رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس يصل مطار القاهرة الدولي    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    الشهر الماضي ثالث أكثر شهور يوليو حرارة على الأرض    يؤدي إلى أزمة نفسية.. إليك ما يجب معرفته عن "ذهان الذكاء الاصطناعي"    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    شاهد بالفيديو.. سخرية واسعة داخل مواقع التواصل الاجتماعي بالسودان من مطرب "تاه" عن "مسرح" الحفل    عمر بخيت مديراً فنياً لنادي الفلاح عطبرة    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (روحوا عن القلوب)    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    لماذا اختار الأميركيون هيروشيما بالذات بعد قرار قصف اليابان؟    12 يومًا تحسم أزمة ريال مدريد    الدعم السريع: الخروج من الفاشر متاح    التفاصيل الكاملة لإيقاف الرحلات الجوية بين الإمارات وبورتسودان    البرهان يتفقد مقر متحف السودان القومي    بيان من سلطة الطيران المدني بالسودان حول تعليق الرحلات الجوية بين السودان والإمارات    الطوف المشترك لمحلية أمدرمان يقوم بحملة إزالة واسعة للمخالفات    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    كلية الارباع لمهارات كرة القدم تنظم مهرجانا تودع فيه لاعب تقي الاسبق عثمان امبده    بيان من لجنة الانتخابات بنادي المريخ    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الديمقراطية البترولية تغتال القَوميّة العربيّة ...؟
نشر في الراكوبة يوم 13 - 07 - 2012


*
[email protected]
العقلانية، العقلية، الوعي، العلمانية، الأولويات، الضرورات. مفردات اشتغل على بعضها الفكر العربي في مرحلة إرهاصاته النهضوية، كان للغة العربية واتساع مفرداتها ومعانيها دور في التعبير عن هذه المفاهيم، ودلالاتها، لكن أنماط المقاربة لم تشكل نسقاً فكرياً يؤثر في الوعي الاجتماعي كأن تصبح العقلانية مثلاً منهجاً في التفكير، ووعياً جماهيرياً في الممارسة اليومية، يفرز الغث من السمين والخرافة عن الحقيقة، والواقع عن الخيال، والعاطفة والهوى عن سلامة الرؤية وموضوعيتها... حيث ارتبطت الأفكار العلمانية والعقلية بالمشروع الاشتراكي العالمي وقبله بمناهج الفكر البورجوازي الأوروبي، وكذلك مشاريع الإرهاصات القومية النهضوية، وسياقاتها الفكرية، وكادت هذه الأفكار أن توسع انتشارها وقربها من أدبيات وأفكار بعض الأحزاب في بعض أرجاء الوطن العربي.
لكن عندما بدأ انكسار المشروع التقدمي بتجلياته القومية عبر نكسة 1967م، ثم رحيل الرئيس عبد الناصر، وخروج مصر بثقلها القومي من جبهة العمل القومي لتصبح في ليل كامب ديفيد، وبعدها حرب الخليج الأولى والثانية، وتداعياتهما المستمرة حتى اليوم حيث تدمير العراق، حاول المشروع الإمبريالي العولمي تحطيم حتى مفهوم الدولة الوطنية، وكانت الأدوات في كل هذه الكوارث أنظمة الخليج العربي ودولارها النفطي التي كانت أدوات تخريب في الوجود القومي. حصل الفراغ السياسي، والفكري، وتراكمت أخطاء الممارسات الإدارية في الداخل القطري العربي، وتسللت كل الأفكار المغلقة والعنفية، والمشحونة بالحقد، والإلغاء، والتكفير، لتضخ فكرها وتحريضها وحقدها المدعوم بالمال والتحريض، ولتتخطف أذهان البعض تحت عنوان إعادة إنتاج ماضٍ متخيل لا يمكن إعادة إنتاجه.
إن ما آل إليه الوضع العربي والذي وصل حداً أصبحت معه جامعة الدول العربية مؤسسة ترسم سياساتها في الغرب، وتنفذها قطر ودول الخليج، تحت عناوين الديمقراطية وحقوق الشعوب. إنها المفارقة الكبرى أن تصبح مؤسسات العمل العربي بحده الأدنى أدوات أمريكية وإسرائيلية.
