شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    دورتموند يسقط باريس بهدف فولكروج.. ويؤجل الحسم لحديقة الأمراء    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصور.. المودل والممثلة السودانية الحسناء هديل إسماعيل تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة بأزياء قوات العمل الخاص    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    طبيب مصري يحسم الجدل ويكشف السبب الحقيقي لوفاة الرئيس المخلوع محمد مرسي    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    الى قيادة الدولة، وزير الخارجية، مندوب السودان الحارث    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فلوران لم يخلق من فسيخ النهضة شربات    رئيس نادي المريخ : وقوفنا خلف القوات المسلحة وقائدها أمر طبيعي وواجب وطني    المنتخب يتدرب وياسر مزمل ينضم للمعسكر    عائشة الماجدي: دارفور عروس السودان    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة السودانية المتنامية: جرائم الماضي والحاضر.. ورؤى وآفاق المستقبل القريب(2) أحمد ضحية / ميريلاند
نشر في الراكوبة يوم 06 - 07 - 2012

الثورة السودانية المتنامية: جرائم الماضي والحاضر.. ورؤى وآفاق المستقبل القريب(2)
أحمد ضحية / ميريلاند
[email protected]
الثورات ومفهومنا للثورة السودانية:
"الثورة" كمصطلح سياسي,هي الخروج عن الوضع الراهن الذي تعيشه دولة ما وتغييره, لأسباب تتعلق بعدم الرضا عن ما هو قائم, و التطلع إلى الأفضل فكريا وثقافيا وإجتماعيا, إلخ.. وقد وصف الفيلسوف الإغريقي أرسطو شكلين من الثورات في سياقات سياسية:
1- التغيير الكامل من دستور لآخر "فالدستور هو الذي يحدد شكل الدولة ونظام حكمها وقوانينها".
2-التعديل على دستور موجود أساسا.
وللثورة تعريفات معجمية, تتمثل في التعريف الكلاسيكي, الذي وضع مع إنطلاق الشرارة الأولى للثورة الفرنسية, ويتمثل في قيام الشعب, بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه, لتغيير نظام الحكم. وقد طور الماركسيون هذا المفهوم بتعريفهم للنخب والطلائع المثقفة ب"طبقة قيادات العمال" التي أسموها "البروليتاريا".
أما التعريف أو الفهم المعاصر, والأكثر حداثةً هو التغيير, الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته, كالطلاب أو "القوات المسلحة" أو التكنوغراط أوالمثقفين أو المهنيين والحرفيين أو الأحزاب السياسية أو حتى من خلال شخصيات تاريخية, إلخ... أو من خلال (كل هؤلاء مجتمعين). لتحقيق طموحات الشعب بتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه الطموحات, ولتنفيذ برنامج التغيير.
والمفهوم الدارج أو الشعبي للثورة هو الانتفاض ضد الحكم الظالم. و قد تكون الثورة شعبية مثل الثورة الفرنسية عام 1789 وثورات أوروبا الشرقية عام 1989 وثورة أوكرانيا المعروفة ب"الثورة البرتقالية" في نوفمبر 2004 أو عسكرية وهي التي تسمى إنقلابا, مثل الإنقلابات التي سادت أميركا اللاتينية في حقبتي الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي, وكتب عنها أستورياس و ماركيز وجورج أمادو وإيزابيل الليندي وغيرهم ما كتبوا, في رواياتهم التي على غرار الجنرال في متاهته!..
و من الممكن أيضا أن تكون الثورة عبارة عن حركة مقاومة ضد مستعمر مثل الثورة الجزائرية (1954-1962). أو ثورة جنوب السودان التي إنتهت بإنفصاله العام الماضي. أو ثورة دارفور التي قد تؤول إلى مصير مشابه, إذا لم يعي شباب الثورة دروس الماضي, ومارسوا الضغوط الكفيلة برد القوى القديمة, إلى الصواب المفقود كالمدينة الفاضلة!
