وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قرنق.. زعيم إستثنائى لوطن منكوب
نشر في الراكوبة يوم 29 - 07 - 2012


فى الذكرى السابعة لرحيله :
قرنق.. زعيم إستثنائى لوطن منكوب.. (1 – 2)
عادل إبراهيم شالوكا
[email protected]
كان منقوش فى جينة آدم ..
إنو حيطلع يوم : نيريرى .. وجومو كينياتا .. باتريس لوممبا .. ود / جون ..
كان منقوش فى الإهرامات .. د/ جون .. الحى ما مات..
بدءاً .. التحية للمبدع الرائع, الشاعر, الرفيق / خالد عباس, الفنان المُرهَف الذى إختَّط يراعه رائعته المُتفردة : (كان منقوش فى جينة آدم) فى رثائه للدكتور/ جون قرنق دى مبيور, والتحية للرفاق أعضاء الجبهة الوطنية الأفريقية (A.N.F) الذين تبنوا هذه القصيدة فى أدبياتهم الثورية وظلوا ينشدونها فى ساحات النضال بالجامعات السودانية, فهم (المبدعون فى عطائهم .. والمبدعون فى تلقيهم لهذا العطاء). ف"قرنق" يُعتبر زعيم فلتَة وأُسطُورة إستثنائية لن تتكرر بسهولة, فهو من طينة خاصة كما شبَّههُ الشاعر/ خالد عباس بإنه من جينة جوليوس نيريرى, جومو كينياتا, وباتريس لوممبا, وإنه كان منقوشاً فى الإهرامات, فهو من سلالة ملوك كوش وحضارتها العريقة, أصل الحضارات الكونية.
تمر علينا هذه الأيام الذكرى السابعة لرحيل الزعيم التاريخى لثورة المهمشين والحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان ومُفجر ثورة الخلاص الوطنى, الزعيم الإستثنائى الذى رحل فى ظروف غامضة بجبال الأماتونج فى حادث تحطم المروحية التى أقلته من مطار عنتيبى إلى نيو سايت أمسية 30 يوليو 2005م بعد (21) يوم فقط من أدائه القسم نائباً أول لرئيس الجمهورية ورئيس حكومة جنوب السودان, ذلك الرحيل المفاجىء الذى أفجع الجميع الذين كانوا ينتظرون الكثير من الزعيم الذى إستقبلوه بالملايين فى الساحة الخضراء بالخرطوم يوم الجمعة 8 يوليو 2005م.
قرنق مبيور : معاناة الطفولة :-
ولد قرنق عام 1945 في قرية (وانقلى) قرب مدينة بور بولاية أعالي النيل, وكأترابه عمل راعيا للمواشي التي تملكها الاسرة، ولم يولد الطفل قرنق وسط رغد الغيش والجاه مثل سائر الزعماء الذين مروا على التاريخ السوداني، بل علي العكس من ذلك تماماً، فقد عاني مثله مثل غالبية سكان الريف السوداني الفقراء والمحرومين, وجد نفسه يتيماً وهو في العاشرة من عمره، مما أضطر أحد أقاربه لأن يتحمل نفقات تعليمه, وقد مكّنه ذلك من أن يواصل دراسته بكل من مدينتي واو ورمبيك, كذلك وفي فترة صباه فرضت الظروف المعيشية القاسية عليه أن يكسب عيشه بالعمل وإنتقل للخرطوم وعمل في الهيئة القومية للكهرباء ومنها ذهب للعمل في منطقة الدمازين كأجير يومي يحمل الخرصانة في مشروع تعلية خزان الروصيرص على النيل الأزرق.
