كنا بدأنا ثنائية حول الجد والهزل البلدوزري، نسبة للسيد مبارك الفاضل، الذي أشعل النيران في حزب الأمة القومي بمنطق (يا فيها يا أضفيها) وكان يأمل أن يترك له مجال لحضور اجتماعات الهيئة المركزية يومي 6-7 أبريل 2012م، حتى ولو أن الدستور لا يتيح ذلك، مظهرا كفرانه الأصيل بالمؤسسية والمؤسسات. وسوف نغادر هذه المحطة الهزلية وقتيا ريثما نتحدث عن أمور جدية جرت في دار حزب الأمة بالموردة بأم درمان، يومي الجمعة السوداء والسبت الأخضر. جمعة سوداء قال بعض قادة جيش الأمة للتحرير (سابقا): معظم هزائمنا المدوية كانت في يوم جمعة، كرري (2سبتمبر1898م) وأم دبيكرات (24نوفمبر1899م)، ومعظم انتصاراتنا الباهرة كانت يوم الاثنين، كما في شيكان (5 نوفمبر 1883م) وتحرير الخرطوم (26 يناير 1885م)، ولذلك كنا نحرص في جيش الأمة للتحرير أن نغزو بالاثنين ونتجنب الجمع. والحقيقة فإن للمهدية انتصارات بالجمع كذلك كما في أبا الأولى 12 أغسطس 1881م، ولكن الهزائم الأبلغ كانت جمعية. كان يوم الجمعة السادس من أبريل الجاري يوما أسود بعيدا عن أية بشريات نصر. فقد حدث فيه استقطاب كبير حول تقرير الأمين العام، وبدا أن الخلاف لا يحسم إلا بالتصويت. وحول وسيلة التصويت اختلف الناس وحسم لصالح التصويت السري، وبالرغم من غضب البعض من اتباع هذا الخيار الذي طالبت به قلة، إلا أنه الخيار الديمقراطي السليم والمتسق مع أسس الديمقراطية الصحيحة للاقتراع، فهو يضمن أن يصوت الإنسان بحسب ضميره وليس لأية اعتبارات أخرى كالمجاملات، أو الخوف من ذي سلطان أو الطمع فيما عنده، أو أي مصالح مرتجاة أو وعود مسجاة، فكما قلنا من قبل إن الأولى في التصويت ليس بر تلك الوعود التي هي أصلا باطلة، بل بر الحق والحقيقة والشهادة أمام الله سبحانه وتعالى بما يراه الفرد حقا وليس أمام غيره. إن التصويت العلني برفع الأيدي أو الوقوف يصلح فقط في حالة عدم وجود استقطاب حاد لأنه في حالة وجوده، ومع أعداد كبيرة بالمئات فإن ضبطه صعب، علاوة على ما ذكرنا من اعتبارات النزاهة، وهناك أحزاب تصر على أن يكون التصويت علنيا، كما حدث في انتخابات الحركة الإسلامية قبل أعوام قليلة، وذلك بأن يرفق صاحب الصوت بطاقته، فيكون مصوتا لصالح وظيفته وأي مصالح أخرى حصل ويحصل عليها من الجهة المدعومة بالخط الرسمي، لذلك كنا من المقاتلين ألا تتسرب إلينا هذه الأمراض. والحمد لله أن المنصة اختارت في النهاية التصويت السري الذي يظهر بكل أمانة ما يعتقده أعضاء الهيئة المركزية حول التقرير. فبات الناس بالدار مترقبين النتيجة التي ظهرت صباح يوم السبت. نيران خارجية وداخلية وكان البلدوزر الهادم بعد أن أقفلت أمام وجهه أبواب الهيئة المركزية بالحق الدستوري وهو فيها راغب، مثلما أغلقت من قبل أبواب القصر وهو له ولا يزال عاشقا، يعمل على إشعال النيران من على البعد، مالئا الصحف بترهات ولا يزال، وقوّل رئيس الحزب الحبيب الصادق المهدي ما لم يقله حول خططه وآرائه في القيادات من حوله، والصادق ما عاد يحادثه إلا مجاملة وحذرا، فقد خبر مخبره وذاق سمه النافث ونكوصه عن العهود حتى جرت دمعته حسرة على ما أنفق فيه من محبة في هواء (في الواجهة) الطلق قبل عشرة أعوام. ولكن أحاديثه التي تلقفتها الصحف وهو يوزعها يمنة ويسرة خلفت