د. عبدالوهاب الأفندي (1) ربما كنا من القلائل، خارج الدوائر الشيعية ودوائر الانبطاح إياها، ممن التمس لحكام العراق في عهد الاحتلال العذر في استعانتهم بالأجانب وقبولهم التعاون مع سلطات الاحتلال. فليس هناك سند أخلاقي يفرض على العراقيين تحمل صدام حسين والحصار معاً لمجرد إثبات وطنيتهم. وإذا كان التخلص من النظام القمعي وإنهاء الحصار معاً جاء بمساعدة أجنبية، فإن مطالبة العراقيين برفض هذه المساعدة والتمسك بالقمع والحصار هو من باب الإلزام بما لايلزم. (2) إلا أن الإشكال الذي فرض نفسه بصورة فورية كان الفشل في إقامة نظام ديمقراطي بديل بعد سقوط النظام السابق، والوقوع تحت حكم أجنبي مباشر في البداية ثم بالواسطة بعد ذلك. وكأن ذلك لم يكن كافياً، فإن المواطن العراقي أصبح ضحية حرب طاحنة بين الميليشيات والكتل السياسية التي اختارت الصعود إلى مواقع الحكم فوق جماجم الأبرياء، وتدثر كل منها برداء الطائفية وإيقاظ النعرات والفتن من كل نوع. (3) ما أثبتته تطورات العراق، وما ارتكبته أيضاً القوات الغازية من فظائع هناك، هو أن الصدامية هي حالة لا شخص. فتعامل القوات الأمريكية الغازية مع العراقيين لم تختلف كثيراً عن تعامل النظام السابق، بما في ذلك استخدام سجن أبوغريب، الذي شهد تحسيناً لمبانيه ومرافقه صرفت عليه مبالغ طائلة، ثم استخدم لممارسات لم تختلف عما كانت عليه قبل 'التحديث'. وقد ذكرنا نائب الرئيس طارق الهاشمي أمس الأول باستمرار هذه الممارسات عندما أعلن نبأ موت أحد أفراد حراسته في المعتقل بعد أن تعرض لتعذيب رهيب. (4) ما تعرض له الهاشمي نفسه، رغم أنه لم يكن بريئاً من ممارسات ما بعد الاحتلال، كونه سكت عليها طويلاً، يذكرنا كذلك بالتصفيات التي وقعت داخل حزب البعث في عهد النظام السابق. فطبائع الاستبداد واحدة، وأنصار الطاغية غالباً ما يكونون أول ضحاياه. هذا مع أن قضية الهاشمي تطرح تساؤلات أخرى، منها إنه لو كان حراس الهاشمي ضالعين في جرائم إرهاب كما يقال، فمن هو الأحق بالمساءلة في هذا: أليس هم وزير الداخلية وقادة الأجهزة الأمنية ومعهم رئيس الوزراء، بحجم مسؤوليتهم المباشرة عن أجهزة الحماية؟ فكيف يسمح هؤلاء بأن يكون أحد أبرز قادة الدولة في حراسه حفنة من الإرهابيين؟ أم هل بلغت الفوضى حداً يصبح فيه من واجب كل مسؤول أن يؤمن حمايته بنفسه، بمعنى أن تكون حراسته 'ميليشيا' خاصة به؟ (5) هذه الجزئية تشير بدورها إلى خلل أكبر في المفاهيم وفي الدولة ومؤسساتها، بعد تحول الدولة إلى غنيمة طائفية، وتخوف الفئة المهيمنة من المشاركة الحقيقية في الحكم بعد أن ارتفع التأييد للمعارضة في الانتخابات السابقة. وما تعرض له الهاشمي من ملاحقة بعد فوز قائمته النسبي في الانتخابات يذكر بما وقع في مصر حين تعرض أيمن نور، زعيم حزب الغد، لتهم التزوير وسجن لمجرد أنه نال نسبة كبيرة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية ضد حسني مبارك. (6) ولكن النموذج العربي الآخر الذي يحث العراق السير على خطاه هو السودان، حيث أدى التمسك باحتكار السلطة هناك إلى تمزيق البلاد، ثم اشتعال النار فيما بقي منها. فهاهو العراق يتجه نحو التفكيك والانقسام بعد أن لمح رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني بالاتجاه نحو الانفصال إذا لم يراجع المالكي وشيعته توجهاتهم الدكتاتورية، وممارساتهم المذكرة بالعهد الذي طالما تعيشوا من تعداد مثالبه. (7) عندما قررت الولاياتالمتحدة غزو العراق بعد أفغانستان، كتبت وقتها أقول إن أهل إيران يكونون معذورين لو قالوا إن ذاك كان من كرامات الإمام الخميني عليه رحمه الله. فقد كان الإمام الراحل وخلفاؤه يجاهدون لإسقاط صدام وإقصاء الطالبان وإضعاف السعودية. وها هو 'الشيطان الأكبر' الذي طالما حارب إيران، يجد نفسه مسخراً لأداء هذه المهام نيابة عن إيران التي وجدت نفسها بين عشية وضحاياها، وبغير حول منها ولا قوة، القوة العظمى الإقليمية غير المنازعة. (8) لم تحسن إيران وحلفاؤها الجدد في العراق والمنطقة استغلال الفرصة التي ساقها الله إليهم، بل بالعكس، حولوا النعمة إلى نقمة عليهم قبل غيرهم. ففي إيران استقبل العهد الجديد بالانكفاء على الذات، والانقلاب على إصلاحات خاتمي لمصلحة خرافات أحمدي نجاد وترهاته وتنطعات المحافظين، قبل أن انقلاب هؤلاء على أحمدينجاد. وهاهو المالكي يجعل الناس يترحمون على صدام، وقد يقود إلى البلاد إلى الحرب الأهلية والتفكك. وما الحليف السوري لإيران والعراق بمنجاة من هذا الانحدار المتسارع إلى القاع. (9) لولا مخافة الإثم لقلنا إن هذا من كرامات صدام حسين. فهاهم خصومه يقعون في شر أعمالهم، فيذيقهم الله تعالى بعضهم بأس بعض، ويسلط عليهم الحصار والمقاطعة وعداوة الجيران والعالم كله. فخلفاء صدام في العراق وأعداؤه في إيران يصطرعون ويتخبطون، بينما يعيش نظام الأسد، عدو صدام الآخر، حالة احتضار مؤلمة وبشعة. ولكن أقل ما يقال عن هذه المصائب إنها جزاء وفاق على آثام من وقعت بهم، فكما جاء في محكم التنزيل: ' وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير'. (10) كما هو عادة الأنظمة في هذه الحال، يهرب النظام العراقي إلى الخارج، فيحتفل باستضافة القمة العربية، ويسعى إلى توثيق علاقاته مع إيران وسوريا، وكلتاهما في أزمة، ويستمر في علاقاته الملتبسة مع أمريكا والغرب. ولكن الأفضل للعراق وأهله أن يكف النظام عن تصدير مشاكله (ومعارضيه) إلى الخارج، ويسعى بدلاً عن ذلك إلى تعميق التفاهم بين العراقيين. القدس العربي