*: فى ثمانينات القرن الماضى وحتى اشراقات العام الأول من تسعيناته كنت أعمل بالقسم السياسى بالسفارة الأمريكيةبالخرطوم وكانت يومها تحتل مساحةً مقدرةً من شارع علي عبداللطيف وتستقطع أيضاً مساحةً مقدرةً من الشارع من الناحية الغربية باستحكاماتٍ خرصانيةٍ أمنيةٍ عاتية تطل اطلالةً متعاليةً على احدى داخليات جامعة القاهرة فرع الخرطوم التى يبدو عليها من حيطانها الخارجية أن الفقر والمسغبة يأكلان من بداخلها..... لم يكن الشارع أى شارع علي عبداللطيف مغلقاً كما كان الحال عندما تفاقمت الأمور وتزايدت الكوارث وتكاثرت الشتائم وتواتر الصياح وظل الناغمون يتجمهرون كل صباح يستهدفون ذلك المبنى مرددين أكثر الألفاظ اثارةً وعدائيةً وتحرشاً للأفراد الأجانب ولسياسات بلادهم التى دفعتهم مصالحهم لاتخاذها وتبنيها متجاهلين للحصانات التى تشملهم التى تنص عليها الاتفاقيات الدبلوماسية التى تنظم وجودهم الدبلوماسى على أرضنا وتنظم وجودنا الدبلوماسى على أرضهم. من الطبيعى أن تتعارض تلك السياسات بل وأن تتناقض فى كثيرٍ من الأحيان ولكن الآليات السياسية والأمنية والدبلوماسية قمينةٌ بلا شك بمعالجة تلك التناقضات والخلافات والاحتكاكات بالصورة التى تحافظ على العلاقات وتعيدها الى ما ينبغى أن تكون عليه ذلك لأن الصراخ والنباح والتعدى والتحرش لن يزيد النار الا اشتعالاً ولن يزيد الأجواء الا توتراً فضلاً عن أنها جميعها ليست من آليات العمل الدبلوماسى الذى يتطلب الهدوء والرزانة واستخدام قواعد المنطق السليم والضرب على أوتار المصالح العليا حتى ينضج الطبخ على نارٍ هادئة.... كان السفير الأمريكى فى ذلك الزمان رجلاً كهلاً نشطاً يؤمن ايماناً قاطعاً أن مدخله لازالة ذلك التوتر هو العلاقات الاجتماعية الحميمة والصداقات الانسانية الودودة وهو مدخلٌَ له قيمةُ كبرى فى المجتمع السودانى ذلك لأنه يعمل على اذابة الجليد الجامد المتصاعد ويعمل على تفتيت الصخر الصلب المتراكم ويعمل على ترطيب الجو الجاف الساخن، فما كان يأتى من لقاءٍ الا وأعقبه بلقاءٍ آخر يأتى من السيد/ أحمد الميرغنى «رحمه الله» ليذهب الى السيد/ الصادق المهدى ثم يأتى من د. حسن الترابى ليذهب الى الأستاذ/ علي عثمان فى مقرهم أو مقر رئاستهم بالخرطوم 2أو فى البرلمان بأمدرمان وفى اليوم الذى يليه يذهب الى أحمد عبدالرحمن ومهدى ابراهيم وعلى الحاج وأحمد سليمان «رحمه الله» بالراية حيث كان الود فى ذلك الزمان متصلاً وكانت الأمزجة متقاربةً وكانت الصلات متجانسة وكان التقارب السياسى بين المجموعتين فى قمته حيث كان أكثر ما يميز قادة الجبهة الاسلامية فى تلك الحقبة أنهم كانوا يتحدثون لغةً واحدة ويسلكون منهجاً واحداً ويعبرون عن رأىٍ واحد بعكس قيادات الحزبين الكبيرين الحاكمين آنذاك الذين كانوا يعبرون عن آراءٍ متناقضة ولا يستكثرون أن تكون تعابيرهم تلك أمام أجانب يتناولونها بلا شك في تقاريرهم الى بلادهم ..... جاءني السفير الأمريكي ذات يومٍ في مكتبي وهو مترددٌ مما سوف يقوله، متخوفٌ مما سوف يطلبه سائلاً ايايَّ ان كان في الامكان الالتقاء بمحمد ابراهيم نقد فأجبته- وأنا غير متأكد مما سوف يكون رد فعل زعيم المعارضة الديمقراطية، وكان الأستاذ نقد رحمه الله يحمل تلك الصفه في ذلك الوقت - سوف أحاول من جانبي ترتيب مثل ذلك اللقاء... فور خروج السفير من مكتبي اتصلت بمكتب الأستاذ نقد بالبرلمان بأمدرمان وكانت الاجابة أنه لم يأتِِ ذلك اليوم وتركت مذكرةً في هذا الشأن، ثم ذهبت الى منزله وكان