جوا من التشويش خيّم على الاجتماعات. وفي الاجتماعات حضر نفر كريم من الأحباب (التغييريين الذين استلفوا من جماعة الفريق صديق اسمهم: التيار العام) وكانوا غاضبين وقال قائلهم إنهم عادوا (كيتن) في الآخرين. تحت هذه النيران الخارجية والداخلية علا في الأفق دخان الإشفاق مما سيجري في هذه الاجتماعات التي يفور باطنها، وظاهرها من قبله العذاب والكيد البلدوزري المطلق في صفحات الصحف. نعم كان البلدوزر حاضرا برغم غيابه ولكن في الهدم وشعللة اللهب. تمنى الحادبون في حزب الأمة ألا يصبح صباح عليهم ورأوا باطن الأرض خيرا من ظاهرها وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكل النتائج ستؤدي لكارثة، وكل فريق متيقن من الفوز. وأيقظ البعض نصائحهم القديمة عاضين أصابع الندم: ألم نقل لكم لا داعي لانعقاد الهيئة المركزية في هذه الظروف الاستقطابية لأنها ستمزق هذا الحزب شذر مذر؟ وذهب حبيب لحبيب يتوجس وقال أوسطهم طريقة: لا تنقذنا إلا عناية الله! سبت أخضر كانت جلسة السبت المنعقدة ظهرا كأنما دراما إلهية. كيف اجتمعت كل تلك القلوب فجأة على الدكتور إبراهيم الأمين الذي لوح به البعض بداية في وجه الآخرين؟ كيف نزلت الحكمة على لسان الفريق صديق إسماعيل المهزوم بكل رباطة الجأش وكل المسئولية التي تحدث بها بدون أن يرمش جفنه مؤكدا التزامه بالقرار المؤسسي، وبالأمس جماعته أثاروا غبارا كثيفا حول التصويت السري؟ كيف سما بتأكيداته حتى أبكى البعض وتأثّر حتى أولئك الذين كانوا بالأمس يستصرخونه ويتوعدونه بالويل والثبور فهرعوا إليه مسرعين بعضهم يضمه وآخر يقبله في رأسه وكلهم له حامدون؟ وكيف سما دكتور إبراهيم الأمين بشعوره العميق بالامتنان للجميع وأنهم جميعا حتى مناصري صديق بعض سنده وعضده ،وأنه لن يقصي أحدا لأن الجميع قبلوا به ،فهو لم يأت بجماعة ولا لجماعة في الحزب ضد الأخرى؟ قال لي أحد الأحباب من مناصري الدكتور إبراهيم الأمين: لقد عملنا بجد، وكنا نتوقع النصر فالخطوة الأولى إسقاط تقرير الأمين العام، والثانية هزيمته إذا ترشح أو هزيمة مرشح جماعته وانتخاب دكتور إبراهيم الأمين، هذا كل ما كنا نصبوا إليه، ولكن ما جرى ما كان يمكن لأحد تخيله ولا التخطيط له. وقال الدكتور إبراهيم الأمين: لقد كنت مشفقا من عقد الهيئة المركزية، وكنت في مجلس التنسيق الأعلى داعيا إلى تأجيلها حتى تهدأ النفوس، و»لكن ما حصل كان مختلفا وبعيدا ولم يكن خيالنا يتوقع أن يخرج الاجتماع بهذا المستوى»، وعبّر بعد ذلك عن انزعاجه من أسلوب البلدوزر قائلا: إن الشتائم والسباب ليست من طبائع الأنصار. نعم، السبت السابع من أبريل 2012م كان يوما مشهودا في تاريخ حزب الأمة، ففي تطور غير متوقع البتة أطفئت كل النيران، وكال الرماد نافخي الكير وعرّابي الزوابع. ومهما كان لنا من تحفظ سابق على موقف الفريق صديق محمد إسماعيل النور المناصر للمشاركة في النظام، والذي برغم التزامه الصارم بالقرار المؤسسي أضر بواجهة الحزب السياسية لأن «المحرش ما بكاتل» فهو غير مقتنع بمصادمة النظام وبالتالي يصعب أن يكون رأس حربتها. أقول مهما كان من هذا التحفظ، فقد وقف هذا الرجل موقفا عظيما التزاما بالقرار المؤسسي الديمقراطي الحر، وتأكيدا حارا على مساندته للكيان، وحرصا على رتق