أما الإنقلاب العسكري, فهو قيام أحد العسكريين أو عسكري مسنود بمدنيين يوالونه, بالوثوب على السلطة. من خلال قلب نظام الحكم, بغية الإستئثار بالسلطة والحصول على مكاسب شخصية من كرسي الحكم, ولربما يستخدم الدين ك"رأسمال معنوي" لتحقيق هذه المكاسب الشخصية (كما فعل الترابي-عمر البشير في 1989), أو يستخدم عقيدة آيديولوجية يسارية (1971 أو ما يسمى بمتراس الحركة الوطنية)أو عنصرية أو جهوية لتحقيق هذه المكاسب للإنقلابي و حزبه وبطانته (وفي هذا السياق لدينا في تاريخنا إنقلابات وحركات فاشلة كمحمد نور سعد وحسن حسين, إلخ.. في سبعينيات القرن الماضي).)
و الثورة في التاريخ السياسي تتعدى حدود الظاهرة, لأهميتها القصوى في تشكيل حياة الشعوب.. إذن الثورة هي حراك سياسي, يحاول به الشعب ومثقفيه, وقواته المسلحة, إسقاط السلطة الحاكمة, وإحلال بديل لها. بتوظيف طاقات المجموعات الثورية, بمختلف توجهاتها.
ليتم تأسيس وتأثيث على أنقاض النظام الذي أسقطه الشعب, أوالجيش وحلفائه من الشعب,نظام جديد و حكومة جديدة.
ويسمى هذا التغيير: ب"الثورة“ لأن الأمور تؤول لسلطة, غير السلطة التي ظلت تتحكم في مصائر وأقدار ومقدرات الشعب وحلفاؤه الثوار.
لكن أحيانا، تتخلى القوى التي قادت الثورة (جبهة الهيئات1964) أو الجيش كمؤسسة إستجابت لضغوطات الثوار (1985المجلس الإنتقالي)عن واجباتها, فتعمد إلى عقد مساومات وتسويات وصفقات سرية, من خلف ظهر الشعب (الحالة المصرية نموذج راهن معاصر وحي), وغالبا ما ينتهي هذا النوع من التفكير (في بلاد مثل السودان) إلى تأسيس حكومة استبدادية عسكرية شبه إسلامو- طائفية تعيد إنتاج أزمة بلد حزين وبائس كبلادنا التي فاض بها الكيل.
وفي الحقيقة كثير من الثورات, على الرغم من أن الشعب وأبناءه يدفعان ثمنها, إلا أنها تنتهي لإعادة "الورثة المزعومين" لعروش مزعومة! على خلفية أنهم (لم يخلقوا إلا ليحكموا؟!) ولذلك يؤول بها المآل كما بعد أكتوبر 1964 وأبريل 1985 إلى دكتاتوريات عسكرية حينا, وحينا آخر إلى نظام هلامي مصبوغ ب"إستغلال التاريخ الوراثي" أو الدين المزيف والمغرّب, والغريب عن طبيعته كدين؟!
وليس بالضرورة أن تكون الثورة عنيفة, أو أن تتحول لحروب ثورية يموت فيها الملايين, فالثورة الحقيقية.. ذات التأثير العميق في (عصرنا الحالي) هي تلك التي كلفتها الإنسانية "قليلة جدا", خصوصا أنها تتطلع لمجموعة من التغيرات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية, تؤدي إلى تغيير جذري شامل في المجتمع والدولة.
أهم الثورات عبر التاريخ:
-الثورة الإنجليزية عام 1689 م وعرفت بالثورة المجيدة, نظرا لما أحدثته من تحولات عميقة في الفكر والقانون والسياسة والمجتمع والدولة والآداب والفنون وإدارة الدولة.
-الثورة الأمريكية عام 1763 (وهنا أسمحوا لي بالثرثرة قليلا, فما سأسرده له علاقة بما يجري في السودان منذ 1956 فيما عرف بالهامش, وفي الواقع سأترك أمر تقريب المقارنة لذوي العقول.. المهم في المسألة أن الثورة الأمريكية, التي نرى ثمرتها الآن, مرت بمخاض مشابه فيما يخص علاقة أطراف السودان بمركزه. وفي النهاية تمخضت عن دولة عظمى, وعندما نقول: الثورة الأمريكية, فنحن نعني الأحداث التي وقعت في أواخر القرن الثامن عشر, ضد بريطانيا. وأدت إلى استقلال أميركا عن الإمبراطورية البريطانية, وكان من نتائجها حركة الكشوف الجغرافية, و تدفُّق الهجرة من أوروبا إلى الأراضي المكتشفة، حيث قام المهاجرون الإنجليز بتأسيس المستعمرات, على الساحل الشرقي لأميركا الشمالية.
