[email protected] حين هتف الفتي هاشم صديق ... وأنشد الشاب أبو الأمين بالملحمة يا أكتوبر نحن العشنا ثواني زمان في قيود ومظالم وليل وهوان كان في صدرونا غضب بركان وكنا بنهتف بالأوطان نسطَّر إسمك يا سودان ****** كتب صلاح الباشا لا أدري كيف .. ومن أين أبدأ ، وشباب أهل السودان يعيدون أمجادنا الآن ، نعم يعيدون أمجادنا حين تفجرت ثورة 21 أكتوبر 1964م من إحدي ميادين البركس بجامعة الخرطوم ، وكنا وقتها في نهاية المرحلة المتوسطة بمدارس ودمدني ، نجوب شوارع المدينة في مظاهرات قوية كانت هي الأولي من نوعها في تاريخ المدينة ، وتأتينا الأخبار من الخرطوم علي الدوام ، ويسقط الشاب الطالب في كلية العلوم ( البريليم ) أحمد القرشي طه ، الذي بعث به أهله من قرية القراصة بالجزيرة التي كانت معطاءة ، وستعود معطاءة ولو بعد حين ، بعث به أهله ليتلقي العلم بأم الجامعات ليعود لعمم وفي يديه الوظيفة الكبيرة ليرفع المعاناة عن كاهل الأسرة ، فإذا به يقدم روحه ويستشهد من أجل قضية الحريات لشعبه بالرغم من أن الإقتصاد السوداني في زمان حكم الرئيس الفريق إبراهيم عبود كان إقتصادا متوازناً وكانت الخدمات الصحية والتعليمية في قمة ألقها وقوتها ، وكانت التنمية متوازنة في كافة أقاليم البلاد ، وكان الحكم نزيها لا لصوص فيه ، وبرغم ذلك فإن شعبنا كان ولايزال يعشق الحريات التي فطره الله تعالي عليها .. فكانت دماء القرشي ورفاقه هي المهر الذي كان دافعا لإنتفاضة الشعب ولنجاح ثورته ، بل كان رجال الحكم حينذاك أكثر وعياً .. فعندما أطل الفريق عبود من نافذة مكتبه بالقصر الجمهوري ووجد الإحتشاد الجماهيري في اليوم السابع للإنتفاضة ، أي في الثامن والعشرين من أكتوبر 1964م فإنه قد تأكد له بأن الشعب ماعاد يقبل إستمراره في الحكم ، فأذاع بيان التنحي المشهور عن السلطة ، قائلاً فيه وبالحرف الواحد(( إستجابة لرغبات الشعب الجماعية ، فإنني قد قررت الآتي : حل المجلس الأعلي للقوات المسلحة ، حل مجلس الوزراء ، حل المجلس المركزي ، إعفاء حكام المحافظات العسكريين من مناصبهم ، وسوف أحتفظ بسلطاتي الدستورية كرأس للدولة لجين تشكيل حكومة إنتقالية ... إلخ )) .. فتأمل أخي القاريء العزيز هذا التصرف الراقي من رئيس زاهد في السلطة كما عهده شعبنا . كانت نجاحات ثورة أكتوبر الشعبية ملهمة بحق لجماهير شعبنا آنذاك والتي كانت تتفوق علي ثورات الربيع العربي التي حدثت في بعض دول شمال أفريقيا كتونس ومصر وليبيا مؤخرا ، والآن في المشرق العربي ( سورية ) . فقد سبقهم شعبنا بمثلها بما يقارب نصف القرن من الزمان ( أكتوبر 1964م ) ، ولم يحدث في تاريخ البشرية بطوله وعرضه وإمتداداته أن نجحت ثورة شعبية علي حسكم عسكري قابض إلا في السودان ، وقبله يمائتي عام ( الثورة الفرنسية ) التي أنهت حكم لويس السادس عشر ، حيث إنتفض جياع فرنسا بسبب أزمة الخبز ، وحين أحاطت الجماهير الفرنسية بقصر الحكم ( الأليزيه ) في باريس فإن الملكة ( ماري أنطوانيت ) زوجة لويس سألته عن سبب هذه الإحتجاجات