حين فجر طلاب جامعة الخرطوم من داخليات البركس في ليلة 21 أكتوبر 1964 م والتي أستشهد فيها الطالب أحمد القرشي طه ، والذي كان إستشهاده بمثابة الشرارة التي إندعلت بعدها الإنتفاضة في كل أرجاء البلاد ، كان شاعرنا هاشم صديق في السابعة عشر من عمره وقتذاك ، كان يعيش الحدث ، ويرسم له صورا شعرية وشاعرية معاً ، وبالتالي فإنه حين أطلق علي قصيدته عنوان ( قصة ثورة ) ، فإن هذا العنوان لم يأت من فراغ ، ذلك أن القصيدة والتي أطلق عليها في وقت لاحق إسم ( الملحمة ) أي ملحمة إنتفاضة أكتوبر 1964م كان يحكي هاشم فيها الحدث بأكمله وبتفاصيله الدقيقة .. وإن أمعنا القراءة بعمق لكل ما إحتوته القصيدة ، سنجد التفاصيل ، تفاصيل الحكاية ، خاصة وأن شعبنا وقتذاك وبعد أن نعم بالإستقلال التام في يناير 1956م وعاش الحرية والديمقراطية كاملة الدسم ، وقد مارسها بكل إحترام وقدسية لها ، فإذا بالليل البهيم الداجي المظلم جدا يصادر منه تلك الحريات ويعمل علي تغييبها ست سنوات ( 1958- 1964م ) دون حراك سياسي أو منظومات شبابية أو أحزاب ليبرالية تمارس الفعل السياسي بعد أن حققت إستقلال البلاد مثلما قال الزعيم الأزهري : ( أتينا لكم بالإستقلال مثل الصحن الصيني ، لافيهو طق لافيهو شق ) ، فكان ذلك الشريط الجميل من الذكريات الباهرة يجول في خاطر هشام صديق ، فكتب في عنفوان شبابه واصفاً ذلك الظلام الذي صادر الحرية والديمقراطية: لما الليل الداجي الطوّل فجر النور من عينا إتحوّل كنا نعيد الماضي الأول ماضي جدودنا الهزمو الباغي وهزوا قلاع الظلم الطاغي **** وكان أبو اللمين لها ، فقد إستصحب في أدائها طالبات مدرسة المليك المتوسطة بالملازمين بأم درمان ، التي لا تبعد كثيرا عن مبني الإذاعة والتلفزيون ، وأيضا طلاب المؤتمر الثانوية بشارع الموردة وأيضا بعض من الأهلية الثانوية في ودنوباوي ، كانوا يأتون عصرا إلي المسرح القومي للبروفات التي إستمرت لشهرين ، وقد إستجلب لها محمد الأمين موسيقي سلاح الموسيقي بآلاتهم النحاسية ، فضلا علي أوركسترا الإذاعة ، حيث قام بالتوزيع الموسيقي لكوبليهات النشيد الموسيقار موسي محمد إبراهيم من سلاح الموسيقي والذي هاجر إلي أبوظبي ليؤسس سلاح موسيقي هناك منذ السبعينات . كان ذلك المقطع من النشيد الذي يصف الحدث ، هو المدخل للنشيد وقد أتي بأيقاعات سريعة عالية الوتيرة ، حيث يردد الكورال ( وهزمنا الليل هزمنا الليل ) ، ثم يطل أبو الأمين علي خشبة المسرح ويصدح بصوته القوي والواضح الملامح : وطني أنحن سيوف أمجاد ونحن مواكب تحمي ترابك ولسه الشارع بيشهد لينا في يوم الغضبة حصاد ماضينا **** ويختتم محمد الأمين المقطع الذي يجيب عليه كورال الطالبات والطلاب: مشي نعطَّر حقل الثورة بدم .. نفديها بلادنا الحرة وكان أكتوبر فجر الغضبة كسرنا قيود الماضي العصبة أما عن موكب الأربعاء 28 أكتوبر الشهير الذي تقدمه القضاة والمحامون ونقابات الأطباء والعمال من أمام الهيئة القضائية بشارع الجامعة ، بعد أن تقدم مولانا عبدالمجيد إمام قاضي المحكمة العليا حيث يقف ضباط الشرطة الذين أرادوا إعتراض الموكب آمراً لهم بالإنسحاب ، فإنسحبوا ، فصعد إلي المسطبة مولانا المحامي عابدين إسماعيل نقيب المحامين معلنا قرار جبهة الهيئات التي كانت تضم الأحزاب والنقابات والإتحادات المهنية والتي كانت تجتمع طوال الإسبوع بنادي أساتذة جامعة الخرطوم ، حيث تلا عابدين إسماعيل قرار الجبهة بالإضراب السياسي العام والتوقف عن العمل في كل السودان ، أي ما يسمي بالعصيان المدني فسار الموكب المهيب نحو القصر الجمهوري تتبعه الجماهير السودانية الهادرة لتقديم مذكرة الهيئت للرئيس الفريق إبراهيم عبود طالبة منه التنحي . وهنا يصف هاشم صديق ذلك المشهد ليترجمه محمد الأمين غناءً هائلاً : لما مشينا مواكب صامدة تهدر .. وتغلي .. وتهتف رااااعدة فيأتي صوت كورال الطلاب عاليا وهتافياً( الرصاص لن يثنينا الرصاص لن يثنينا ) ولعل التاريخ لتلك الإنتفاضة يسجل كيف أن الجيش وبعض الشرطة قد بدأوا بإطلاق الرصاص أمام المواكب الهادرة بساحة القصر أمام القصر الجمهوري