والمشكلة الأساسية لدى هؤلاء هي إيران ونهوضها الذي أنجزته في حوالي عشرين عاماً، بينما هدرت ثروات الخليج كلها في الاستهلاك والبذخ، وإسناد الغرب ومصارفه واقتصاده عشرات الأعوام تحت عنوان الخطر الإيراني وحماية هذه الأنظمة فهدرت الأموال وهدمت المنطقة وضاعت كياناتها.
لاحظنا لسنوات كيف كانت تبدو عدة أنحاء من وطننا العربي وكأنها على فوهات براكين، نتيجة تفاعل لعوامل الغزو والتدخل الخارجيين، وتفاقم الفوضى واشتداد أزمة الغذاء وتوحش رأس المال وغول الجشع الذي أفقر سعاره معظم الناس، وازدياد التيه الفكري والسياسي، وانتشار الإفساد والانهيار القيمي والفاقة، وتزايد الهجرة، وتصاعد حمى الاستهلاك، واستشراء وباء توهم احتكار الصواب والحقيقة، وتفاقم التخبط في التوجهات واستسهال النكوص عن الأهداف والشعارات، وافتضاح تبعية أطراف محلية كثيرة للأجنبي، بعدما عملت القوى الغربية الكبرى منذ جرائم سايكس بيكو وتصريح بلفور ومؤتمر سان ريمو وصولاً إلى فوضى المحافظين الصهاينة الجدد التي زعموها بناءة، لتفتيت الأساس التاريخي والقيمي والعقدي للرابط العربي الذي لا وجود للأمة بدونه.
وعندما فاجأ الحراك الاجتماعي والسياسي الذي مارسته قواعد مجتمعات عدة بلدان عربية أنظمة الحكم في تلك الدول التي نامت على خدر وهْمِ بأنها تسيطر على المستقبل لعقود عديدة، لا على اللحظة الراهنة فقط، تماماً مثلما فاجأ هذا الحراك القوى الدولية التي اعتادت العبث بواقعنا ومصيرنا لتطويعهما بما يخدم الغزاة الصهاينة ويعزز هيمنتهم، أدركت قيادات تلك القوى ومراكز الأبحاث والدراسات التي اعتادت التعامل مع شعوب العالم الثالث كفئران تجارب أنها أخطأت التقدير وفشلت في التحكم بما يتفاعل في أمتنا من تطورات ديموغرافية واقتصادية وفكرية وسياسية، وهكذا كان متوقعاً أن تسارع تلك القوى الدولية راعية الغزوة الصهيونية إلى محاولة التحكم بهذه التطورات مجدداً، وسعت إلى تحريك امتدادات لها في الشوارع العربية في الوقت نفسه الذي تعيد تأهيل أدواتها في بعض المواقع العربية، لكن عمق العوامل الذاتية التي فجرت أكثر حالات الحراك الشعبي على ساحتنا العربية جدير بتوليد حصانة ومناعة تتواجه الاختراقات الخارجية الساعية إلى استيعاب الحراك الأصيل وحرفه عن غاياته، مثل هذا الصراع كفيل بإيقاظ الغافلين والمغيبين واللامبالين والمحبطين، وزيادة وعي وحذر المندفعين بحماس تضطرب معه قدرات التحكم بسلامة التوجهات.
لقد تم تسليح بعض أبناء هامش المدن، ومناطق الجهل والأمية والحاجة، وتحويلها إلى أدوات لإنتاج العنف والقتل ونشر الدمار والتخريب، مستغلة أخطاء هنا وهناك، وممارسات حصلت في دولة أو أخرى وأطلقوا ما أسموه الربيع العربي فكان ربيع الفوضى والتخريب والقضاء على الاقتصاد والاستقرار، واختلاط القضايا بين المطلبي المشروع الشعبي، وبين التآمري المنتهز لهذه المطالب ليسرقها ويخطف السلطة باتجاهه ويسرق رغبة التغيير المشروعة، والحال واضح فيما آلت إليه ليبيا، وحالة عدم الاستقرار في مصر، ووصول القوى السلفية في تونس، وعدم الاستقرار في اليمن، وما تشهده سورية...
إن مستوى قدرة الشعوب على إدراك الخلفيات والمؤامرات لم تكن في البداية واضحة، كما أن الأنظمة العربية لم تكن تعلم حجم اختراقها، والمخفي في مجتمعاتها، وكان يظن الكثير أن لا قوة قادرة على خلق اهتزاز في نظام مصر أو ليبيا أو تونس...، كما كان هناك عدم معرفة كافية بطبيعة أنظمة الخليج وإمكانية أن يصل دورها لهذا المستوى من التآمر على أشقائها. وهذه عوامل ساعدت في المزيد من الاختراق، والتسليح وإنتاج العنف، والقتل وقطع الطرق والتخريب، كما لم يقرأ الدور التركي وطبيعته القراءة المطلوبة من حيث علاقاته الأطلسية والإسرائيلية، ورغبته الهيمنة ولعب دور شرطي المنطقة.