مراحل الدراسة :-
بدأ قرنق دراسته فى ظروف معيشية غير ميسورة, ويقال إن مدير المدرسة رفض تسجيله فى بادىء الأمر بحجة كبر سنه, فقد تأخر عن الإلتحاق بالدراسة فى سن مبكرة لإنشغاله بالإهتمام بماشية الأسرة, ولكن المدير وافق فى نهاية الأمر ولا ندرى أى جريمة كان سيرتكبها إذا تمسَّك بموقفه, درس المرحلة الثانوية في منطقة رومبيك وأُغلقت المدرسة بسبب الثورة التي كانت قد إندلعت في الجنوب عام 1955, فواصل تعليمه الثانوي بالمدارس العليا في تنزانيا، وذهب إلى كينيا وعمل في التدريس عام 1965 بمدرسة "كانتوناقا" الثانوية والآن تسمى مدرسة "ماونت كينيا العليا", واصل قرنق دراسته حتى نال درجة البكالوريس في الإقتصاد عام 1969 من كلية قرنيل بمقاطعة (أيوا) بالولات المتحدة الأمريكية, وقد منح فرصة للدراسات عليا في أعرق جامعاتها لكنه فضَّل العودة لتنزانيا حيث درس الإقتصاد الزراعي لشرق أفريقيا بجامعة دار السلام, وكعضو في الجبهة الإفريقية الثورية بجامعة دار السلام، ربطته علاقة زمالة وصداقة مُميزة بيوري موسيفيني، الذي أصبح فيما بعد رئيساً ليوغندا, وقد ظل موسيفيني حليفاً وصديقاً حميماً لقرنق في رحلة نضاله الشاقة والطويلة حتى اللحظات الأخيرة من حياته, عاد قرنق إلى الولايات المتحدة مرة ثانية لتلقي تدريب عسكري في فورت بينينج، جورجيا.
إلتحق قرنق بحركة (أنانيا - 1) عام 1963، وهي الثورة التي قادها نائب الرئيس السوداني الأسبق جوزيف لاقو وكانت تسمى حركة تحرير جنوب السودان، وقتها كان قرنق يبلغ من العمر 18 عاماً, وبعد ذلك بعشر سنوات، وقَّعت الحكومة المركزية إتفاقاً مع حركة الأنانيا (إتفاق أديس أبابا 1972) وصار الجنوب منطقة حكم ذاتي, وإستوعب الجيش السوداني قرنق وآخرين حيث إنتقلوا للعيش في الخرطوم, حيث تم إستيعاب قرنق في القوات المسلحة السودانية برتبة "نقيب" بالدفعة الثامنة عشر, عاد قرنق إلى الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى عام 1974 ليحصل من جامعة (أيوا) على درجة الدكتوراة في الإقتصاد الزراعي عام 1981م, وبعدها عاد إلى الخرطوم وعمل في مركز البحوث العسكرية بالقوات المسلحة، كما عمل بالتدريس بجامعة الخرطوم كلية الزراعة.
الأستاذ الجامعى :-
يقول الدكتور/ عمر القراى : (أول مرة رأيت فيها د. جون قرنق، رأيته يقف وهو في كامل زيّه العسكري، يحمل في يده قبعته العسكرية، وفي يده الأخرى حقيبة، في ركن نقاش، كنت أقدمه بكلية الزراعة في جامعة الخرطوم في عام 1983م.. وذلك بعد أن تخرَّجت من الجامعة بسنوات، وفرغت للتحضير للماجستير. وبعد أيام، حين بدأت الدراسة، كان د. جون من ضمن أساتذتي الأجلاء، وكان وقتها يعمل مديراً لإدارة البحوث العسكرية، قد تبرع للمشاركة في تدريس طلاب الماجستير، بلا مقابل.. وأذكر بالإضافة إلى د. جون، د. بابكر إدريس، ود. كامل إبراهيم حسن، وبروفسير فرح حسن آدم، والأستاذ الأمريكي الزائر د. براين ديسلفا، والذي ترك د. جون معه أوراق إمتحاننا، حين قرر السفر للجنوب، ليُنشئ الحركة الشعبية لتحرير السودان. لم تمنع د. قرنق مكانته كأستاذ، أن يقف في رُكن نقاش يؤمه الطلاب، ويتجافى عنه الأساتذة.. ولم يؤثر فيه، إنه يلبس الزي العسكري، ويُشارك طلابه المدنيين، الإستماع لمختلف وجهات النظر، التي كانت في الغالب، تهاجم الحكومة التي يعمل في جيشها.. كان إلى جانب تواضعه الجم، حريصاً على سماع مختلف الآراء ووجهات النظر، ومهتماً إهتمام بالغ، بالشأن السوداني، وما يدور في ساحة الحوار الفكري والسياسي، الذي كانت جامعة الخرطوم في ذلك الوقت، رأس الرمح فيه ) - إنتهى.