الشعبية ، فرد عليها بأنها أزمة الخبز ، فردت عليه بقولتها المشهورة التي تدل علي البلاهة والتسطيح الناتج من حياة ( البرجزة ) : ولماذا لا يأكلون جاتوه ... فتأمل !!! تلك الإنتفاضة الشعبية الأكتوبرية قد ألهمت ذلك الفتي العميق الرؤيا والتفكير ، الملتصق منذ صباه بمعاناة الغلابة ، وقد كان هشام صديق في العشرين من عمره ، فعاش الحدث الأكتوبري ، فأبت مخيلته وروحه الشاعرة إلا أن يعبر عن ذلك في قصيدته الأكثر شهرة ( قصة ثورة ) والتي عرفت لاحقا بإسم ( الملحمة ) أي ملحمة أكتوبر ، والتي كان الأستاذ الموسيقار محمد الأمين لها تماماً وهو في الثانية والعشرين من عمره .. فجاءت الملحمة كأكبر عمل فني ثوري معبر عن مضامين نصوص القصيدة ، وقد أداها أبو الأمين إبداعا قويا ناجحا علي خشبة المسرح القومي بام درمان في الذكري الرابعة للثورة ، اي في ليلة 21 أكتوبر 1968م وأمام طاقم الحكومة الوطنية التي كان رأس الدولة فيها الزعيم الأزهري ورئيس وزرائه الأستاذ محمد أحمد محجوب ، وقد أشرف علي العمل منذ بروفاته التي إمتدت لشهرين وزير الإعلام وقتها المناضل الأستاذ عبدالماجد أبوحسبو المحامي ، عليهم جميعا الرحمة. ومن جانب آخر ، وكمعلومة هامة جدا أفادني بها صديقي الشاعر الضخم هاشم صديق عند زيارته للدوحة في العام 2001م بدعوة من صديقه المخرج السينمائي صديقنا الأستاذ ( عبدالرحمن نجدي ) وقد كنت أعمل وقتها هناك ، حيث قال لي هاشم حين سألته في منزلي بالدوحة عن ذكرياته عن نشيد الملحة ولماذا إختار له محمد الأمين كي يلحنه ويؤديه ، رد علينا هاشم بأنه وبكل صراحة كان يأتي عدة مرات لنادي الفنانين في موقعه القديم بحوار المسرح القومي بشارع النيل بأ مدرمان ومعه القصيدة ليعطيها للأستاذ الموسيقار محمد وردي عليه الرحمة ، نظرا لأن وردي كان قد إشتهر بأداء أناشيد الأكتوبريات بكثافة أكبر من بقية فناني الساحة السودانية مثل : أكتوبر الأخضر لمحمد المكي إبراهيم – أصبح الصبح للفيتوري – شعبك يابلادي للطاهر إبراهيم – يا ثوار أكتوبر يا صناع النصر لصلاح أحمد إبراهيم – وغيرها ، غير أن هاشم ولعدة أيام لاحقة يزور نادي الفنانين ولا يجد وردي فيه ، وفي نهاية الأمر قرر إعطاء النشيد للأستاذ محمد الأمين والذي سبق له مشاركة وردي في رفد الساحة الثورية بعدة أناشيد عن أكتوبر وكلها قد كتبها شاعره الأستاذ فضل الله محمد مثل : أكتوبر واحد وعشرين – ياصحو الشعب الجبار – وشهرة عشرة حبابو عشرة – والإنطلاقة التي أشتهرت بالمجد للآلاف تهدر في الشوارع كالسيول ( وقد كانت باللغة العربية الفصحي ) ... وهكذا كان نشيد الملحمة من نصيب محمد الأمين وليس وردي ، حتي أن وردي ذكر لنا ذات مرة بأنه معجب بنشيد الملحمة نصاً ولحناً ، وكان يتمني أن يؤديه .... أما كيف خرج ذلك النشيد الخالد لهاشم صديق ومحمد الأمين بتلك الصورة ( الخرافية ) ... مع إستعراض لمفرداتها وربطها بالحدث ، فهي عبارة عن قصة فعلا ، قصة ثورة بحق وحقيقة ... و نتركها للحلقة القادمة ،،،،، [email protected]