الجراح بعدم الترشح لا هو ولا آخر من مناصريه برغم فارق الأصوات الضئيل الذي يشي بإمكانية كبيرة للفوز مع مرشح آخر، وكان بذلك عرّاب النقلة الجديدة في الحزب التي يجد فيها الجميع أنفسهم في مؤسسته بلا شعور غالب أو مغلوب. وأعطى دروسا أخلاقية وتنظيمية بالغة لأولئك الذين (خرخروا) حينما هزمهم في 2009م محتجين بالزيادات، ثم جاءوا وقبلوا النتيجة التي أحبوا بنفس تلك الزيادات في 2012م. إن التحية للفريق صديق إسماعيل واجبة، وقد حيته كل عضوية الهيئة المركزية من أحبه فيها ومن قلاه. وشكل انتخاب الدكتور إبراهيم الأمين بالإجماع مسئولية ضخمة على عاتقه، فقد سمته في البداية جماعة منهم من يريد أن يستأثر به لنفسه ويسوم الآخرين خسفا و(كيتن: هل من الكيد أم الكي؟)، ولكن انتخبه حقيقة الجميع، فهل سيدعونه يكون أمينا عاما لحزب الأمة أم يتمسكون به لهم؟ إن لدكتور إبراهيم مقدرات فكرية وتاريخا تنظيميا ونضاليا أبلغ من جميع ممن يودون أن يخلو لهم وجهه، وهو قامة حزبية فوقهم، وله صلات ممتدة بالجميع إذ يكذب من يقول إنه كان في هذا أو ذاك من المحاور التي ابتلي بها حزبنا، وربما كل الأحزاب. فالشللية أحد أدواء العمل العام في السودان حتى أن شاعرنا محمد سعيد العباسي انتقدها منذ أيام مؤتمر الخريجين وسماها بالتحزب، وذلك قبل قيام الأحزاب قائلا: إن التحزب سم فاجعلوا يا قوم منكم لهذا السم ترياقا ضموا الصفوف وضموا العاملين لها لكي تنيروا لهذا الشعب آفاقا آن لنا أن نحلم إن الآمال كلها الآن معقودة أن يستطيع الدكتور إبراهيم اهتبال هذه الروح الوفاقية الوليدة ،واهتبال (موسم الهجرة إلى حزب الأمة) الذي ولد على يديه، فأعلن الكثيرون عودتهم بدءا بالأحباب في التيار وفيهم قسم مهم من الطلاب، والحبيب نجيب الخير، والحبيب د. التجاني بدر، وغيرهم. إنه الأنسب فعلا بما عرف عنه من حيادية وصلات ممتدة، واستقامة ونزاهة، وموقف سياسي غير ملتبس، أن يعبر بالحزب لفجر لا تحزب فيه ولا تشرذم ولا طحان، ليتصدى لمنازلة البطش الحكومي وولادة الفجر الديمقراطي المرتقب، برغم تدخلات خارجية حكومية وبلدوزرية مضادة، وداخلية ممن يرى الأمين فوله الذي زرعه وحده ،ويجب أن يأكله وحده ،حتى وإن دخل الجميع لدى الحصاد. أما قول البعض من أهل (المذكرة البلدوزرية) من أن الهيئة المركزية لبت طموحاتهم فواقع الحال يكذب المقال لأن مطالبتهم الأولى هي استقالة رئيس الحزب، مربوطة بضجر من خطه في التغيير وليس إسقاط النظام، وعدم فصل العقيد عبد الرحمن الصادق من الحزب، والهيئة المركزية أمنت على حديث رئيس الحزب من أن سقف التحرك للإسقاط مربوط باستعداد الشارع ولم تقل بكلامهم، أما إقالة الرئيس ومسألة العقيد فقد صمتوا عنها لأن الأولى ليست من صلاحيات الهيئة المركزية، أما الثانية فيُسألون لماذا صمتوا عنها صمت القبور؟ وجملة القول إن الهيئة لم تحقق من أمانيهم شيئا ولو انعقد مؤتمر عام فسوف يذهب بأمانيهم إلى مزبلة الأحلام المستخفة والأماني الخرقاء. حقا، لقد كان يوم السبت يوما مخضرا بالآمال، وعلى العهد الجديد آن لنا أن نحلم، وحقا: مبروك يا حزب سبتك بشوفو اخضرّ مبروك يا حزب سويتا تاني العمرة مبروك يا حزب من الشقاق تنترّ النور والأمين أبناء إرادتك حرة وليبق ما بيننا الراي العام