تأسست أول مستعمرة إنجليزية في عام 1607 في جيمس تاون بولاية فرجينيا، والتي لم تكن تتألف وقتها سوى من حصن وكنيسة و مخزن وصف من الألواح الخشبية. لكن بمرور الوقت تكونت إثر هذه النواة مئات المستعمرات.
بفعل عوامل عديدة, كوفود المهاجرين نتيجة الضيق الاقتصادي والاستبداد السياسي والإضطهاد الديني(في أوروبا).وقد خطر على بال القضاة والقائمون على شؤون السجون في قارة أوروبا العتيقة, أن على المذنبين والمجرمين الهجرة إلى أميركا عقابا لهم، بدلا عن قضاء هذا العقاب في السجون الأوروبية, التي برع فيكتور هيجو في تصوير بؤسها!
و.. ثم أنشأت طائفة البيوريتان (التطهريون) مستوطنة "بليموث", التي أصبحت " ولاية مساتشوسيتس, بعاصمتها بوسطن" فيما بعد. وهكذا نشأ في المستعمرات مجتمع جديد, يرتبط بالولاء للوطن الأم إنجلترا، ولكنه يتمتع في الوقت نفسه بحرية سياسية لا مثيل لها في أي مكان في الأرض, في القرنين السابع عشر والثامن عشر. حيث أن سكان هذه المستعمرات, كانوا يحملون معهم أفكار البريطانيين الأحرار، كما كانت لهم مجالسهم النيابية المنتخبة، التي تضع القوانين, وتفرض الضرائب وتحدد الإعتمادات المالية وتسيطر على الخزانة!
ورغم تنوُّع الأصول التي إنحدرت منها شعوب المستعمرات الأمريكية، إلا أن اللغة والثقافة والنظم الإنجليزية ظلت سائدة، ذلك أن المهاجرون الجدد كانوا يختلطون بالوافدين الإنجليز الأوائل، ويتخذون لغتهم ويعتنقون وجهات نظرهم، ونتج عن هذا الإندماج ظهور شعب جديد هو الشعب الأمريكي، الذي أخذ يتميز بالتدريج عن الشعوب الأوربية التي ينتمي إليها من جهة الأصول.
وبحلول عام 1733 تمكن المهاجرون الإنجليز, من تأسيس ثلاثة عشر مستعمرة على ساحل المحيط الأطلسي، من نيوهامشير في الشمال إلى جورجيا في الجنوب. أما في مناطق أميركا الشمالية الأخرى، فقد سيطر الفرنسيون على كندا ولويزيانا، التي ضمت منابع نهر الميسيسيبي الهائلة. وخاضت فرنسا وإنجلترا حروباً عديدة ضد بعضهما البعض, خلال القرن الثامن عشر. ومع نهاية حرب الأعوام السبعة بينهما، كانت إنجلترا تسيطر على كندا وجميع مناطق أمريكا الشمالية الواقعة شرق نهر الميسيسيبي. وبعد ذلك بفترة قصيرة دخلت إنجلترا مع مستعمراتها في صراع.
ويرجع أول أسباب هذا الصراع, إلى السياسة الإنجليزية في حكم المستعمرات، فقد كان لكل مستعمرة حاكم إنجليزي ينوب عن ملك إنجلترا، وكثيراً ما كان النزاع ينشُب بين الحكام, الذين يمثلون المصالح الإنجليزية، وبين المجالس النيابية المنتخبة, التي تمثل مصالح الشعب في المستعمرات.
وقد أدى تكرار التصادم بين حكام المستعمرات وبين المجالس، إلى إيقاظ إحساس المستعمرات, بما هنالك من تباعد بين المصالح الأمريكية والإنجليزية. على أن أهم أسباب التذمُّر في المستعمرات الأمريكية, كان يرجع إلى السياسة الاقتصادية, التي إتبعتها إنجلترا هناك، فقد حتّم قانون الملاحة (التجارة) الذي صدر سنة 1651، نقل كافة الصادرات من المستعمرات, إلى إنجلترا على سفن يملكها إنجليز، ويتولى تشغيلها إنجليز.
كما حتّمت التشريعات التي تلت ذلك القانون, أن يُعاد شحن صادرات المستعمرات إلى القارة الأوربية, في الموانئ الإنجليزية. ونظمت إستيراد السلع الأوربية إلى المستعمرات, بطريقة تعطي أفضلية للمصنوعات الإنجليزية، وفرضت على المستعمرات إمداد البلد الأم بالمواد الخام، وأن لا تنافسها في الصناعة.