حينها بضاحية الرياض ولم أجده أيضاً ولكني لم أترك مذكرةً ظناً مني أن مذكرةً بهذا المعنى في مثل هذا الموقع لن تكون مجديةً وربما جاءت بنتيجةٍ عكسية خاصة وأن اللقاء المطلوب يمثل فيه الطرف الثاني السفير الامبريالي الرأسمالي لأكبر دولةٍ رأسمالية أمبريالية تتحكم في شئون العالم أو حسب مفردات ثقافة ذلك التاريخ « ثم يممت وجهي نحو الميدان ومقرها الخرطوم2 ووقفت أمام موظف الاستقبال متسائلاً ان كان الأستاذ نقد موجوداً فأجابني بالنفي ثم استطردت بأنني أريده لأمرٍ هامٍ وضروري وكان يغضبني كثيراً أن تنتهي مهمتي بالفشل وأنا الذي يثيرني الفشل، وتمزقني الهزيمة. ربما أحس موظف الاستقبال بذلك فخاطبني بأن بالداخل شخصيةً لا تقل أهميةً ووزناً عن نقد فقلت لا بأس من مقابلته وذهبت اليه وحقيقةً لم أكن مرتاحاً لأن أجلس أمام ذلك الوجه المتجهم أو تلك الشخصية العدائية أو ذلك الانسان الشكوك««رحمة الله تغشاه في الأعالي»» فشرحت له مهمتي وكنت أحس بضرورة أن ينتهي اللقاء بأسرع ما يمكن وبأقل قدرٍ من الخسائر!!! فأجابني صارخاً في وجهي««خلاص انتهيتوا منهم كلهم وجندتموهم كلهم ولم يتبقَ لكم غير نقد، أفهم اننا لن ندعْ نقد يوافق على مثل هذا اللقاء»»!! كانت ثقافتنا وتربيتنا في ذلك الحين لا تسمح لنا بالتطاول على من يكبرنا سناً الا أنني بدأت أغلي من الزعل وبدأ رأسي ساخناً ثقيلاً ترتجف كل عضلات جسمي فأجبته بلا وعي أنك رجلٌ غير جدير بمهام القيادة طالما كان ذلك رأيك في رئيسك بعد كل هذا العمر والخبرة التي اكتسبتها أو كان من المفروض أن تكون قد اكتسبتها من معارك الحياة المختلفة في ميادين الحياة الشرسة... قلت ما قلت وخرجت من ذلك المكتب الضيق الذي ضاق أكثر بذلك التعليق السمج الذي أدلى به صاحبه... خرجت وأنا مندهش لعدم ثقة ذلك القيادي التاريخي في زميله الذي يفوقه قيادةً تاريخية في الحزب الذي يضمهما... وقررت من وحي تلك الحادثة أن أعود مرة أخرى الى منزل الأستاذ نقد علََّني أجده لأخبره أولاً بمهمتي ولأخبره ثانياً بما حدث لي في الميدان من ذلك القيادي وبالعدم أترك هذه المرة مذكرةً صغيرةً أشرح فيها غرضي من الزيارة... طرقت على الباب، قابلني الأستاذ نقد، أوردت في كلماتٍ قصيرة هدفي من الزيارة، رحب الأستاذ نقد وأضاف «« يأتيني هذا العصر عصر نفس اليوم ليتناول معي كوباً من الشاي وكم كانت فرحة السفير الأمريكي عظيمةً بذلك الخبر حيث ذهب اليه في عصر نفس ذلك اليوم»».. والتقاه في مقر اقامته بضاحيه الرياض!!!أما أنا فقد نسيت ما حدث لي في الميدان من ذلك القيادي التاريخي... لقد أنساني نقد الانسان بمعاملته الانسانية الرائعة تلك الحادثة الكريهة التي ألمت بي في ذلك المكتب القابع في مبنى صحيفة الميدان. تجبرنا الأحداث ، أحداث الذكريات أن نعقد المقارنات وكان لا بد لنا أن نقارن بين نقد ذلك الرائع الزاهد الذي ملَّت التتضحيات الكبيرة التي قدمها والتي أدمنها اصراره عليها، وآخرين يعتقدون أنهم يمتنون علينا بما يرونه نضالاً في سبيل أن نحيا حياةً حرةً كريمة!! ألا رحم الله الأستاذ نقد بقدر ما أعطى وبقدر ما أنجز وبقدر ما أوفى وبقدر ما ضحى وبقدر تقدمه الصفوف وبقدر أطنان الوعي والفكر والجهد الذي بذله راضياً فخوراً بخطىً كتبت عليه أن يمشيها... اللهم انه فقيرٌ نزل بساحتك اللهم أكرم نزله ووسع مدخله وأغسله بالماء والثلج والبرد وأنزله منازل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. *الأمانة الوطنية لمنظمة التجارة العالمية الصحافة