[email protected] (فلفظ الشريعة يعني – في اللغة اصلا – مورد الماء أو مدخله وهو منهاج الشيء أو الطريق اليه، محمد سعيد العشماوى – اصول الشريعة)، وقد استخدم لفظ الشريعة في الرسالة الإرشادية بمعناه البياني أي المعني الذي تعارفت عليه المجتمعات في تاريخ الرسالة، اما المعني الرمزي الذي صاغته النخب بعد ذلك لكل الالفاظ الواردة في الرسالة (ومن ضمنها لفظ الشريعة) هي نتيجة لاعادة استيعاب تلك الرسالة وفق الوعي الجيني المجتمعي، وقد دونت النخب ترميز اعادة الاستيعاب ذلك وصاغته كرسالة إلهية، فاذن الرسالة الإلهية تختلف عن التدوين النخبوي في اختلاف الترميز واختلاف الوعي بين المجتمع المرسل له الرسالة وزمن الرسالة وبين المجتمع الذي استوعب الرسالة وترميزه لتلك الرسالة. ان الوعي الجيني كتطابق للهوية الإنسانية بين الجين والسلوك قد تجاوزته الإنسانية كحقيقة واقعة منذ بداية التحولات الإنسانية ولكن كان الإصرار عليها باعتبارها رؤية كلية لعدم وعي النخب والمجتمعات بإنسانية أخرى، فليست الازمة في منح العائلة مثلا كتكوين جيني الإنسانية لأفرادها مسبقا قبل السلوك إذا كان ايجابي أو سلبي ولكن عدم تمتع الاخر المجتمعي بتلك الإنسانية هو قصور الوعي الجيني بإنسانية ما بعد التحولات. واستمر الوعي الجيني بالتلون بين العشرية والقبلية والثقافة دون ان يمنح فرصة لرؤية كلية تتجاوز ذلك الوعي وتمكن الإنسانية بالوعي بالتحولات الاجتماعية. فقد تمكن الوعي الجيني من السيطرة على الرسالات الإرشادية وتحوليها إلى قيم رمزية مكملة للكلية القيمية التي وضعها بناء على وعيه الذاتي بالإله الثقافي، ولكن وقفت الرسالة الخاتمة عصية على اعادة الاستيعاب الكلي نسبة لتركيزها على الوعي بالتحولات الاجتماعية واختلاف تلك التحولات بين المجتمعات مما يؤدي إلى اختلاف في رؤية الإنسانية كسلوك بين المجتمعات، بالإضافة إلى تركيزها على الإله المتعالي. فتركزت الرسالة الإرشادية داخل فترة زمنية امتدت إلى أكثر من 20 عاما ليكون الإرشاد كاملا فقد بدأت الرسالة من داخل مجتمع التحولات (المجتمع المكي) واتجهت إلى المجتمعات المكونة لذلك المجتمع وعادت إلى مجتمع التحولات للوعي بالإنسانية للكل المجتمعي مع بعض الاشارات للاخر غير المجتمعي لاستيعاب ذاته بناء على مفهوم الذات والاخر داخل الرسالة الإرشادية. الرسالة الإرشادية ومفهوم الشريعة: لقد حاول الوعي الجيني من خلال اعادة الاستيعاب للرسالة المحمدية ان يمرر رؤية الإله السيد الذي يأتي بقيم سماوية يتبعها الإنسان باعتبارها قيم الخلاص الإنساني، ومن القيم التي حاول ذلك الوعي ترميزها ما يسمي بالشريعة وهي الإرشادات التي جاءت من داخل المجتمع للوعي بالذات المجتمعية والقصور الناشيء من عدم مواكبة الوعي الجيني لمرحلة التحولات، وعند اعادة الاستيعاب تم المطابقة بين مفهومي الشريعة والحدود أو لفظ حدود الله الوارد في الرسالة الإرشادية، فلفظ الشريعة جاء لاستيعاب قيم التحولات التي نتجت من التحول الاعمي (وهو التحول الذي تقوده المجتمعات دون مساهمة من قبل النخب الا بتدوين الترميز المجتمعي) وينتج التحول الاعمي من التفاعل بين الوعي الجيني والواقع أو مرحلة التحولات فيحاول ذلك الوعي استيعاب اغلب المجتمع داخل الإنسانية ولكن قصور ذلك الوعي يؤدي إلى استبعاد المجتمعات