رؤية مبكرة واضحة لا تتغيَّر:-
في عام 2002م زار د. جون قرنق الولايات المتحدة الأمريكية. فقامت الجامعة التي نال منها درجة الدكتوراة، وهي جامعة ولاية أيوا بإيمس، بدعوته لتكريمه في حفل، رأى هو أن يكون مُخاطبة للسودانيين الموجودين بالمنطقة وما حولها، عن الوضع السياسي في السودان، ورؤية الحركة الشعبية لمستقبل البلاد.
في بداية المحاضرة الشهيرة والتى قدَّم فيها قرنق رؤية متكاملة لطبيعة الصراع فى السودان وتصوره للحل الشامل, تحدث أحد أساتذة د. قرنق السابقين، وقرأ من آخر بيانات الحركة الشعبية لتحرير السودان، وقال هذا ما يقوله قرنق، كقائد حركة تغيير، في وطنه، اليوم، وما يطرحه كحل لمشكلة بلده، بعد حوالي عشرين عام من النضال، فماذا كان يقول قرنق عندما كان طالباً ؟ وكان يحمل أيضاً أطروحة قرنق للدكتوراة، وقرأ منها من المقدمة التي يُلخِّص فيها قرنق مشكلة السودان، وتصوره العام لكيفية حلها، فضجَّت القاعة بالتصفيق، لما سمع الحاضرون من الإنسجام التام، بين حديث قرنق الماضي حين كان طالباً، وتصوره بعد أن أصبح قائداً ..!! فعلق البروفسير بانه : لا يعتقد بإن هناك قائد لحركة تحرر وطني في أفريقيا، أو غيرها، يملُك رؤية واضحة بهذه الصورة، سوى أن إتفقنا أو إختلفنا معه .. !!
قرنق المُفكر :
إستطاع د. قرنق بفكره وعمق رؤيته أن يضع نفسه عن جدارة وإستحقاق في سجل التاريخ، ليقف بذلك كأحد أعمدة الفكر السياسي في التاريخ السوداني المعاصر, وآخرين أقعدهم وَهَم زائف بعلوا شأنهم، وهؤلاء من حملوا وتحاملوا عليه كثيراً عن قصد وجهل بحقائق التاريخ، لكنه رغم كل ذلك، رحل تاركاً خلفه تراثاً فكرياً عميق المحتوى، تتقاصر أمامه قامات, وستظل كذلك سنيناً عددا إلى أن تعترف بعبقريته, لقد أدخل الراحل بقوة الفكر مصطلح "السودان الجديد" في القاموس السياسي السوداني ليصبح الآن لغة ومنطق الخطابات السياسية حتى في أجندة ألد أعدائه.
لم يكن د. قرنق مفكراً كلاسيكياً، بل كان وسوف يبقى عبقرياً متجاوزاً لزمانه، بكل ما تحمل هذه الجملة من دلالة, وبمقارنة ما طرحه من أفكار وفلسفة خلال تاريخه السياسي القصير في مواجهة معاصريه من الساسة السودانيين، تتكشف لنا كم كبيرة هي المسافة التي تفصله عنهم، سواء على مستوى الرؤية أو المنهج. قرنق كان رجلاً "مُفارقاً" لزمانه ومعاصريه، ذلك لأن هؤلاء "المعاصرين" ظلوا حبيسي أضابير المناهج التقليدية في التحليل بينما قفز هو مرحلة إلى الأمام في سلم التطور الفكري، مستفيداً من المناهج الرياضية في ثوبها الحديث لتفسير واقعه الإجتماعي، ومناقشة المستقبل السياسي إستناداً على هذه الأداة التحليلية القوية والمعاصرة.
منهجية قرنق :
على مستوى المنهج نجد أن قرنق ينتمي لما يمكن أن نطلق عليه مُفكري جيل الحداثة, فبمقارنة بسيطة لكل ما كتبه القُدماء والمُحدِّثين حول السياسة في السودان نجد أن كل هذه الكتابات لم تخرج عن قالب نمطي يستند على المنهج الوصفي/ التحليلي، والذي وبقدر ما يتميز بدقة السرد للوقائع، غير أنه من جانب آخر ضعيف في عملية التحليل (التفكيك وإعادة التركيب), إذ يغلب عليه طابع الترتيب الزمني التتابعي (الكرنولوجي) للوقائع بهدف تكوين "بنية كلية" لهذه الأحداث، تمتد خطياً لتربط هذه الأحداث مع بعضها البعض، على أساس تسلسل زمني مغلق بنقطتي بداية ونهاية, وهو الأمر الذي يؤثر في الناتج النهائي للتحليل, ولشرح هذه النقطة فلنتخيل الأحداث المتتالية الآتية : الواقعة (أ) حدثت في العام الأول، والواقعة (ب) في العام الثاني ... الواقعة (س) في العام (ن). فأول ما يبدأ به المنهج الوصفي/ التحليلي رحلته هو وصفه للوقائع [أ، ب، ج.....]، كحوادث مجردة في التاريخ.