لقد تشابكت جهود خارجية تراوحت بين التخطيط والتآمر والغزو المباشر، مع عمليات أدوات وشبكات محلية لتغييب أمتنا وتطويعها وتقزيمها وتمزيقها وتيئيسها ونشر الفساد فيها وإغراقها في الإحباط وإفقادها الثقة بذاتها، وزاد في خطورة واقعنا استنفار القوى التي وقفت خلف هذه الجهود والعمليات عوامل تدمير متعددة، أكثرها فتكاً وباء العصبيات الذي يعتبر من أشد الفتن ذلك أنه يستخفي كما يستخفي الميكروب في أنحاء الدم، حتى إذا ما هادنه المرء ظهر بعنفه وقوته وانتشر بحمّاه، استفحل هذا الوباء، وباتت العصبيات العقيدية والتنظيمية والسياسية المؤسسية، وحتى الثقافية والرياضية والفنية تمارس بمنطق عصبية قبلية بليدة لا تمت لعصرنا بصلة.
وهنا ندرك كم أدى انكفاء الفكر القومي مؤخراً إلى تسهيل إيجاد ثغرات واختراقات ينفذ منها وباء تلك العصبيات المتعددة، ولدى التفكير بالأسباب التي دفعت إلى تراجع هذه الفاعلية وتطاول من هب ودب على انتماء أمتنا وجوهرها الحضاري، فإلى جانب العوامل الخارجية المعادية، يجب التركيز على ما هو ذاتي وداخلي، مما خلخل بدايات هذا الفكر الواعدة، وعطل عناصر التكامل الهائلة التي يقوم عليها تطبيقه: وحدة اللغة والثقافة والتاريخ والآمال والمصالح والمصير والتكامل الجغرافي والاقتصادي، إضافة إلى مقتضيات المواجهة المصيرية مع الغزوة الصهيونية التي كانت لوحدها جديرة بأن توحد العالمين العربي والإسلامي. ويرى كثير من المفكرين القوميين وهم يحاولون ممارسة نقد ذاتي للتجربة أن التيار القومي قد تسرع عندما لجأ إلى حرق المراحل بالقفز إلى السلطة التي شغلت جيوشاً يفترض إعدادها وتفرغها لصد الغزوة، لا شغلها بأمور الحكم والإدارة والتجارة والزراعة والاقتصاد والقضاء، وركز آخرون على تراجع دور الفكر والحوار لمصلحة الحسم بالقوة على مختلف الأصعدة. وأشار سواهم إلى استجابة بعض من استولت عليهم غوايات السلطة لتحريض داخلي وخارجي، ونرجسية من توهموا احتكار الصواب والحقيقة والوطنية، بل احتكار الوطن واختزاله...
ولا يمكن أن نعزو الاتجاه المزدوج نحو التفتت الاجتماعي القطري والانكسار في الحركة القومية العربية إلى عامل واحد مهما كان شأنه وسطوته على تحريك الأحداث. غير أن من الممكن التأكيد على أن لطبيعة السياسات الاقتصادية التي تبنتها الحكومات العربية منذ منتصف السبعينيات في القرن الماضي على الأقل دوراً بارزاً في سرعة دفع الاتجاه نحو التفتت.
فمنذ منتصف السبعينيات في القرن العشرين اجتمعت الظروف والسياسات الرسمية على الانتقال بالنظام العربي كله إلى توجهات إستراتيجية، يتمثل جوهرها في هدف تحقيق اندماج أقوى مع السوق الرأسمالية العالمية، وكانت هناك قواسم عديدة مشتركة في السياسات الاقتصادية التي ترجمت هذا التوجه في مختلف الأقطار العربية، ومن هذه القواسم الحرص العام على اجتذاب وتشجيع الاستثمارات الأجنبية، ونقل التكنولوجيا عن طريق الشركات الأجنبية إلى الأقطار العربية، وكان هذا جزءاً من الموقف التقليدي لأكثر دول الخليج التي راهنت على سياسات شديدة السخاء في مجال التجارة الخارجية والاستثمار الأجنبي.
