اليومي والعاديّ يرقصان في دائرة السحر التحولات محمد الربيع محمد صالح دشنت وزارة الثقافة والفنون والتراث في مساء الاثنين الرابع من شهر مضان الكريم، الموافق للثالث والعشرين من شهر يوليو الحالي، اثني عشر ديوانا شعريا لادباء من مختلف أجيال الابداع الشعري السوداني ورموزه الكبار، هي دواوين: «من التراب «لمحيي الدين الصابر،» أم القرى «لعثمان محمد اونسة، «شيء من التقوى» للجيلي صلاح الدين، «على شاطي السراب» لابي القاسم عثمان، «في مرايا الحقول» لمحمد عثمان كجراي، «المغاني» لمصطفى طيب الاسماء، «شبابتي» لحسين حمدنا الله، «من وادي عبقر» لسعد الدين فوزي، «غارة وغروب» لمحمد المهدي المجذوب، «في ميزان قيم» الرجال لمحمد عثمان عبد الرحيم، «والوحي الثائر» لفضل الحاج علي، والمجموعة الشعرية الكاملة للشاعر محمد محمد علي. الى جانب الترجمة الانجليزية لرواية مهر الصياح للروائي السوداني المقيم في قطر أمير تاج السر. تقدم هذه الدواوين ملمحا مهما من ملامح التجربة الشعرية السودانية ممثلة في رموزها الكبار وفي مختلف فنون القول الشعري، وتكشف جانبا من انحيازاتهم الجمالية الى القصيدة التقليدية الموزونة والمقفاة أو قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر. والميزة الاهم التي تطرحها بعض هذه الأشعار انها تضيء بدايات لرموز كبار اسهموا في صياغة المسار الابداعي للنص الشعري في السودان مثل محمد المهدي المجذوب ومحمد عثمان كجراي. بدأنا أمس باستعراض جانب من محتوى هذه الدواوين، ونواصل اليوم مع الشاعر الرائد محمد المهدي المجذوب «1919-1982» في ديوانه «غارة وغروب». ولد محمد المهدي المجذوب عام 1919 م بمدينة الدامر شمال السودان، وتوفي عام 1982م. يعد من المجددين في الشعر العربي والسوداني، ومن جيل ما بعد رواد النهضة الشعرية السودانية والعربية مباشرة. التحق بكلية غردون التذكارية وتخرج في قسم المكتبة.حرر وكتب في عدة مجلات وصحف سودانية وعربية، وقدم لعدد من الكتب والدواوين، منها ديوان الشاعر محمد محمد علي وديوان الشاعر الناصر قريب الله وغيرهما. من دواوينه: نار المجاذيب (1969م). الشرافة والهجرة (1973م). منابر (1982م). تلك الأشياء (1982م). «شحاذ في الخرطوم» صدر بعد وفاته (1984م)، كما صدر له بعد وفاته ديوانان هما: القسوة في الحليب (2005م)، أصوات ودخان (2005م). لم يؤسس محمد المهدي المجذوب اختلافه في سياق الشعر السوداني بالطاقة الإبداعية الهائلة لشعره فقط، بل لكونه علامة فارقة في خطاب شعري يتفجر منقطعاً عن تقاليد الكتابة الشعرية السائدة ومنفلتا من أسر العادة والتقليد، التي جعلت من الشعر السوداني «المكتوب بالعربية» مجرّد وكيل محيطي لشعر المركز العربي، يعيد تسويق نفس المنتج، وفق شروط خطاب المركز وآلياته بل وازماته. وأولى علامات خطاب اختلاف المجذوب هي افراغ عمود الشعر العربي من محمولات المركز الدلالية وشحنه بجماليات المكان «طبوغرافيا وجودنا الحميم» بتعبير باشلاء، فشعر المجذوب في أهم ملامحه هو تجلي لمحمولات المكان الثقافية ولعلاماته وهي تخرج من سياقها في السوسيولوجي إلى سياقها الجمالي في النص الشعري، فمحتوى العلامة ومادتها الاساسية ذات علاقة عضوية بالمكان، والاصوات المتحدثة في النصوص ذات إنتماء عضوي وحميم إليه، ولها امتدادات حيوية داخل تربة وشروط الثقافة السودانية - نمط الحياة وتاريخ الشخصية واتجاهاتها المرتبطة بالمكون الساسي في الوعي واللاوعي-. هذا الخروج عمّا اسميته افراغ عمود الشعر العربي من محمولات المركز الدلالية وشحنه بجماليات المكان، تصاعد ليعقبه