنعة مختلفة.وقد يبلغ ذلك التهوس في كثير من الحالات مبلغ الإدعاء بأنها ذات محفوظة، ومسنودة بالعناية الإلهية.وهنا أيضاً تتقدم البطانة لتلعب دورها المرسوم في حراسة أنا السلطة بالواجهات واللافتات الإيمانية، وتقديمها كنموذج طهراني، مبرأ وجدير بالاحتذاء.وهكذا تُستكمل الغيبوبة بمنزع تقوي زائف.غير أن المثير للحيرة أن الطاغية يظل متصالحاً مع كل تلك الازدواجات الشاقة والثنائيات المتناقضة. وهكذا يتحول التمركز حول الذات إلى لازمة وجودية وإضطرابات هوسية تذكرنا بقصة ذلك الديكتاتور الأسباني الذي ظل يتساءل وهو على شفا المنية "لماذا الوداع؟ ... إلى أين سيذهب الشعب؟ كمثال على تلاشي الواقعي والموضوعي في عتمات سيكوباتية دامسة، تعيش في عمى ووقر عما يدور حولها.ولعل في ذلك ما يفسر أن معظم تلك الديكاتوريات في مصارعها قد فشلت كلياً في التنبؤ بالهبات الشعبية، فهي ببساطة لم تمد بصرها أبعد من أنفها لترى شجر يمشي، أو عاصفة تتكور في جوف ترحال الغمامات الهادئة .ولعل ذلك يفسر أيضاً كثرة التداول الإسفيري لاقتباس مأخوذ من الكاتب الان باتون وهو يبكي بلده،حيث يقول :" في المرفأ المهجور يصفع الموج الحثيث صخر الأرصفة،وفي الدغل المظلم الصموت هناك صوت خشخشة ورقة تسقط، وخلف ألواح الواجهات الصقيلة يمضي النمل الأبيض دؤوباً ليقتات لب الخشب".