بقلم: عمر الدقير عمر الدقير [email protected] في المحاضرة التي ألقاها الأسبوع الماضي بمركز راشد دياب للفنون، قال السيد الصادق المهدي: "مهما اختلفت رؤانا السياسية، عندما يُمَس الوطن بسوء تتحد المشاعر كما اتحدت غضباً تلقائياً عندما احتلت هجليج واتحدت فرحاً جماعياً عندما عادت إلى حضن الوطن .. أهل السودان في أمر الوطن جماعة واحدة بلا أحزاب. يستطيع الحزب الحاكم أن يُجيّر هذا الشعور الهادر لصالحه فيكرس الاستقطاب، كما يستطيع أن يسعى لتجسيده في حوكمة راشدة تصفي دولة الحزب، التي لم يجن السودان منها إلا الهشيم، وتتطلع لجمع الصف حول دولة الوطن". الخطاب السياسي لنظام الإنقاذ، عقب انجلاء غبار أحداث هجليج، يؤشر إلى أن النظام غير راغب في التقاط اللحظة وإطلاق المبادرة لجمع الصف حول دولة الوطن أو هو غير قادر على ذلك بسبب الإرتهان لثوابته الذاتية الضيقة التي تعتبر الوطن والنظام دائرتين متطابقتين لهما محيط واحد ومركز واحد، بحيث يصبح الدفاع عن الوطن دفاعاً عن النظام ومعارضة النظام معارضة للوطن. ولذلك يحاول الخطاب الصادر من أركان النظام وآلته الإعلامية أن يحشر الناس بين ثنائية الإحتلال والإستبداد حين يبدو مرتاحاً لتفسير الشعور الشعبي الرافض لاحتلال هجليج والمبتهج بتحريرها بأنه تفويض للنظام وتأييد لنهجه الأحادي وقبول بالواقع الغاشم الذي تسبب فيه .. كأنه استعصى على النظام أن يستوعب البعد الثالث لثنائية الإحتلال والإستبداد، وهو أن يكون الإنسان ضد احتلال أرضه وفي نفس الوقت ضد الإستبداد فيها، فالإحتلال والإستبداد ليسا ضدين لا يجتمعان، بل هما وجهان لعملةٍ واحدة. وما يسمى بالخيانة العظمى ليست محصورة في مساندة الإحتلال، فقد تكون أيضاً بالإنقلاب على إرادة الشعب ومصادرة الحريات والحقوق الأساسية ووضع الآخرين جميعاً في دائرة الإقصاء والتهميش. بكل أسف، خلا الخطاب الحكومي المُحتفِل بتحرير هجليج من القليل من المسؤولية الوطنية وتضمن الكثير من الإنزلاقات السُّلطوية. صحيح أن الخطاب يتضمن دعوة للحوار والوفاق لكن يبقى هذا مجرد كلام في الهواء وزبداً رابياً لا ينفع الناس، لأن الدعوة للحوار والوفاق لا تتسق مع تقييد حرية التعبير والضمير بمراقبة الصحف ومصادرتها وحظر كتاب الأعمدة وسوق الناس للإعتقال التحفظي دون محاكمة، ولا تنسجم مع تخوين المعارضين بالرأي والتهديد العنيف بحسمهم. إنه كمن يرفع سيفاً في وجه منافسه، ثم يدعوه إلى حوار هادئ ومفيد! .. والسيف إذا رُفِع أبطل الخيار ولم يترك مجالاً لحوار. إن أدنى درجات المسؤولية الوطنية تقتضي أن يراجع النظام كتاب سياساته ويعيد النظر في المسيرة الخاطئة التي أدت إلى كل هذا التراجع ولم تُثمر غير محاصيل الشقاء والعناء، وأن يتجه إلى إجراء إصلاح حقيقي يبدأ بفصل الدولة عن حزب المؤتمر الوطني والدخول في حوار صريح وجاد ومتكافئ مع كل ألوان الطيف السياسي، بما في ذلك الفصائل المسلحة، لنزع عوامل الإحتقان والتوتر ودرء التشرذم والإنقسام وخلق عقل جماعي وطني يواجه الراهن المأزوم ببرنامج إسعافي تقوم بتنفيذه حكومة إجماع وطني حقيقي، لتفكيك كافة القنابل الموقوتة والمحافظة على وحدة ما تبقى من تراب الوطن وعلى تماسك نسيجه الإجتماعي وسلمه الأهلي وإعادة هيكلة البنيان الإقتصادي لمحاربة التوحش في الفقر والبطالة والغلاء وضيق العيش والبؤس العام واجتثاث غول الفساد والنهوض بالعملية الديموقراطية بإعلاء قيم العدالة والمواطنة المتساوية وإطلاق الحريات وضمان استقلال وفعالية المؤسسات القومية وتوفير الشروط اللازمة لإجراء إنتخابات عامة حرة ونزيهة .. ليس هذا أمراً مستعصياً لو توفرت الرغبة الصادقة ولكنه، من جهة أخرى، لا يحتمل المراوغة والتسويف، لأن كل يومٍ يمر يعني المزيد من تفاقم وتعقيد الأزمة في السياسة والإقتصاد والمجتمع، كما يعني جهلاً بجيولوجيا البراكين الخامدة، فليس بوسع السودانيين أن يحبسوا إرادة التغيير في صدورهم للأبد، وهم الذين جرَّبوا مضاء هذه الإرادة مرتين في ربيع تاريخهم الحديث.