[email protected] لا زلت اذكره.. كنت صغيرا .. وكنا نترقب قدوم العيد في لهفة وشوق وملابسنا الجديدة تحت وسائد نومنا .. قبل العيد بعدة أيام جاء ليسلم على جدي وجدتي لامي وليسلم على أمي وأبي وخالتي وأخوالي .. كان قد عاد في إجازة بعد غيبة بضع سنوات أمضاها مغترباً عن وطنه وبيته وأسرته.. لم يمضي في القرية غير يوم واحد بين والديه وزوجته وصغاره وأهل القرية حتى خرج في صباح اليوم الثاني ليُسلّم على أهله وليصل رحمه خارج القرية فتلك كانت عادته قبل أن يسافر. في اللحظة الأولى التي رايته فيها - وأنا لا أزال طفلا – دخل قلبي من دون استئذان ، كان جسده فتيا ،وكان وجهه صبوحاً إلى حد مفرط ، وكانت ابتسامته تملأ ذلك الوجه الصبوح فتجعله يتلالا بضياءٍ غريب يجذبك إليه مثلما يجذب الضوء الفراشات ، ويجعلك تقع في اسر حبه ، و في قيد الارتياح إليه دون أي مقاومة .. كان يعلق على كتفه كاميرا فوتغرافية في زمنٍ كان الناس يُعلقون فيه على أكتافهم ( مخالي الدقيق ) وشنط قماش الدمور .. بالطبع كطفل أعجبتني الكاميرا جدا وسحرني ذلك الحزام العريض ذي الحلية المعدنية الذي ربط به وسطه وتلك الجزمة السوداء البراقة وتلك الأناقة التي تبدت في كل ما كان يلبسه والتي جعلته يبدو كنجم سينمائي شهير لكن الذي أعجبني أكثر كان هو تلك المقدرة الهائلة على إشاعة البهجة ونشر الفرح الذي كان يحيط به كهالة نورانية فقد كان قادرا ومن غير أي شيء وبمجرد وجوده في مكان ما أن يجعل الفرح والسرور يحلّان بذلك المكان ويقيمان فيه . قضى معنا نصف نهار وغادر عائدا إلى قريته بعد أن غسل في ذلك الوقت الوجيز احيا ذكريات جميلة وبعد أن رسم الابتسامة على كل الوجوه . وجاء العيد كعادته يلبس زينة السرور .. وكعادتنا في كل عام ذهبنا في منتصف اليوم الأول إلى القرية لنُعيّد على الأهل هناك ولنشهد مناسبات الزواج التي كانت القرية لا تكاد تخلو منها أبداً في أي عيد.. هناك في القرية وجدته لا زال يحمل كاميرته يصور كل من وكلما تقع عينه عليه ووجدته مستمر في نشر الفرح وفي توزيع الابتسامات في سخاء طائي كبير ... ووجدت الناس يتحلقون حوله اينما ذهب وحيثما حل .. فتبعته وثلة أطفال في مثل عمري مسحورين بالفلاش الذي تصدره الكاميرا كلما صور صورة جديدة مُصرين على ان يقوم بتصورينا مرة بعد مرة فكان يستجيب لنا عن طيب خاطر ليلمع الفلاش في وجوهنا فيغشى بصرنا لبرهة وجيزة ننطلق بعدها صارخين فرحين مُهللين .. انقضت أيام العيد .. وانتهت المناسبات بانتهائها .. وغادرنا القرية عائدين إلى بيوتنا ، وجاء بعد عدة أيام أُخرى ليودّعنا عائدا إلى ليبيا ، ليبيا التي كانت في سبعينات وثمانينات وتسعينيات القرن الماضي غيابة جب ابتلعت شباب و أحلام وآمال الكثير من أبناء هذا البلد الذي كان طارداً جداً والذي لا زال يطرد الكثيرين برغم تغير الظروف والزمان .. و... سافر .. بقيت منشغلا به بعد ذلك لعدةِ أشهُر وأنا أسال عنه كل صباح إن كان سيعود مرةً أُخرى حتى أرى صوري التي معه وان كان سيقوم بتصورينا من جديد أن عاد.. ثم نسيته بعد ذلك فبت