[email protected] هي ليست سوى سيرة ما كلفتني الحياة – حياتنا طبعاً بنقله تماماً كما حدث وليس لي في الأمر من شيء ، هو البحر إذاً ذلك الذي خصني بسماع محكيته وأسرار التراب وعمدّني راويتها ، (خور الحاجز ) هكذا عرّفه القدماء ولكنا من فرط جسارتنا ونكاية بالطبيعة أسميناه ( البَحَرْ) ، هادئاً حيناً غير أن أغلب أحواله هياجاً ، شدني إليه وعرفني بالحكاية ، حكاية الوجود ، لم يكن بيننا من مسافة إلا قاب انتعل (حاجه كافره) خاصتي وحين يغافلني ويبدأ سرد حكاياته لا أجد من الوقت ما يكفيني لانتعال حذائي فأهرع نحوه . قال أصحابي : هو أمهر المغنين الذين عبروا أمسيات قريتنا ، كونه لا ييأس من ترداد أغنياته ولنفس السامعين . قلت : بل هو ابرع الرواة ، أنا أعرفه جيداً ، فكثيراً ما وقفت بناصيته وهو يروي حكاية ميلاده على آذان شجيرات( العوير ) التي لا تمل فهي لا تمكث بمكان ما ، بمقدار ما يؤهلها حضور التحولات ، كانت تبكي حينا وأحياناً تريني أسنانها بيضاء لشدة ما راق لها قوله . في تمام الغي بدأته بسرد محكيتي ، اعرف أنها كانت مبتذله وأعرف كذلك أن ليس ثمَّة من يمكنه سماعها فهي تمام الملل ، قال : الحكاية أشد إيلاماً وأقرب رحماً من الأغنيات ، ما كان لي أيها المحشو بالخوف أن أروي عنهم لولا أني عرفتهم ، ثم أطلت بقاءً في مضغ ذاكرتي حتى صارت قبالة مدخل الابتلاع . إذاً أنت ترهقني تمهلاً : قلتها وبكيت . قال : دونك البحر - كما تجاسرت على التعريف - واسع الصدر وأعمق من بئر أقوالكم المعطلة ، اطرح عليه ما ثَقُلَ على قلبك ، وتخير دربك قلت: أنا إذاً أعلمهم بسرِّك حين أطلقت البحر وهم ينادونك (خور الحاجز) اعرف انك اختزنت أسرار المكان جميعها وطويتها وحين أثقلت عليك لحاحاً طرحت بعضها في عمق جوفي . مدّ لسانه هازئاً ومضى ، عدت مراراً ، ولكنه ما أن يراني حتى يكف عن القول ويمكث في الصمت ، صرت أتلصص غفلاته وأتسمَّع ، سمعته ! يسرد الآن أولاً ليعود فيما مضي ، عرفت مما حكى كل أسرار القبيلة وأين خبأت سر أسرار جدها . لم يكن بالطبع ممكناً أن أروي عنه كما روى هو عن نفسه ، ولكني بدأت ،كانت (التواكي) أول قطر الحكايا والحياة هناك ملعباً واسعاً ، إذاً ما الذي يمنعني ويحدني أن أكون مثلها ، بدأت مُذْ كون قلم الكوبيا مختوناً لتوه في صناعة أمثولة ، قاربتها بما أعطيت من سر إلى حياتنا هناك ، فنادت الأرض أن عُدْ لي بطينتى ، وادَّعت علي بتشويه جلدتها . عليّ إذاً أن اظفر بلحظة غفلان الأرض عن طينتها ، وحين نامت عشية أفاض جدي قطر (أوراده ) عليها ، اختلست صوتها بل سرقته ولم اكتفي لحظتها بالطين ، صنعتها ثانية فيما عرّف ( القشوش والسكر) ومن ثم كانت (كدروكه) و( يا عظمتك يامويه) كانت أول فتنة صناعة الحوار . إذ صنعتهن جميعاً مما تبقى علي جبتي من فتات صوت الأرض الذي سَرَقتْ . لم أكن لأعلم أنها ستعلن ظفراني بعشقها ولكنها عرفّتني ( غَنْايْ) ، إذاً لسني سوي صوتها ، وأنا أرويها لا تَلِتْنِي من أسرارها شيئاً ، والمكان شاهد يذكرني به كلما غفلت عن