كما خرجت إنجلترا من حرب السنين السبع مع فرنسا, وهي تعاني من أزمة مالية حادة، نتيجة للنفقات الباهظة التي تكبدتها فيها، فلجأت إلى فرض ضرائب جديدة, على سكان المستعمرات ..
إلى أن كانت حفله شاي بوسطن في 1773 ثم إجتماع باريس عام 1783 وكان هذان الإجراءان (القوانين التجارية، والضرائب الجديدة) هما السبب المباشر للثورة الأمريكية، وأصرَّالأمريكيون على عدم دفع الضرائب (كما يفعل شعبنا اليوم في موقفه من رفع الدعم عن المحروقات) والتفوا جميعاً حول شعار "لا ضرائب بدون تمثيل". فرفعت جميع الضرائب، فيما عدا الضريبة المفروضة على الشاي، فردت مجموعة من الشخصيات الوطنية على ذلك في عام 1773 بإقامة ما أصبح يعرف بحفل الشاي في بوسطن. إذ تنكر أفراد هذه المجموعة وعددهم 50 رجلا بأزياء الهنود الحمر، وصعدوا إلى السفن التجارية الإنجليزية(3 سفن)، وألقوا بنحو 342 حاوية من الشاي في ميناء بوسطن.
غير أن لندن وصفت "حفلة شاي بوسطن" بالهمجية (كما يصف عمر البشير الثوار الآ بشذاذ الآفاق والجنوبيون بالحشرات والنساء اللائي يعذبن أزواجهت فينتعي بهن المصير إلى الطلاق! وكما تم من قبل في خواتيم تسعينيات القرن الماضي المتظاهرات بالعاهرات على صفحات الوفاق؟!)، المهم أن البرلمان الإنجليزي أصدر قوانين تهدف إلى معاقبة بوسطن، بما فيها إغلاق ميناء بوسطن أمام حركة الملاحة، حتى يتم دفع ثمن الشاي, الذي تم إهداره برميه في البحر، بل ووضع لبوسطن حاكم عسكري لا يقل بؤسا عن الطيب مصطفى وقوش ونافع والرئيس البشير نفسه, منع هذا الحاكم الاجتماعات إلا بأذن منه , و قد أطلق سكان المستعمرات الأمريكيه إسم (القوانين الجائره) على هذه القوانين.
أثارت هذه القوانين القاسية الغضب، ودخل الجنود الإنجليز عام 1775 في مواجهة مع متمردي المستعمرات في مساتشوسيتس، وأعلن البرلمان الإنجليزي, أن مساتشوسيتس متمردة (كما ظل المركز يعلن أن الجنوب ودارفور وكل المهمشين متمردين)ويجب قمعهم، وقرر تعبئة موارد الإمبراطورية لضرب الثورة، ما أدى إلى ظهور مناخ الحرب في المستعمرات.
كأن التاريخ يعيد نفسه, وفقا لوقائع وحيثيات وأحداث مختلفة, لكن في جوهرها هي خلاصة السؤال الأزلي الذي واجهه جلجامش من قبل: رحلة البحث المضنية عن قيم الحقيقة والحرية والعدل والخير والحب والجمال والسلام, إلخ...
-الثورة الفرنسية عام 1789 استمرت 10 سنوات وانتهت عام 1799 م. لتلهم كل شعوب العالم الوعي بالحقوق والحريات والمواطنة, وقطعا هي الأعظم من بين جميع الثورات, بما مثلته من مصدر إلهام لكل الشعوب (بطبيعة الحال يشمل ذلك شعبنا في الجنوب وفي المناطق المهمشة).
وقبل أن نتعرض لثورتنا السودانية علينا أن نتوقف قليلا على أعتاب الثورة التونسية, كمبتدأ لثورات الألفية, الجديدة (راجع مقالاتي عن الثورات العربية والتي نشرت في وسائط مختلفة) .. الثورة التونسية إبتدرت نفسها كثورة, بما يبتدر به ثوارنا الآن ثورتهم الخاتمة: المظاهرات، الإحتجاجات, وبالمقابل الرد العنيف من طرف الشرطة بالأسلحة المختلفة والقمع الوحشي(في الحالة السودانية ليس الأسلحة فقط بشكل معمم, بل بالتحديد رصاص حي ورصاص مطاطي وأسلحة بيضاء وقنابل مسيلة للدموع يموت بسببها أصحاب المشاكل التنفسية من المتظاهرين.. ويتم الرد من قبل المتظاهرون بالحجارة فقط!.. فقط الحجارة وحلاق اللساتك.. فالحركات المسلحة نفسها أصدرت بيانات تعهدت بها أمام الشعب, أنها لن تتدخل عسكريا وإذا تدخلت ستتدخل سلميا وهي يجب أن تكون مسئولة تماما عن هذا التعهد, فشعبنا لديه ذاكرة أفيال وجمال ولا ينسى؟!