خروج آخر على مستوى العمود نسه والبنى الإيقاعية المرتبطة به، حيث قام المجذوب بتشظيه وحداته الايقاعية واعادة ترتيبها من جديد في نصه، وفق شروط تنسجم مع مشروعه الشعري الذي يسعى لتحقيق إنفلاته من رق عادات الكتابة السائدة على مستوى الفحوى والشكل. هذا الخروج بلغ ذروته في نصي «البشارة الخروج، القربان» و «شحاذ في الخرطوم»، جاءت هذه التحولات الحاسمة في ظل خطاب شعري استفاد من منجزات الثورة التي أحدثها الخيار الرورمانسي في الشعر خاصة فيما يتعلق بالاحتفال بالعادي واليومي، التي أصبح بعدها كل الكون موضوعا للشعر ومادة له في اول خروج مؤزر على معازل الشعر وتقاليده الموروثة، فكانت نصوص المجذوب مسرحا ابطاله القرى وبائعات الكسرة وماسحي الاحذية والدراويش والتفاصيل الصغيرة، والعلامات التي افلتها المجذوب من عقال المسكوت عنه ومعازل اللا مفكر فيه لتتسنم ذروة المشهد الجمالي في النص وتؤكد حضورها في مرموزيته عبر جماليات الاحالة وجماليات المكان. لم يكن المجذوب يصدر عن طاقة وقدرات مرتبطة بشروط آنية وعارضة، يستنفدها الزمن وقوته المدمرة ،فعلاماته ورموزه الشعرية تستمد قدرتها على الصمود من صدورها عن خطاب شعري، وليس من موقف اجتماعي آني وعابر، بل إن الموقف الاجتماعي هو أحد العلامات الدالة على رسوخ هذا الشعر في المشهد الإنساني في اعمق حلقاته أسى وفقرا وألم، لذا فإن شعر المجذوب يستمد كونيته وإنسانيته الخلاقة من إنتمائه العميق لأحلام وأزمات وطموحات فئات واسعة، ظلت تصنع الحياة لفئات أخرى محدودة وتزوى في معازل النسيان. لقد أعاد المجذوب كنوز الشعر إلى الإنسان بعد ان ظلت لعود طويلة ملكا لشروط خارجه واعاد الاعتبار إلى أشياء كانت تحجل خارج دائرة الشعر. غارة وغروب اشتمل ديوان «غارة وغروب» الصادر عن وزارة الثقافة والفنون والتراث، على إحدى وخمسين قصيدة تتراوح تواريخ تأليفها بين مطلع الاربعينيات، والخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وتلتزم كل القصائد النموذج التقليدي الملتزم باوزان الخليل وبحوره، وتعبر عن مكنة ودربة عالية في توظيف جماليات القصيدة التقليدية لأداء رسائل ذات طبيعة وهموم معاصرة، وتلك من ميزات المجذوب الذي حذق الكتابة بالشكل التقليدي، وعبر من التقليد الى الحداثة والتمرد على الاشكال السائدة الموروثة بمعرفة وحذق ورؤية. كما تعكس النصوص الحس الفلسفي العميق في معالجته للأفكار والتفاصيل من مشارف التجربة، وهو ملمح لازمها حتى رحيله، وتشف النصوص عن انتماء المجذوب الذي لا يقبل المساومة للفقراء والمعدمين والمهمشين في المجتمع والاقتصاد والسياسة، فتجد في قصائدة انتصارا دائما لهؤلاء وانحيازا دائما اليهم. مختارات من ديوان «غارة وغروب» قصيدة «غروب»- بورتسودان 1 سبتمبر 1952م شباب وريق في ذبول مشيب وصبح أنيق في رماد غروب غدير يدور الليل من كل جانب عليه ولم تظفر يداه بكوب إلى الشمس فانظر تلقم الليل ثديها عقيم الهوى من حسرة ونضوب أأحبلها يأس قديم بضوئه فجاءت بصبح أنكرته غريب تبرأ منها الكون أما صريعة فما مسها ستر الدجى بمغيب تلوح لم تمسك بشيء صياحها شرار نجوم في دجون غيوب وتنفضها عن أسها كل قنة تهاوى دمع في الرحيل سكوب سكون الدجى يسجو ويصغي جموده إلى صرخة في صدره ودبيب نظرت إلى فجر على الباب واقف فأجفلت من ضوء عليّ رقيب وعدت إلى ظل على الرمل ضارب اسائله عن قسمتي ونصيبي وقلبي مشتاق على الخوف آمل يلج ذبيحاً في شباك وجيب أقلبه في الدمع تقليب ثاكل ربيبا مضى لم تتله بعقيب أفارق من عمري ثلاثين حجة ولما انج في هذا المدى بحبيب وما ذكرياتي كم