منهج التحليل الرياضى :
بعكس غيره من المُفكرين والكُتَّاب والسياسيين الذين إستندوا على المنهج الوصفي/ التحليلي فى تشخيص الأزمة السودانية, فقد كان قرنق يري قضية السودان رياضياً على هذا النحو : س = (أ + ب + ج). حيث (س) هى السودان أو الهُويَّة السودانيَّة وهى دالة مرتبطة بالمتغيرات أ ، ب، ج. يمثل (أ) التنوع التاريخى، ويمثل (ب) التنوع المعاصر، و(ج) تأثيرات الحضارات الأخرى علينا، لأننا وكما يقول هو: "لا نعيش فى جزيرة معزولة إنما فى مجتمع إنساني". أما المتغير (س) والذى يمثل الهُويَّة السودانيَّة، فهو المحصلة النهائيَّة لهذه المتغيرات أو المكونات وعموماً، فلنتصور الهوية الإسلامية العربية مرة أخرى بإفتراض أنها دالة مرتبطة بالتنوع المعاصر والتاريخي في المعادلة التي وضعها قرنق :
س (ثابت) = (أ + ب + ج)، حيث (س) الهوية العربية الإسلامية وهي هنا ثابت، (أ)، (ب)، (ج) تمثل التنوع التاريخي والمعاصر والمؤثرات الحضارية الإنسانية الأخرى كمتغيرات. عليه تكون النتيجة على النحو التالي:
(المتغيرات أ، ب، ج) = (ثابت)، وعند إجراء إشتقاق تفاضلي لهذه الدالة بالنسبة للزمن، وبما أن إشتقاق الثابت يساوي الصفر، وأن الهوية (س) التي تمثل الهوية العربية ثابتاً، إذا فمعدل تغير عناصر التنوع المعاصر والتاريخي تصبح صفراً (ثابت) أو لا يوجد تغير فيها (سكون لحظي).
وبإجراء الإشتقاق فإن: د(أ،ب،ج)/دن = صفر، وفي الرياضيات وعندما يساوي معدل تغير مُتغير (ما) الصفر، فهذا يعني أنه إما وصل نهايته العظمي أو الدنيا أو أنه في مرحلة إنقلاب يمضي بعدها في مساره، والذي قد يكون إما إنحدار أو علو أو في مسار ثابت. وهذا يعني أن هذه العناصر ستعاني واحدة من هذه الحالات المذكورة. ووصول هذين التنوعين إلى هذه المستويات من الإستنتاج الرياضي يدخلنا في تناقض مع الصيرورة التاريخية عند رؤيتها في الحقل الإجتماعي الذي يتحركان فيه، فكيف يمكن تفسير ذلك ؟؟ إن التفسير والوحيد الذي تقبله شروط العقلانية هو إفتراض تأثير عوامل محددة (Determinant) لهذين التنوعين تمكنت من الحد من تطورها في حقلهما التاريخي / الإجتماعي. وبدارسة عناصر المعادلة مرة أخرى يمكننا تقوية هذه الفرضية عند النظر لوجود الثقافة العربية الإسلامية كطرف في المعادلة. وطالما أن هذه الثقافة وبحكم طبيعة تكوينها وبنيتها سوف تعمل على الحلول مكان التنوع التاريخي والمعاصر بدلاً من التفاعل معه، فإن ذلك إما يؤدي إلى إنحدارهما أو وصولها إلى نهايتها العظمي أو الدنيا في تركيبية المعادلة، وإنحلال هذين التنوعين في بنية المعادلة يعني فقدان الرابطة التي من الممكن لها أن تتطور نحو تكوين هوية مُشتركة, وبهذا فقط يمكن تفسير النتائج التي أفرزها المنطق الرياضي.
