القبلية في السودان نقمة ... ولكن محمد خميس عبد الله [email protected] القبيلة وحدة أساسية في تركيب المجتمع. أما القبلية فتطلق على ممارسة العنصرية الإثنية ضد الآخرين. وللقبيلة دورها العظيم في بعض المجتمعات لاسيما المتخلفة. وذلك الدور وصفه بدقة القرآن العظيم في قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }. سورة الحجرات، الآية 13. وقد طبق أهل السودان مبدأ التعارف المذكور في أرقى صوره. فلا تكاد تسأل عن شخصٍ يسكن في القرى أو الأحياء الشعبية حتى يسألك أهل القرية أو الحي عن قبيلته. وكثيراً ما يكون الود والإخاء هو ما يربط بين هذه القبائل. السياسة وسلوك بعض السياسيين أدخل القبيلة في دهاليزها الوعرة, وجعلها المعيار لاكتساب الحقوق في الدولة منذ فجر الاستقلال, وإن أصبح الأمر أكثر سفوراً وبجاحة – للأسف - في عهد الدولة الإسلامية في الإنقاذ. فأصبحت مؤسساتٌ كاملة تسيطر عليها قبائل معروفة للقاصي والداني, وتكاد تغيب عنها كلياً معظم قبائل السودان المهمشة. وخير مثال لذلك وزارة الخارجية والبترول وجهاز الأمن. وقد تستوعب بعض العناصر في أدنى هياكلها (لزوم التنويع والعرض), وهذا أعلى درجات الاستهزاء بعقول الناس والاستخفاف بهم. وقد انتبه للتمييز القبلي وبشاعته السودانيون, بعد أن (مسهم طرف السوط) وكانوا سابقاً يتجاهلونه وينكرونه. وأصبحت القبيلة الآن مؤسسةً خطيرة في دولة السودان تعترف بها السلطة على استحياء. وتضعها في الاعتبار – خوفاً – عند تقسيم السلطة والثروة. وكرد فعلٍ لذلك رجع السودانيون إلى قبائلهم وأعراقهم (ومافي زول مقطوع من شجرة). حتى أن أولئك الذين ترقوا واتخذوا السودانوية قبيلة, ارتدوا يبحثون عن قبائلهم وجذورهم التي انقطعوا عنها ونسوها. فالذين استأثروا بالسلطة عبر أجيالٍ منذ الاستقلال, علموا السودانيين المخلصين, والمهمشين العنصرية القبلية فسبقهم إليها هؤلاء. وتفوقوا على أساتذتهم في الابتزاز بها. والناظر إلى التعيينات في مناصب الدولة يلحظ جلياً ذلك. وخاصةً تعيين ولاة الولايات.فلن يستطيع الحاكم في الخرطوم بعد اليوم أن يولي والياًَ من خارج الإقليم أو القبيلة, فيصبح كل إقليمٍ محكوماً بأبنائه. وأبعد من ذلك تطالب الأقاليم بنصيبها في السلطة المركزية في الخرطوم . وهذا ما لا يحدث في السودان طيلة العهود الماضية ( ومافيش حد أحسن من حد – مانحنا برضو أولاد بلد ). وإذا عاد التاريخ للوراء, في مثل هذه الظروف, فلن يكون خليفة الإمام المهدي من أقصى غرب السودان. ولن يكون وزير المالية في سلطنة الفور من أبناء الدناقلة. ولن يتولى قضاء سلطنة المساليت أبناء البرنو. لقد طغت القبلية - والعياذ بالله – حتى تشاحن أبناء الإقليم الواحد فيما أتيح لهم من سلطات الولاية, حتى اضطرت الدولة أن تأتي بوالٍ من قبيلةٍ ثالثة حسماً للصراع بين القبيلتين المسيطرتين في الولاية الشمالية. لقد مضى العهد الذي يتنقل فيه الموظف في كل ربوع السودان مؤمناً بخدمة أهله في تلك الأصقاع. فلن يقبلوا به اليوم لأنه ليس من قبيلتهم. رغم الحسرة على ممارسة القبلية في الحياة السياسية, ربما يرجى من ذلك خيرٌ لهذه البلاد. قال تعالى في محكم التنزيل : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }. سورة البقرة, الآية 216. لقد تمادى العنصريون في قبليتهم البغيضة حتى أجبروا الآخرين أن يسلكوا سلوكهم. وذلك قد يؤدي إلى التوازن, بعد أن بلغت القبلية مداها الذي لا مدىً بعده من الغلو والشطط. فيعود السودانيون إلى إعادة حساباتهم ومراجعتها,وقد تذوقوا مرارة الثمار في انعدام الثقة بين أبناء الوطن. وضياع البلاد بين هؤلاء وأولئك, حتى لا بواكي لها. وسيأتي اليوم الذي يدرك فيه السودانيون, أن أحط أنواع السلوك هو أن تعامل المرء على أساس قبيلته وعنصره, وليس على أساس كفاءته ومؤهلاته. ولكن دون ذلك اليوم أجيالٌ وأجيالٌ من البشر, نأمل ألا يطول.