الطرفية عن مجتمع التحولات. واستوعبت الرسالة الإرشادية قيم ذلك المجتمع وفق مرحلة تحولاته، وقد ركزت الرسالة الإرشادية على المجتمع المكي باعتباره اعلي مرحلة تحولات وصلتها المجتمعات العربية في ذلك الوقت فاخذت تلك القيم ولكن وفق رؤية كلية ارشادية. وقد حاولت تلك الرؤية ايضا اخذ التحول من المجتمع أي من التحول الاعمي إلى النخب حتى تستوعب تلك النخب إلى اين يمكن قيادة المجتمعات. فنجد في (اصول الشريعة – محمد سعيد العشماوي، فقبل ان ينزل حد السرقة في القران، قطعت يد السارق في الجاهلية، وكان الوليد بن المغيرة أول من حكم بقطع يد السارق في الجاهلية، وكذلك حد الحرابة كما راينا في المقال السابق ان الرسول حد السارق قبل ان تنزل الاية)، وكذلك النفي (الحزب الهاشمي وتاسيس الدولة الإسلامية، .... فقضي الكاهن بنفي امية بن عبد شمس عشر سنوات إلى منفي اختياري). وقد حضت الرسالة الرسول إلى اتباع تلك القيم داخل مجتمعه (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)). فالازمة داخل الوعي الجيني ليست في السلوك السالب أو الموجب ولكن بتعميم ذلك السلوك على الكل المجتمعي وذلك يعني تعميم الإنسانية اذا كان لمجتمع التحولات أو للمجتمعات المكونة له. ولذلك في لحظة وعي عندما تقاطع الوعي الجيني مع الكلية القيمية التي كانت في مرحلة استيعاب قال الرسول كلمته (أيها الناس ؛ إنما أهلك من كان قبلكم ؛ أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله يعني أقسم بالله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ؛ لقطعت يدها)، ولم تدعو الرسالة الإرشادية إلى التوقف عند تلك القيم والتي هي عبارة عن مرحلة تحولات وقد تجاوزتها المجتمعات الان، وذلك بادخال مفاهيم الفضل والعفو والتوبة وغيره في سبيل الوعي بالانسانية وعدم اختزالها داخل سلوك محدد. وكذلك المجتمعات الاخرى فلم تدعو الرسالة إلى تقليد قيم الثقافة العربية والتاريخية تحديدا بل حضت المجتمعات الاخرى على اتباع قيمها لانها وليدة تحولات تختلف من مجتمع إلى اخر ومن ثقافة إلى اخرى (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48))، فقد حضت فقط على الاستفادة من تلك الارشادات على مستوى الإله المتعالي وتوحيد الترميز السلوكي والوعي بالاخر الإنساني المختلف، فلا يتم رفض الاخر إلا إذا بادر بالرفض وحتى عند الرفض فيجب المساواة في ذلك الرفض (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)). بل الدعوة إلى وقف ذلك الرفض عندما يجنح الاخر إلى السلم حتى ولو كان ذلك السلم نتيجة لضعف به فالدعوة ليست لسيادة إنسانية على اخرى ولكن للوعي بالكل الإنساني والاختلاف (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)). ان اعتماد مجتمع التحولات للوعي الجيني في رؤيته للإنسانية يؤدي إلى اعتبار المجتمعات التي كونت مجتمع التحولات عبارة عن اخر فيحاول المحافظة على افراده وتقويمهم دون استبعادهم النهائي إلا في لحظات نادرة وهو ما اعتمده المجتمع المكي باعتباره مجتمع تحولات فقد استلهم من كل البيئات المجتمعية والثقافية امكانية تقويم افراده، ولذلك عند تعميم تلك الإنسانية على المجتمع الكلي يسعي المجتمع إلى التقويم الكلي وليس المجتمع الجيني فقط، وذلك فقط عند تأسيس النخب لإنسانية خلاف الوعي الجيني.