رؤية السودان الجديد : معرفة جيدة للتاريخ :
ينطلق قرنق في رؤيته من واقع التعدد الإثني والثقافي والديني الكبير الذي يحفل به السودان، معتبره مصدر قوة الأمة، لا سبباً للشقاء والحروبات والتخلف, ويُفسر ذلك بأن وحدة الدولة والقوميات السودانية جميعها، تنطلق من واقعين هما : واقع التنوع التاريخى، والتنوع المعاصر، واللتين يعرّفهما على أنهما يمثلان عناصر تكوين وتشكُّل الأمة السودانية ولا بدَّ من تأسيس الوحدة عليهما.
تنوع تاريخى :-
يُشير قرنق إلى أن القسم الأول من التنوع, يمثل التكوينات الثقافية والحضارية والعرقية التي سادت في العصور القديمة مستنداَ على التاريخ والأديان، ويمضي شارحاً ذلك بقوله:
(.. هذا هو الكتاب المقدس، وهو بين يدي وليس فى رأسي، ففى سفر التكوين، الإصحاح الثانى : "الله بحكمته المطلقة خلق كل شئ، غرس الرب الإله جنة فى عدن شرقاً ووضع هناك آدم الذى جبله، وكان نهر يخرج من عدن ليسقى الجنة ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس. إسم الواحد "فيشون"، .. واسم النهر الثانى "جيحون"، وهو المحيط بجميع أرض كوش.. واسم النهر الثالث "حداقل"، وهو الجاري شرقي أشور .. والنهر الرابع هو "الفرات" ). ويمضي مُستطرداً في شرحه : (سأعطي للناس فكرة مبسطة عن جنة عدن، إذ يعتقد الكثيرون أنها قطعة صغيرة من الأرض, فى الحقيقة أن جنة عدن مساحة كبيرة وممتدة من الأرض فهى تنبسط من قيهون (قحيون) جنوباً الى الفرات شمالاً. وفيهون وفيشون اللذان يجريان فى أرض كوش هما نهرى النيل الأبيض والنيل الأزرق. وتقع كوش، وفقاً لتفسير إحدى الحواشي، فى السودان. فالسودان مذكور بالحرف فى الكتاب المقدس الإصحاح التاسع عشر : ("فرجع ربشاقى ووجد ملك أشور يحارب "لبنة" لأنه سمع أنه إرتحل عن "لخيش"، وسمع عن "تهارقا"، ملك السودان، قولاً قد خرج ليحاربك قائداً لجيش المصريين فعاد وأرسل رسلاً الى حزقيا ملك يهوذا) .ويذكر سفر أخبار الأيام الثانى، الإصحاح الرابع عشر، أنَّ حرباً وقعت بين الإسرائيليين وجيرانهم، وكان السودان أحد هؤلاء الجيران، فخرج إليهم زارح السوداني بجيش ألف ألف وبمركبات ثلاث مئة وأتى الى مريشة ) ويستطرد قائلاً : ( يتضح من ذلك أنه كان لنا حاكم يدعى "زارح" إستطاع أن يعد جيشاً قوامه مليون رجل), ويواصل : أيضاً، فى سفر زكريا، الإصحاح الثامن عشر، كما يعلم الكثيرون منكم، ورَّد أن الله سيعاقب السودان، ويبدو أن هذا العقاب قد وقع علينا بالفعل. هذا هو تاريخنا وهذا ما صنعناه نحن. لا بدَّ من الرجوع الى الماضى حتى ندرك الحاضر ونمهّد الطريق الى المستقبل. فقد إزدهرت حضارات كوش، ومصر الفرعونيَّة، والممالك القروسطيَّة منذ آلاف السنين قبل الميلاد. ومن ثمَّ، ومع بداية الحقبة المسيحيَّة، قامت فى السودان حضارات قويَّة تمثلت فى ممالك النوبة المسيحيَّة والتى دامت لأكثر من سبعمائة عام. وتبع ذلك، ومع ظهور الإسلام وتدفق المهاجرين من شبه الجزيرة العربيَّة، تأسست ممالك إسلاميَّة قويَّة, وبعدها جاء الحكم التركي المصرى، ثم المهديَّة، ثم الحكم الثنائي الإنجليزي المصري الى أن نال السودان إستقلاله فى 1956. هذا هو ما أُطلق عليه التنوع التاريخى ... - الحديث لقرنق.
