عبدالله محمد [email protected] هل وصلت الثورة إلى السودان؟ السؤال فضفاض. فهو يأتي في سياق عربي بات مربَكاً أمام تعريف الثورة وأشكالها، بعد تجارب بلدان عدة عاشت «الربيع» بأغلب فصوله. قد لا يهتم السودانيون كثيراً بلعبة المصطلحات، لكنهم يزدادون يقيناً بأن حراكهم اليوم يسلك باتجاه «التغيير».. بعد أن فاضت الكأس بسياسات النظام المجحفة اقتصادياً واجتماعياً. وجد الرئيس السوداني عمر البشير نفسه قبل أيام بمواجهة رقعة احتجاجات شعبية وطلابية واسعة.. لا تنفك تتسع. وعلى عادة الكثير من نظرائه، حاول الرئيس امتصاص زخم الشارع بالتقليل من أهمية الحراك، فأخرج مساعده ليقول للمتظاهرين «أسهل عليكم أن تلحسوا أكواعكم من أن تنجحوا في إسقاط النظام». ولكن عدد الناشطين والمواقع الإلكترونية الذين تلقفوا «التحدي» كان كبيراً، فأتت الدعوة إلى تظاهرات مكثفة في العديد من المناطق يوم غد الجمعة تحت عنوان «جمعة لحس الكوع»، وذلك عشية الذكرى ال 23 لاستحواذ البشير على السلطة بانقلاب عسكري. في الشارع السوداني اليوم أسباب جمة تدعو للاعتقاد بأن الحراك سيكون أكثر استمرارية وانتشاراً من ذي قبل. لقد نجحت المعارضة في حشد عدد أكبر من السودانيين الحانقين على خطة التقشف الحكومية، التي تسببت في ازدياد أسعار المواد الغذائية والوقود بنسبة تصل إلى 50 في المئة.. هؤلاء يعزون التقشف لضعف الحكومة التي تعتمد، كما حكومة جنوب السودان، على عوائد النفط. الأسلوب الذي واجه فيه البشير الحنق الشعبي المتزايد كان فاضحاً، بحسب مجلة «التايم» التي رصدت حجم التناقض بين ما قاله عن أن «عدد الذين يحرقون الإطارات ضئيل.. فقد كنت أتجوّل في سيارة مكشوفة وعندما يشاهدني أفراد الشعب يصيحون الله اكبر».. وبين ما كتبته الناشطة داليا عبد المنعم في مدونة الاحتجاجات السودانية «أخيراً حدث ما كنا ننتظره. إنه الآن دورنا لنقول كفاية. لقد تمكن الشعب من إعلاء صوته للوقوف في وجه البشير ومستنسخيه». ولكن ما الذي جعل الأمور تصل حدّ الانفجار؟ ببساطة هي «التدابير التي تعاقب المواطن، الذي هو في الواقع ضحيّة فشل الحكم في إدارة الشأن العام، وتحمله المسؤولية، في وقت تتفادى مساءلة الذين تسببوا في قيادة البلد إلى هذه الحال»، بحسب رئيس تحرير صحيفة «إيلاف» السودانية خالد التيجاني الذي أكد ل«السفير» أن «الأداء الاقتصادي للحكم بلغ حداً من التردي قاد الدولة للوقوف على شفير الإفلاس، ما يستدعي تجرّع سمّ إجراءات قاسية للنجاة». وفي السياق ينتقل رئيس تحرير «إيلاف»، الذي كان تناول مراراً مآلات الصورة القاتمة للأوضاع الاقتصادية الكارثية لسياسات قادة الحكم، ليطرح «أسئلة محورية ملحة يتفادى المسؤولون طرحها أصلاً» وأهمها «كيف ولماذا ومن أوصل الاقتصاد السوداني، الغني بموارده وفرصه، إلى هذه الحالة المزرية من فشل تاريخي ذريع غير مسبوق؟ ما الذي يجعل الإجراءات القاسية الحالية، والخالية من أية إصلاحات حقيقية جدية، بلا استراتيجية مبتكرة، ستقود البلاد فعلاً للخروج من المأزق الراهن؟ ما الذي يجعل قادة الحكم مصرين على أنها السبيل الوحيد للحل؟ وما دام يملك المسؤولون هذه الإرادة على الحل فلماذا انتظروا حتى حلت الكارثة؟ بداية، ووفقاً للتيجاني، لا بدّ من الإشارة في سياق سرد الأسباب إلى أن «التشخيص الدقيق لا يفيد الحكومة لأنه يحمل في مضامينه الوصفة الوحيدة لمعالجة الكارثة» إلا أن «أكثر الاعترافات مضاضة في الخطاب الحكومي كان الإقرار بأن تقسيم البلاد وفصل الجنوب وتبعات ذلك كانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير وأبانت كل أمراض الاقتصاد السوداني التي كانت تسترها أموال النفط السهلة «. ويعبّر التيجاني عن أسفه ل«اعتراف قادة الفريق السياسي والاقتصادي في الحزب المتأخر، وهم أنفسهم من طمأنوا الرأي العام بأن تفتيت البلاد وانفصال الجنوب سيكون مجرد نزهة لن يؤثر على الشمال.. ليكتشف المواطن أن الشمال في الواقع هو الذي كان عبئاً على الجنوب وليس العكس». ثم يعود التيجاني ليسأل عما حلّ باستراتيجية ربع قرنية للنهضة الشاملة، وبالخطة الخمسية الأولى في هذه الاستراتيجية، وأين ما قيل إنها النهضة الزراعية التي شرع فيها قبل بضع سنوات، وانتهت بنا لأن يصبح السودان مستورداً للغذاء بمليارات الدولارات؟ وفي هذا الإطار، لا بدّ من الإشارة إلى ما أوردته الحكومة من «تبريرات» في ما يخص ترهل هياكل الدولة، ومنها أن الولايات والمحليات تقتطع في السودان لأول مرة على أسس عنصرية وعشائرية لإرضاء تلك القبيلة أو لاستمالة الأخرى، ثم الزعم أن ذلك التوسع غير المسبوق اقتضته اتفاقيات السلام الكثيرة مع تلك الجماعات التي تهدّد الحكم فاضطر إلى مقاسمتها السلطة. وفي النهاية، «الكارثة قادمة»، والكلام لتيجاني، طالما استمر النظام بتجاهل دفع الاستحقاقات السياسية للعجز عن تحمل المسؤولية بحقها، وهذا الأمر لن يؤدي إلى إسقاط النظام فحسب، بل سيقود إلى سقوط الدولة السودانية ذاتها في أتون فوضى لا أحد يعلم مداها. ما سبق من وقائع يفسّر إلى حدّ بعيد سبب التحرك السوداني، لكنه لا يقدّم التفسير كاملاً. ففي المقلب الآخر للموضوع، يبرز الجانب الدولي كجزء من المشهد. المعلوم أن القوى الدولية حاضرة بكثافة في المشهد السوداني، لا سيما بعد الانفصال، والمعلوم كذلك ما تمتلكه القوى الدولية من مصالح اقتصادية واستراتيجية تجعلها تبحث عن دور دائم في تحديد توجه البلاد. وفي هذا السياق، شرح مصدر سوداني رفيع المستوى ل«السفير» كيف تلعب الولاياتالمتحدة وإسرائيل بشكل رئيسي دوراً في عرقلة المشاريع السودانية التي تصب في مصلحة تطور الشمال تحديداً، مسلطاً الضوء على طاقات البلاد الزراعية الهائلة والتي لا تستثمر.. فبرغم الاتفاقات الكثيرة مع دول الخليج والعروض السودانية المتكررة لاستغلال ثرواته الزراعية، كان التراجع يحصل في اللحظات الأخيرة لأسباب غير معروفة. وفي المقابل، وتحت عنوان «السودان يحتاج لثورته» تعتبر مجلة «فورين بوليسي» أن «الحركة الشعبية المتوسعة في السودان بحاجة إلى دعم دولي بدءاً من التغطية الإعلامية الموسعة وصولاً إلى تعزيز العقوبات، وفي هذا السياق هناك دور مهم يمكن لكل من أميركا والصين لعبه». وتشير المجلة إلى أن الحكومة في السودان ليست كتلة متناغمة، بل هي عبارة عن مجموعات من المصالح المختلفة: الجيش، امن الدولة، الحزب الحاكم، طبقة النخبة، الأحلاف القبلية، «الإخوان المسلمون» في السودان والمجموعات السلفية، في وقت تؤكد ان تجربة السودان مع الإسلاميين تشير إلى ان السودانيين لا يسعون إلى مزيد من الأسلمة بل إلى تحقيق مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية، التي تتقاطع مع الكثير من الأطراف.