وكذلك كان التوجه العام بالنسبة لعدد من الأقطار العربية قليلة السكان وفقيرة الموارد ويتسم بدرجة كبيرة من الانفتاح على السوق العالمية، إلا أن الافتقار إلى التمويل اللازم لتغطية متطلبات هذا الانفتاح مع عدم حماس الشركات الأجنبية للاستثمار الموسع في هذه البلاد قد حصر مظاهر الانفتاح في الحدود التي تعينها مستويات المساعدات المالية العربية والاقتراض الخارجي.
وهناك فئة ثالثة من الأقطار العربية والتي اتبعت تقليدياً سياسات الانفتاح على الخارج مع وجود قاعدة اقتصادية داخلية أكثر تنوعاً وأوفر في عرض العمل ولم تغير هذه الأقطار من واقع توجهاتها الخارجية العامة على أن الفقر النسبي لهذه الأقطار قد ساهم في ربط هذا التوجه بسياسات تصنيع محلي تقوم على السوق الداخلية من خلال إحلال الواردات.
إن رصد هذا التوجه العام للأقطار العربية وللنظام العربي كله يبرز أن الاندماج القطري في السوق الرأسمالية العالمية قد مثل الخصم الأكبر لمضمون التوجه الاقتصادي الوحدوي وأضعف أيضاً من إمكانات التكامل الاجتماعي على الصعيد القطري ذاته.
إن النتائج المباشرة لتركيز الثروة البترولية في الأقطار العربية الخليجية التي اتسمت سياستها بعدم العطف على الغرض القومي العربي، أنشأت نظاماً سياسياً عربياً تحولت فيه موازين القوى لمصلحة الأقطار والحكومات غير المتعاطفة مع الهدف القومي وبالتالي فإن هدف الوحدة العربية دفع إلى غياهب السراديب الخلفية للسياسة العربية، وإن التغييرات التي نشأت عن المساومة السياسية بين الأقطار الأكثر قومية من حيث التوجه والأقطار المحافظة قد انتهت إلى اضمحلال النظام العربي القائم على الهدف القومي لمصلحة نظام إقليمي تقليدي يخلو تماماً من هذا الهدف.
ومن المستحيل توقع أي نتائج جدية من فحص العلاقة بين صعود وهبوط الثروة البترولية بحد ذاتها من ناحية وقضية التكامل والتفتت على الصعيد القومي العربي من ناحية ثانية، فمثلما كانت النتائج المحددة لصعود الثروة البترولية رهناً بالإدارة السياسية لظروف هذه الثروة، فإن النتائج المحددة لقضية التكامل القومي لهبوط الثروة البترولية هي رهن بالإدارة السياسية لظروف هذا الهبوط.
ومن هنا فإن الاقتصاد العربي والقومية العربية يطرحان مسألتهما من منظور رصد مضمون توجهات السياسة الاقتصادية في الأقطار العربية. ومع ذلك فإنه مهما كان من أمر وطبيعة التوجهات الأساسية للسياسات الاقتصادية في الأقطار العربية في المستقبل فعلينا أن نأخذ بالحسبان أن النمو الاقتصادي في معظم الأقطار العربية وخاصة الخليجية منها قد أصبح تحت رحمة الدول الرأسمالية المتقدمة وشركاتها العملاقة.
ومهما تفاقمت هذه السلبيات فهي قابلة للمراجعة والعلاج عندما تتوفر سلامة النية وصواب التحليل وإرادة التصحيح، لكن ما قد يستعصي على العلاج هو داء انتشار التنكر للذات العربية الذي وجد تربة خصبة في واقع الهزائم والتراجعات والإخفاقات. لقد بلغ الوهن في حالتنا العربية حداً جعل كثيرون يتحدثون عن موت أمتنا! وبموازاة ضمور فاعلية الضغوط الأمريكية إلى تخوم التلاشي عالمياً، كان الوضع معاكساً عندما أوغلت بعض حكومات عربية اتسعت الهوة بينها وبين الأمة في انصياع كلي للأوامر الأمريكية، جاعلة من هذا الانصياع الذليل سياسة ثابتة لها، وكبلت في الوقت نفسه حركة الأمة، وشلت فاعلية الواقع العربي، فبدا بائساً متعاجزاً إزاء هجمة جددت نكبة فلسطين بغزو واحتلال وتمزيق وتفتيت أقطار أخرى، ضاعف بؤس المشهد العربي إيغال بعض أطرافه في تسويغ الانحناء للغطرسة الأمريكية الموظفة صهيونياً، والإمعان في تغييب الشعب ومصادرة إرادته واعتباره قطيعاً لا يسمح له بغير تصفيق وهتاف لدى الطلب. هكذا عاشت منطقتنا توتراً شديداً تحت وطأة هاجس التهديد باندلاع عدة حروب داخلية وخارجية معاً، ونشط نمط الحروب والأسلحة الناعمة، تهديداً وعقوبات اقتصادية وإفساداً إعلامياً وإدارياً وأزمات معيشية ومجتمعية جلها مفتعل، وضمر الاكتراث بالمصير العام واستبدل الحوار الجاد بحوار طرشان.