المهم في الأمر أن المتظاهرون من أبناء هذا الشعب المعلم والخالد, يحملون الغصون الخضراء في مجابهة كل وكافة أشكال القمع غير المسبوقة حتى في الثورة التونسية؟!، وتقابلهم حكومة الجبهة الإسلاموية بالأسلحة النارية وقنابل الغاز من قبل الشرطة, والأمنجية والرباطة, إلخ..
فإذا كان قتلى الثورة التونسية 219 والجرحى 94 وفقا لكل التقارير التي إطلعنا عليها, أليس هناك قيمة للثورة السودانية التي راح ضحيتها الملايين في الجنوب وجنوب النيل الأزرق وجبال النوبة ودارفور وشرق السودان وشمال السودان؟ هذا ما يدعو للعجب!!.. أن يتعاطف العالم بغضه وغضيضه لأجل 219 قتيل و94 جريح ولا يأبه لنا؟!! ما المشكلة هنا؟ سنتكلم عن هذا لاحقا!..
ما يهمنا الآن أن الشعب التونسي, على ضآلة تضحياته مقارنة بشعب بلادنا, جيشه الوطني دعم الثورة التونسية (والتي تعرف أيضًا بثورة الحرية والكرامة أو ثورة 17 ديسمبر أو ثورة 14 جانفي أو ثورة الياسمين)، بعد أن إندلعت أحداثها في 17 ديسمبر 2010 تضامنًا مع الشاب محمد البوعزيزي, الذي قام بإضرام النار في جسده في نفس اليوم, تعبيرًا عن غضبه على بطالته ومصادرة العربة التي يسترزق منها لإعالة أسرته.
وقد أدى ما أقدم بوعزيزي عليه إلى ندلاع شرارة المظاهرات في يوم 18 ديسمبر 2010 وخروج آلاف التونسيين, الرافضين لما إعتبروه أوضاع البطالة, وعدم وجود العدالة الإجتماعية وتفاقم الفساد داخل النظام الحاكم.
وبالنتيجة لما يسمى بالربيع العربي, الذي لا ندري حتى الآن طبيعة الأشواك التي نعرفها وتخطيناها بوعينا ويمضي هذا الربيع الآن متجولا فيها؟!المهم في المسألة أن ثورة تونس هي مصدر إلهام ثورات العرب.. لكن هل هي (ونحن أصحاب الثورات السباقة بمثابة مصدر إلهام لنا؟ أم أن الواقع البائس والمتردي على كل المستويات هو الذي يلهم أبناء هذا الشعب ضرورات التغيير؟! ومناخ الحرب في الأطراف المهمشة في الشرق والغرب والشمال والجنوب, أيضا هو الذي يلهمنا ضرورات التغيير؟ إلى جانب تجاربنا الإنتفاضية السابقة ضد الديكتاتوريات..
وهكذا نجد أن كل شروط الثورة متوفرة في السودان, وليس كما يشيع أدعياء النظام وحلفائهم, بأن الأسباب التي أنتجت الربيع العربي لا تتوافر في السودان, فما يتوافر في السودان هو الأسوأ بكل المعايير, مما ترتبت عليه ثورات الربيع العربي.
نواصل في حلقاتنا القادمة الكتابة حول:
طبيعة القوى المحركة للثورة السودانية والقوى المشاركة فيها والشعارات التي تتبناها – أسباب قيام الثورة ومشروعيتها – أهداف الثورة وتطلعاتها (قراءة في وثيقة البديل الديموقراطي) – السلوك الأمني والسياسي للقوى المعادية للثورة والقفز من السفينة الغارقة – ردود فعل النظام والقوى الإقليمية والدولية والسلوك الإعلامي والدعائي – سيناريوهات وإحتمالات – خاتمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.