حُسْنِ طويته ، أشجار العرد في تمام شموخها تحضني على السير في اتجاه رفعها فوق مقام (النخل) . تبدؤني الحكاية دائماً حين منام فتمور وتمور وتتناسل لتروى ما سبقها وما ينبغي أن يجيئ وهي أشد حرصاً على ألا ينفرط عقدها ، حين بدأ الحكاية أراهم جملة قد وقفوا أمامي – اعني أجدادي- وكلهم يروي ما يليه من الحكاية ويستحلفونني بحق (البَحَرْ) الذي أطلعني علي السر أن لا أخون الحكاية ، ولا أنقصها شيئاً . أنا الورقة إذاً حين الكتابة ، وهم مدوني وقائع سيرة البحر والتراب عليّ (ببوص ) الصدق و(دواية) غرائب ما عُلِّموا ، قالوا : لا تتخيل فهو ليس بذي شأن بخبايانا ولا يعرف نصرنا أو هزائمنا فهي ليست مما قُدِّر له أن يدرك ، حقائقهم أغرب من حِلاب ضرع الغول ، وهي لا تدرك إلا بتحقق عينها . وانا حين أرويها ، لا أكون سوي من يُمْلى عليه ، ولا حق لي في صناعة محلابة وقتيه لإدرار ضرع غولهم هذا ، فهو مجلوب لهم ومحلوب بهم وليس من درك عقلي . هم إذاً خزائن أسرار الحكايا وأنا مفتاحه . حامد بخيت الشريف ،،، القراءة ... محكية البحر والتراب حوار مع الأنا والآخر لذا جاء السرد القصصي بضمير المتكلم ملائماً لحالة القاص / البطل النفسية المضطربة ساعتها وهو يخاطب الطبيعة ويجردها من نفسه في حوار أقرب ما يكون بين بشرين ماثلين أمامنا ونحن نستمع لحوارهما ... وليس ثمة من شخص واحد هو القاص والآخر من صنعه وهماً وخيالاً .. شخوصاً للقصة .. تدور أحداث القصة مكاناً على شاطئ الخور .. البحر مجازاً .. فهذا الخور موسمي تكونه الأمطار وجغرافياً تعدم بيئة القاص لهذا النوع من المجاري الطبيعة البحر أو النهر ولكي يحقق الناس حلمهم ببحر له شاطئ يبثونه الشكوى كما سمعوا عند الناس الذين مكنت لهم الطبيعة بحر / نهرا .. أجمع الأهالي على تسمية الخور بالبحر إشباعاً لرغبة استدراج الطبيعة .. يسميها القاص نكاية فيها أي الطبيعة .. بينما تدور أحداث المحكية زماناً دوماً أوقات الأمسيات وكذا الحال يحبذ الناس مناجاة البحر / الخور ليلاً لاستنطاق المجهول الكامن في عمق البحر / الخور .. فاجتماع الليل والبحر / الخور والنفس المضطربة مدعاة للحكايات والشجن ... المحكية دفاعاً عن البحر / الخور .. كان عند الآخرين يبدو غناء لما يحدثه هديره من أصوات يحسها البعيد منه كالغناء ترديداً فهؤلاء لهم العذر لأنهم ما كلفوا أنفسهم مؤنة أن يحجوا أليه في الأمسيات ليعرفوا كيف أنه يجيد الحكايات والسرد الرصين فالقاص كان منه قاب قوسين أو أدنى .. وحين يناديه بهديره يسعى إليه حافياً أو منتعلاً ( حاجة كافرة ) ذاك الحذاء المحلي الصنع البسيط التركيب لكنه يتحمل مشاق السعي ليلاً ولا يبالي وكذا الحال القاص / البطل يكون في حالة الترقب لدعوة البحر / الخور ليسمع منه .. وبذا يكون القاص قد برع تماماً في أن يجسد الطبيعة ويجعلها تتحدث .. ليروي حكاية ميلاده على مسامع نبات العوير / العشر .. ولكن سخرية القاص تبدو واضحة إذ نراه يشير إلى أن العوير لن يمكث طولاً ليرى أطوار التكوين من الطفولة حتى