والتي ستميت بساحة الشهداء بعد نجاح الثورة ، فسقط الجرحي ومنهم من توفي لاحقا كالطالب الجامعي بابكر عبدالحفيظ ، كما سقط شهيدا بالرصاص في مواكب الطلاب بودمدني في حي القسم الأول ( حسن أحمد يابس ) من قرية أم دقرسي بشمال الحصاحيصا ، وكان من أشهر الجرحي أمام ساحة القصر الطالبة وقتها والمناضلة اليسارية ( محاسن عبدالعال ) ، غير أن الضباط الأحرار قد رفضوا تنفيذ الأوامر بالضرب ، مما إضطر الرئيس عبود إلي التنحي برغم إعتراضات بعض أعضاء المجلس العسكري الحاكم . وهنا لم يغفل نشيد الملحمة تلك الجزئية سابقة الذكر ، فيتواصل النشيد ، الذي إشترك في أدائه من شباب الفنانين حينذاك : بهاء الدين أبو شلة الذي توفي في العام الماضي 2011 بداره بحي الموردة ، والفنان عثمان مصطفي ، والراحل خليل إسماعيل ، والفنانة الكردفانية ( أم بلينة السنوسي ) وكان لكل منه دوره في الأداء ، فيبتدر بهاء الدين الفاصل التالي ، ثم يردده عثمان مصطفي ، ثم خليل ، والذي يصف مشهد الجرحي والشهداء في موكب ساحة القصر: وكان في الخطوة بنلقي شهيد شهيد شهيد شهيد بدمو بيرسم فجر العيد **** ثم يهدأ إيقاع النشيد قليلاً ، ليشدو محمد الأمين منفرداً حيث وصف هاشم صديق سنوات ماقبل أكتوبر 64م : يا يا يا أكتوبر ... أنحن العشنا ثواني زمااااان في قيود ومظالم .. وويل وهوان كان في صدورنا .. غضب بركان وكنا بنهتف ... بالأوطان نسطر .. إسمك .. ياسودان **** ويظل النشيد ترسم مفرداته تلك الأيام المجيدة التي إمتدت لإسبوع كامل من 21 أكتوبر إلي 28 أكتوبر حتي أمسية التنحي عن الحكم .. فيقول النشيد بكامل الكورال والفنانين معاً : بدمانا ... السالت راوية الساحة حلفنا نسير .. ما نضوق الراحة شهرنا سيوف عصيانا المدني وكانت وحدة صف ياوطني **** ثم يطل خليل إسماعيل بصوته الحاد والعالي النبرات يردد منفرداً : إيد في إيد ... حلفنا نقاوم نقاوم ما بنتراجع .. وما بنساوم نقاوم خطانا تسير في درب النصر هتافنا يدوي يهز القصر يهز القصر *** كان في الجامعة موكب هادر صمم يجلو الليل السادر وكان الليل السادر غادر سجل غضبو .. سموم دخان رصاص من صوتو ... صحا السودان ثم تأتي تلك الرئعة ( أم بلينة السنوسي ) التي إكتشفها محمد الأمين وأعطاها فرصة أداء ( سبرانو ) لوحدها في هذا المقطع لأهم وأول شهيد أكتوبر سقط في ليلة البركس بالأربعاء 21 أكتوبر ، ثم يدخل معها ( دويتو ) عثمان مصطفي : وكان القرشي شهيدنا الأول وما تراجعنا ( كورال ) حلفنا نقاوم ليلنا وثُرنا وما تراجعنا في الشمس النايرة قطعنا بحور حلف نموت .. أو نلقي النور **** قطعنا حواجز ... أزلنا موانع صفاً واحد ... عامل وتاجر وزارع وصانع يا ساحة القصر .. ياحقل النار ياواحة بتنزف .. دم أنهار روينا ورودك .. بدم ثوار سقينا ترابك... هتاف أحرار **** وحين سالت الدماء في ذلك الحشد الهائل من جموع الشعب السوداني أمام حدائق القصر ، وفي مقدمتهم الطلاب والطالبات من الجامعات وحتي المدارس الثانوية والمتوسطة ، وكانت سيارات المواطنين والتاكسيات تنقل الجرحي إلي حوادث الخرطوم ، فإن هاشم صديق لم ينس مطلقا هذا المشهد النضالي والذي كان داميا ، فأطلق النشيد لتتحدث كلماته تصف المشهد: وشلنا الشهداء ... مشينا ونهتف وضرب النار .. في قلوبنا بينزف دفنا الشهداء ... رجعنا نقاوم ما بنتراجع ... وما بنساوم بينا وبينك ... تار .. ياظالم وفجأة ونحن صفوف بتصمم زغرد فجر الغضبة الهادر وأخيرا .... نردد مع هاشم صديق وود اللمين : وهزمنا الليل ... هزمنا الليل والنور في الآخر.... أطل الدار وهزمنا الليل ... هزمنا الليل والعزة أخضرت للأحرار **** وهكذا ... سطر هاشم صديق أنشودته الخالدة ، بل يمكن أن نقول إليازته الخالدة ، والتي ظلت تتجدد في ذكري أكتوبر من كل عام ، حيث وضع الأستاذ ( موسيقار الأجيال محمد الأمين ) بصمته المذهلة التي لا تزال تسكن في وجدان الشعب السوداني ، وتلهمه عند الخطوب ، وما أكثر الخطوب في بلادنا الجريحة ، فهل ياتري تتجدد إنتصارات أ كتوبر تارة أخري ؟؟؟؟ نأمل ذلك ،،،،،، Salah Albasha [[email protected]]