توهمت ناشقا من الورق العافي سرار طيوب ليس بمجديني صباح عرفته يعود بأمس لا يعود غصوب وفي العيش حان خادع الشرب ضاحك ينيم جراحي أويبك شحوبي يزودني الآثام ليلا فأنثني إلى ندم برح الملام كثئيب أكل هوى خصم لدود وصاحب حبيبُ إذا فكرت غير حبيب وحيد ولي قلب مشوق وصبوة إلى نخلة خلف البحار عروب يسائلني الربان عنها فلم يجد من الوصف إلاعبرتي ونحيبي تشابهت الأشياء حولي بأوجه وبعد كأشباح السراب مُريب ولم يبق في نفسي سوى نفح برعم وفي لي لم يعرف خداع قلوب صبا لم يفارقني مع الأمس طيفه يهدهد صبري يائيسا وندوبي ولي وطن قاسمته العيش بائسا يُعاشرني في قلتي وخطوبي فإن عشت عشنا في اتحاد وإن أمت فما أنا في أرماسه بغريب يغيب زرقب من نفسي على الدرب ساعيا ويبدو من خلال دروب تسمعت خطوا في لم يدر غاية تعجبت من أقدامه ونكوبي زقاق وأقدام خفاف يبلها خلاعة إبريق هناك صبيب وفي جانب مني غدير وروضة وراء جبال همدٍ وسُهوبِ تراها ظنوني حين ضوئي منيتي ظلامي من خمر الضحى وغروبي ألاقي بباب الحان ليلا مشردا أساعفه من كرمتي بطبيب وهاترني حينا فوليت شاريا أجرد مقتولاً حسام شبيب يعيش قضائي غير عيشي مخيراً فمن لي بعيش من رؤاي خصيب وأبلست لا أسعي ومدت خواطي أيادي من ناءٍ دعا ومجيب قصيدة «قطار وجبل1945» يحلق الجبل المغروس مبتدرا إلى السماء تعالي في تعاليها أنسته زرقتها الوادي وما برحت صخوره العمي تحو في مراقيها أجفلت أنقذ روحي، قد تميل به ريح الدياجر قد هبت غواشيها يملأن كل حضيض يرتفعن به إلى الذرى فأعاليها النجم ريش دياجير يذبحها أدانيا برق يحطم أبعاد ويلغيها أبيتُ أسمع نفسي وهي نائية عني هنالك ممحوا أناديها يصور الماء بستانا بصفحته فكيف أمسك أشواقي وأبديها أيمسخ الليل هذا الكون ملمَسهُ وليس يطمس آلامي أقاسيها تنمو بنفسي أشباح منكرة مجاهل الدجن ذو الأصداء تحكيها أخشى السكون إذا أصغى لوحشته تسعى إليّ بحوت من دياجيها هذي الجبال أثافي تفرعها قدر السموات رغو النجم يوريها غد طبيبي ما جربت حكمته إلا ظنوني آمالا أمنيها غد تفرس في أمسي يعود به رمسا هو الرحم القصوي أوافيها دمي تلوَّن يمحوني تلونه أنا الغريق بأنفاسي أناديها ويك التفت حذرا يا قلب معتذرا إلى الغيوب علي جهل تجاريها أطرق فربت إطراق رأيت به عينيك عينيك لا ضوءا وتشبيها صبح تحجب في ظلماء خابية تقيد الشمس لم تبرح دواليها تعر في الخمر لم تكتم حقيقتها وأنت تطعمها وهما وتسقيها وما تجرد شيء عن طبيعته على المخافة بالكتمان يفشيها فأرقص وترجم وشق الثوب مفتضحا عجزا ونفسك أستار تعانيها البحر صارع في الآفاق عاصفة لم يسمع القاع في مثوه داميها ما دنت بالنور إلا أنني وهبت شكري يقدس نعماها ويبقيها تقارع لمس الأعماق فابتدرت منها عيون شربنا روح صافيها طيف تخلف من طيف تمازجه نفسي ونفسك قاصيها ودانيها أني ذكرتك بالسوكي إذ وقفت لنا القضارف تكسوها مراعيها حييت أزرقها الصوفي هجرته في نصرة الله بالتقوى يزكيها وشيخي العابد المكي آيته كرت على الترك رووا سيف تاليها يسري القطار بنا قيدا يسيل به تجيته الحلل القصوى فيلقيها زادي محياك والسفار قد همسوا أينا وقمت على روحي أواسيها أتذكرين لقاء صدفة ظفرت بطائرين أجابا صوت داعيها فولا تبيعين ما تدرين ما فعلت عيناك آخذ منك الفول تمويها ناولتنيه بكف رحت أمسكها لما ضحكت يمنيني تأنيها ولو بقيت لأحيتني سماحتها طفلا جديدا بلا نفس أداريها ضيعت روحي في الخرطوم غانية أبيت أحذر من أعناب ساقيها نفسي جمال غريب لا ينم حياء كاسي تخفي لون ما فيها به ما للسرائر أسواق فنعرضها حتى نصادف من بالحب يشريها.