وانطلاقاً ممّا سبق، نجد أن العلاج يكمن في تربية جمعية لا تتهيب وقفة نقدية عقلانية صارمة تستلهم الجذور العقدية والقيمية والأخلاقية لجوهر الشخصية العربية، مع وعي مبدع وفعال لخصائص عالمنا المعاصر وقوانين تطوره، لكي تؤسس لانطلاقة راسخة القواعد، واضحة المقاصد، سليمة النهج والأدوات، تحسن اختيار السبل والوسائل وتصويبها. وهناك من يرى أننا بتنا اليوم بحاجة إلى مقاربات نفسية، وليست سياسية أو اجتماعية، لمعالجة مشاكلنا المتصاعدة، مقاربات تواكبها مراجعات جذرية تشمل الأمة من أقصاها إلى أقصاها، عمودياً وأفقياً، فأكثر ما يتلاحق فينا يبدو خارجاً عن السياق الطبيعي لتطور النظريات السياسية وتفسير ظواهرها التي توالت متسارعة وفاقت التوقعات والحسابات، حاملة في طياتها مؤشرات خطيرة لأوضاع يصعب ضبطها أو توظيفها أو الحد من تداعياتها إقليمياً ودولياً.
فخطر الاستهداف الخارجي الواضح لجوهر الذات الحضارية لأمتنا ولفاعليتها على نحو يهدد حاضر هذه الأمة ومصيرها ووجودها جدير بإيقاظ وعي يعزز التصدي للسكين الغازية ويوحّد الضحايا التي تستهدفها تلك السكين، لا تملك هذه الضحايا عندما تدرك ما هو مبيّت لها إلا خيار توحيد إرادتها وصفوفها، واستجماع قواها دفاعاً عن وجودها ومصيرها، على نحو يحرص على أولوية مصلحة الوطن والأمة على كل الاعتبارات الأخرى.
إن الوعي في البنية الاجتماعية العربية ليس بالمستوى المطلوب خصوصاً في مجتمعات الاستهلاك، وكان لمحاولات البعض استغلال الدين دور في تغييب وعي الجماهير، وحشدها باتجاهات بعيدة عن روح الإسلام وسماحته وخطابه التنويري واتساعه العالمي، إن المؤامرة كبيرة على الإسلام وعلى فكره الأصيل واتساعه الإنساني. إنها مؤامرة إنتاج المحرضين من مدعي الإسلام ومشوهي اتجاهاته الكبرى ومعانيه العروبية والقومية والحوارية ومساحات المحبة والانفتاح التي حملها جوهره ومضمونه الفكري والعقائدي الذي يجب أن يحمله إلى العالم.
المطلوب اليوم مشروع وطني وقومي تنهض به القوى الوطنية والقومية والتقدمية والإسلامية المتنورة لإنتاج فكر عقلاني عروبي ديمقراطي يحمل رؤيته وانفتاحه ومحبته وتسامحه بعيداً عن الانغلاق والتعصب، وهو مشروع شعبي، ولن يكون إنتاج أنظمة رسمية بل إنتاج تيارات ونقابات ومثقفين وأحزاب ومجتمعات أهلية ومتنورين إسلاميين، يعيد عقلنة الشارع العربي والنهوض بوعي طبقاته المستغلة فكرياً، واختراق بناه المغلقة، والمستلبة في تفكيرها ووعيها.
إنه مشروع بعث عصر أنوار جديد مجتمعي ووطني وقومي وكم نحن بحاجة إلى التنوير الجديد، إنه الوعي الجديد... إنه الوعي البديل.
---------------
* المنسق العام لرابطة الصحافة القومية بالمغرب العربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.