الشيخوخة كحال بحر أو أنهار الطبيعة من المنبع إلى المصب .. كأنه أراد أي القاص أن يقول : إن كنت محدثاً أحداً فحدثني أنا لأني الوحيد الذي أعرف إسرارك تكويناً وحياة وحكايا .. فلم يجد البحر / الخور بداً من الإذعان إلى رغبة صديقه القاص / البطل ليبدأ السرد الذي هو من وحي القاص نفسه ومن نجوى نفسه الفياضة بالشجون والمشبعة بحكايا الجدات ... إذاً هي طلاسم الحوار كطلاسم إيليا أبو ماضي مع البحر وسر السؤال هل أنا يا بحر منك ؟! أيها البحر أتدري كم مضت ألفٌ عليكا وهل الشاطئ يدري أنه جاث لديكا ماالذي الأمواج قالت حين ثارت لست أدري! هذا الحوار مع البحر عند إيليا أبو ماضي .. ولكن حوار الخور عند حامد بخيت الشريف يوضحها بالقول :( أنا إذاً أعلمهم بسرِّك حين أطلقت البحر وهم ينادونك (خور الحاجز) اعرف انك اختزنت أسرار المكان جميعها وطويتها وحين أثقلت عليك لحاحاً طرحت بعضها في عمق جوفي ) .. هي الحكايا .. حديث الجدود وتاريخ القبيلة وتفاصيل الحياة أراد القاص وبراعة أن يحركها بحديثه مع البحر / الخور / الطبيعة وكأنه أراد القول : إن الأسلاف قد حملوني الأمانة .. أمانة الرواية وغيري لاهي لا يعبه بما أحمل ولكنها الوصية لابد من أن أقولها بحرفية حتى أزيح من صدري جبلاً من الهم إن أنا لم أرو ما قاله الأجداد صدقاً وعدلاً وقصداً .. فلم أجد سوى البحر / الخور لأبثه همي وأطلبه مشاركتي في حمل الأمانة .. رغم أن البعد من الحوار قصصياً مطلوباً به درامية القصة والسرد ولكن القاص بأي حال من الأحوال كان بارعاً في الإيهام بالحوار مع البحر / الخور / البطل الخفي لينقل لنا حكايا الأسلاف في وعاء قصصي جاذب ستهوي القارئ ويجعله مشاركاً .. ليعرف كنه القبيلة ومراحل تكوين المضارب وأحداث التطور .. من التواكي حتى كدروكة ... و يا عظمتك يامويه وشموخ أشجار العرد في عظمة النخيل ... القاص في لحظات السرد القصصي ورقة بيضاء ولكنه يستلهم الوقائع مما سمع من سمح الحكايا من الأسلاف الذين يدونون سيرة الخور والتطور .. في إشارة واضحة إلى أن أؤلئك القوم لو قدر لهم ما قدر لنا لكانوا أقدر وأجدر من غيرهم على سرد حكاياهم بصورة أفضل مما أتلوه عليكم الآن كقاص حُمِّل الأمانة .. عله يوفيها حقها.. لأنها قادمة منهم (ببوص ) الصدق و(دواية) غرائب ما عُلِّموا ... ومع ذلك فهذا الخور / البحر لا يستطيع أن يغطي كل ما عندهم من حكايا هي حقاً حقائق ولكنها أقرب في الصدق من أن تحلب غولاً .. ذاك الحيوان الخرافة .. ليختم القاص قصته بعجزه عن استنطاق الكل ولكنه اكتفى بالجزء الذي هو ليس من صنعه ولا منة من علقه ولكنه سرد الجدود عن حياتهم ودوره يكون مجرد راوية لحديث ذي شجون .. حقاً أخي حامد الشريف (هم خزائن أسرار الحكايا وأنت مفتاحه ) .. ولكنه مفتاح لن يستطيع أحد تقليده لأن تفاصيل أسنانه من وحي مبرد الجدود حامد بخيت الشريف أدهشتني بهذا الحوار والسؤال والحنين وسر البحر / الخور وحقيقة الأسلاف التي عند من لا يعلمون خرافة لا وجود لها .. أجد لهم العذر .. عروة علي موسى ،،،