تنوع معاصر :-
وينتقل د. قرنق إلى الشق الثاني وهو ما يطلق عليه (التنوع المعاصر)، بإعتباره الشكل الآخر من تركيبة السودان التي تكوَّنت حديثاً من قوميات ومجموعات إثنيَّة متعددة وقبائل كثيرة تحصيها بعض المصادر على أنها أكثر من 500 مجموعة، تتحدث أكثر من مائة وعشرين لغة مختلفة. فالدناقلة في شمال السودان ما زالوا يتكلمون "بالدنقلاوى"، والبجة ظلوا يتحدثون "بالبجاويَّة". ويروي د. قرنق حادثة تشرح فكرته لمفهوم التنوع المعاصر بقوله : (حدث لى شئ غريب عندما ذهبت الى شرق السودان، فى منطقة همشكوريب، لأتفقد قواتنا الموجودة هناك. كنت أخاطب شباب البجة، وهم لا يعرفون العربيَّة إنما يتكلمون لغة البداويت فقط، وأنا قادم من الجنوب وأتحدث معهم بالعربيَّة، فكان لا بدَّ لى من الإستعانة بمترجم) هذا هو التنوع المعاصر – والحديث لقرنق - نجد العديد من القبائل فى الجنوب، مثل الدينكا، والنوير، والشلك، والزاندى، واللاتوكا، والفرتيت، والمورلى وغيرها من القبائل. وفى الشمال أيضاً توجد قبائل كثيرة غير عربيَّة، فهناك النوبة والفور، والزغاوة، والمساليت، والعديد من القبائل ذات الثقافة العربيَّة كالبقَّارة المسيرية والرزيقات، والكبابيش، والجعليين والشايقية وغيرهم. لدينا كل هذه القبائل وغيرها تمثل هذا التنوع، وهو أيضاً هناك ولم أفتعله أنا. ولدينا أديان مختلفة، فهناك المسلمون، وهناك المسيحيون وأصحاب كريم المعتقدات الأفريقيَّة. إذن، لدينا أديان مختلفة كلها متعايشة منذ زمن بعيد، بإختصار هى الإسلام والمسيحيَّة والديانات الأفريقيَّة التقليديَّة. هكذا، فإن هذا التنوع المعاصر، "قومياً" وإثنياً وثقافياً ودينياً، يُشكِّل جُزءاً منَّا.
ويخلُص قرنق إلى أن هذين التنوعين يشكّلان جزءاً من الهُوية السودانية، ويجب أن يكون السودانيين فخورين بتاريخيهم ويجب أن ينقلوه للأجيال اللاحقة، كما يجب تضمينه فى المناهج التعليميَّة وتدريسه للطلاب لكي يدركوا ثقافتهم، وثراء ماضيهم. ويري د. قرنق إن التحدي الذى يواجه السودان هو كيف يتثنى له أن يعمل على صهر جميع عناصر التنوع التاريخى والمعاصر لكي ينشئ أمة سودانيَّة، قادرة على أن تستحدث رابطة إجتماعية قوميَّة تضم جميع السودانيين تتجاوز هذه "المحليات"، يفخرون بالإنتماء إليها، والدفاع عنها، دون نفى لأي من هذه المكونات.
على خلفية هذه الرؤية، تأسس مفهوم "قرنق" للسودان الجديد الذي دعَى إليه، على منهجية تربط ما بين الماضي والحاضر، أو الأصالة والمعاصرة في السودان بشكل جدلي صميمي، كاشفة بذلك عن وعيه التاريخي والسياسي العميق بجذور وأسباب الأزمة السودانية المُمتدة منذ خروج المستعمر من جانب، وعوامل النهضة الكامنة فيه من جانب آخر. وهو بذلك؛ ومن خلال رؤيته للسودان الجديد، أو كما ظل يقول في مناسبات عديدة "سودان على أسس جديدة"، يطرح صيغة ومعادلة للتعايش بين القوميات والأديان والثقافات المختلفة التي شكّلت السودان منذ عهود موغلة في القدم وحتى يومنا هذا، قائمة على أساس عادل في إقتسام الموارد وممارسة السلطة وبناء هوية مشتركة بديلاً للتناحر والإقصاء والتهميش السياسي والإجتماعي والإقتصادي الذي ظل السمة الأبرز في مسيرة الحياة السياسية في السودان منذ خروج الإنجليز.
نواصل ..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.