لا اذكره إلا عندما اذهب إلى القرية فالتقي والدته أو زوجته أو احد أبنائه .. كان ذلك الوجه الآسر الباسم يقفز إلى ذهني مُباشرة بمجرد أن أرى احد أبنائه أو بمجرد أن أرى والدته تلك المرآة الصابرة أو بمجرد أن أرى زوجته التي كان متماسكة في السنوات الأولى التي تلت غيابه الأخير. ومرت سنوات خمس ولم يعد فبدا الألم يرسم لوحته على وجه والدته ، وبدا الحزن والمعانات يخطان خطوطهما على وجه زوجته ، وبدأت الحيرة والارتباك ينقشان نقوشهم على وجوه أبنائه الثلاث وبناته الاثنتين ، وبت اسمع الكثير من الاستنكار عن تأخر عودته لوالديه ولزوجته وصغاره ، وأصبحت مطاردة أخباره هي الشغل الشاغل لوالديه و لزوجته ولأبنائه وللكثيرين ممن كانوا حولهم يشدون من أزرهم ، ويعينونهم على مصاعب الحياة من أفراد الأُسرة لكبيرة فلم تكن وسائل الاتصال متاحة في ذلك الوقت وكان السبيل الوحيد لمعرفة الأخبار هو أن يعود احد أبناء القرية أو احد أبناء القرى المجاورة ويكون قد التقى به في ذلك البلد البعيد .. بعد كل خبر ايجابي كانت شعلة الأمل تبرق في عيون والدته التي كبرت في السن ولزمت الفراش.. وكانت مساحة الرجاء تتسع في صدر زوجته .. ولكن ما أن تمر برهة أخرى من الزمن حتى ويعود الانتظار الرتيب يفرض نفسه وحتى يعود الألم أقوى مما كان ليخيم في النفوس . وبعد عشر سنوات على الغياب خبا بريق الأمل في عيني زوجته ونزلت سكينة اليأس التام وراحته على قلبها فما عادت تنتظر رجوعه ورضيت بحياتها كما هي ولكن والدته تحولت إلى آلة تسجيل تكرر فقط سؤالها لربها بان يمنحها فرصة رؤيته قبل ان تموت باتت أمنيتها الوحيدة في الدنيا والتي تهمس بها في صحوها ومنامها في صباحها ومسائها في ليلها ونهارها وتنادي بها بصوتها الواهن في أيام مرضها وضعفها وهزالها هي ان لا تموت قبل أن تضم ذلك الابن إلى صدرها وان لا يوارى جسدها التراب ( قبل أن تشم ريحته )..هكذا كانت تقول ولكن ذلك الابن بخل عليها بتلك الأمنية التي ما كانت ستكلفه أكثر من تذكرة طائرة لا ظنه عجز عن الحصول عيها طوال تلك السنين الطوال العجاف ، وبعد خمس سنوات أُخرى عجزت والدته عن المقاومة وما عادت تستطيع الانتظار أكثر فماتت بحسرتها وألمها . ثم لم يلبث والده أن لحق بها بعد فترة وجيزة . فاضطر ابنه الثاني أيضاً لترك الدراسة مثلما فعل شقيقه قبل ذلك بمدة طويلة لعجزه عن تسديد الرسوم وشراء الدفاتر من جهة ولأنه من جهة أُخرى أراد أن يساعد والدته في تربيه إخوته الصغار فتقلا معا في الكثير من الأعمال والمهن المؤقتة ( فران ، بناء ، عسكري ، الخ ) وكبرت البنتان وتزوجتا ، وتزوّج الابن الثاني بعد أن وجد عملاً في إحدى الشركات وبقى الابن البكر اعزبا .. وتركت الأسرة القرية وانتقلت للإقامة في العاصمة . وفجأة من غير سابق اتزار وبعد أكثر من عشرين عاما من الغياب عاد ذلك الأب .. عادا كبيرا .. مريضا .. مفلسا .. بعد أن هدّت الأمراض جسده .. ليصبح عبئا إضافيا على الأسرة الصغيرة التي تُناضل من اجل البقاء على قيد الحياة ولكن ولان زوجته كانت امرأة من صلب رجال بحق لا يجرمنهم شنئان قوم على أن لا يعدلوا .... ولان بناءه كانت تجري في عروقهم دماء الرجولة والشهامة والأصالة والكرم التي ورثوها من ذاك الأصل الطيب فقد صفحوا عنه جميعا واستقبلوه بكل ترحاب واحترام وود دون أدنى إشارة إلى ما نالهم طوال السنين السابقة بسبب إهماله وبسبب غيابه .. ومن اجل راحته ومن اجل أن يوفوه حقه كاملاً كأب حتى وان كان قد قصر في حقهم فقد عادوا وانتقلوا بالأسرة مرة أخرى إلى القرية - مثلما طلب وأراد - حتى يجد هناك الرفقة والأنس وراحة البال .. ولكنه لم كثيرا حتى لحق بوالده ووالدته وبكل الراحلين قبله الذين رحلوا في سنوات غيابه دون أن يتمكن من أن يرفع يديه ليطلب لهم الراحة والرحمة والغفران .. لظروف سفري المتكرر رايته بعد عودته وقبل وفاته مرة واحدة خاطفة .. لم تتح لي فيها فرصة أن اسأله عدة أسئلة كانت تلح علي خاطري باستمرار وان أتيح لي فيها فرصة أن اتامل ذلك الوجه الذي رايته في طفولتي مرة أخرى بعد أن تبدل كثيرا.. كان بريق الفرح قد خبا في العينين اللتين كانتا ينبضان بالحيوية والحياة وكانت الابتسامة الكبيرة قد تحولت إلى خيط رفيع باهت فوق الشفتين الجافتين بحيث تصعب رؤيتها وكان الجسد الفتي قد تحول إلى شبه حطام وكان الشباب والقوة والفتوة قد رحلوا إلى الأبد ومن دون عودة .. فلماذا يضحي البعض منا بسعادة أحب الناس إليهم .. ولماذا ينزعوا راحة بالهم .. ويكدروا عيشهم .. ويصبحوا إضافياً لهمومهم بغيابهم لسنوات وسنوات ؟؟ لماذا يتحوّل البعض منا من صانع للفرح إلى صانع للحزن والهم والألم لأقرب الناس إليهم وأحبهم إلى قلوبهم ؟؟ لماذا يربط الكثيرين بين كمية الدولارات التي في جيوبهم وبين العودة للوطن للقاء الأحبة والأهل والخلان ؟ لماذا يرتضي البعض أن يصبح عاقاً لوالديه ، وظالما لزوجته ، وباغياً على أطفاله لأنه لا يستطيع أن يعود إلا إذا عاد وفق صورة معينة ، رسمها في خياله المريض وظل يحلم بها وبتحقيقها . ففي عرفي أن كل من يترك والديه خلفه ويحرمهم من رؤيته من دون سبب منطقي يعجزه تماما عن العودة إليهم بين حين وحين هو شخص عاص وعاق وباغ وظالم .. كيف يحتمل البعض أن يجعل والدته وسبب رضاء ربه عليه.. تُعاني لسنوات وسنوات تموت في اليوم مائة مرة ويستمر هو في غيه وغيابه حتى ترحل دون أن تراه ؟ لماذا يضع البعض منا نظرة المجتمع أولوية ، ويتصرف على أساسها ، ويقبل أن يبقى في منفاه الاختياري ان لم يستطيع العودة بالصورة التي تجعل ذلك المجتمع يتحدث بعودته وبما أتى يحمله في جيوبه حتى وان كان الثمن هو تمزيق قلوب رقيقة ، وقتل أفئدة بريئة وحتى ان كان ذلك على حساب أمه وأبيه وصاحبته وبنيه وفصيلته التي تؤويه ؟ لماذا يذبح البعض بنصل الحرمان واللامبالاة أماً لو خيروها بين الدنيا وما فيها وبين رؤيته لاختارت رؤيته ؟؟ أيها المغتربون عودوا لرؤية الأحباب أيا كان حال جيوبكم فالذين يحبونكم لن يكترثوا كثيرين سواء أن عدتم فقراء أو أو عدتم أغنياء والذين لا يحبونكم سيجدوا فيكم موضعا للانتقاد حتى وان أتيتم بملء الأرض ذهبا .. بهاء جميل ..