[email protected] بسم الله الرحمن الرحيم ود المطر قصة قصيرة لم يسبق وأن ادعى احد الناس انه رأى دموع أم سالوكة ، فهي المرأة التي لم تبك في حياتها قط ، وحتى في اقسي لحظات الفراق – الموت مثلاً – فهي تطلق زغاريدها بالتتابع الذي لا يسمح لغيرها أن يجد لدمعه مجرىً . سألتها حفيدتها آري : - حبوبة انت مالو ببكي مثل دي ؟ غير أن أم سالوكة لم تجب سؤال حفيدتها الا من خلال تحويل دمعها الصامت إلى نحيب . الرجال عند أم سالوكة متساوين في كل شيء إلا في قدرتهم على الغناء فهي تقول دائماً : - رجال دي كلوا سوا – طوال ، كبار ، حسوا كبير، عيونه حمر، إلا راجل بغني دي ياهو راجل براهو . يقيم ككي في أقصى جبل كادي داخل قطيته التي أقامها كرندوما الجد الأكبر للكجور كنتاكي قبل ميلاد الشمس ، حيث لم تكن القرية قبلها تعرف كائناً بهذا الأسم ولا حتي اي كوكب ، كل شيء داخل قطية ككي لا يوجد إلا مفرداً ، حتى الحذاء تراه مفرداً غير انه في واقع الأمر زوج ، وكان ككي يفضل من بين كل هذه الأغراض كأس القرع المر الذي يستخدمه في سقيا ضيوفه من أصدقائه وأبناء خالته نمور الهدرة وهي بالطبع نمور ولكنها تتكلم ، حمل ككي ربابه وصعد أعلى جبل كادي وبدأ يغني ، في البداية لم يكن صوت الرباب في تمام جهرة إذ كان يناجي ككي بمحبة الرفقة الأبدية غير انه بدأ ينتحب إذ تغني ككي للرحيل ، في هذه اللحظة سمعته أم سالوكة وأيقنت بغيابه فهي وحسب الكجور كنتاكي : - مره دي براهو بعرفو مصيبة يوم يسمع في ككي دي بخني يوم داك سما بيزعل ،بجيبوا حر سديد ، ومطر كمان . هي الآن في تمام الرعب وهي تعلم جيدا أن ككي وليد الموية لايقيم طويلاً في الأرض فقد قيل انه حين ماتت أمه وهو ما يزال رضيعاً ، كانت السماء تأتيه بلبن وفير كل مساء ، أمه زهرة بت كوة انقتو - وطبعاً هي ليست ابنة هذا الرجل ولكنه حين وجدها الرعاة تحملها بعض أوراق الأشجار وهي تسبح في مياه الخور هرعوا إليه واخبروه فجاء وحملها الي بيته وكانت يومها ابنة ليلة أو ليلتين ، ولما لم يكن من احد يعرف لها أهلا فقد نسبت إلى كوة انقتو شيخ الحلة ، عاشت في بيت كوة ولم تكن تأكل اللحم ولا قجو قجوا حتى بلغت العام الرابع من عمرها حين أنجبت ككي ولم تكن قد بلغت سن الرشد بل ولم تكن قد حملته في رحمها فوق ليلة واحدة ، أخذه كوة انقتوا في الصباح وذهب به الي الكجور كنتاكي الذي باركة وأعطاه سر المطر ومنذ ذلك اليوم لا ينزل المطر إلا بإشارة ككي ، حين ماتت أمه حاولت كاكا إرضاعه مراراً ولكنه لم يقبل أن يرضع إلا من أثداء إناث النمور إذ كن يأتينه في كل ليلة ويرضعنه حتى يشبع ثم يقبلنه ويرجعن ، ذهب يومه ذاك الي بيت المك _توتو_ خاطباً ابنته مانديني ، غير أن المك وبصلفه المعهود اطلق سيل شتائمه عقب ككي حتى غضب وهو الذي لا يغضب أبدا حينها حرّض الأرواح فاجتثت لسان توتو من منبته ، رجع ككي حزيناً ، حمل ربابه وصعد الجبل – بدأ صوت الرباب منخفضاً وككي يغني بصحبته ، تناسل صوت ككي في أصوات عده ، خرجت كل النمور وبعض الحيات من أحجارها ، رقصت ، طربت ، وشاركته الغناء ، ورويداً رويداً انخفضت أصوات الجوقة وبح صوت الرباب ، وما يزال ككي يغني : أنا ابن أمطار الغضب قد جئت في مطر الفجيعة في هطول خريف أمي وأعود من نفس الطريق طريق أحلام المطر بدأ المطر يهطل بغزارة ، وصوت ككي يعلو وينخفض ، والسماء تضحك إذ كنا نرى ذلك برقاً لامعاً وكلما انخفض صوت ككي ، اشتد الهطول ، ولون الماء يتغير بين كل لحظة وسابقتها حتى صار دماً ... تقطعت أصابع ككي ، بح صوته ، غير أن الرباب لم ينكسر . انتهت حامد بخيت الشريف - الدلنج 2003 القراءة ود المطر قصة قصيرة كبيرة من وحي إيقاعات خفية منبثقة من قلب السحر الإفريقي والأساطير المتعلقة بالملوك والحيوان المفترسة والأقنعة، وإيقاعات صاخبة يعبر عنها ضرب الرباب الزنجي، وحركات الإيحاء التي تختص بها شعوب القارة السمراء. برع فيه من قبل الروائي المالي ( سيدو باديان ) وإن جاء عرضه في رواية ( دم الأقنعة ) نقدا لتعلق شريحة من المجتمع الإفريقي بالخرافات وأعمال السحرة والطوطمية .. لكنه بأي حال من الأحوال قد أشار إلى وجودها .. وقد تناولها أيضا في قصصه كل من الأديبين : بيراغو ديوب و كامارا لاية . يذهب الشاعر سنغور إلى أبعد من ذلك بالقول : (عشت في هذه المملكة / القرية الصغيرة (جوال) وشاهدت بأم العين وسمعت بأذني الكائنات العجيبة الواقعة فيما بعد الأشياء : الجنيات في اشجار التمر الهندي والتماسيح وحراس الينابيع/ وخراف البحر التي كانت تغني في الساقية، وموتى القرية والأسلاف الذين كانوا يحادثونني ويعلمونني الحقائق المتبدلة بين الليل والظهيرة..) سقت هذا الحديث للتأكيد أن القاص له إطلاع كبير على الثقافة الإفريقية والأدب الإفريقي وملما بتراث منطقته ومتشربا به لذا جاء نصه متكاملا وشيقاوموظفاً فيه الخرافة لخدمته .. أم سالوكة امرأة لا تبكي في أشد المواقف ، ففي المجتمع السوداني مثلها الكثير.. نساء عصيات الدمع.. وهنا كان التمهيد من القاص للمتلقي ليدرك ساعة رؤية أم سالوكة تبكي فثمة خطر يحدق بشيء نادر لن يتكرر .. وهنا هو ككي/ ود المطر .. نسل النمور ومباركة الكجور كنتاكي .. بطل القصة المشار إليه بضمير الغائب / الحاضر .. يفتح القاص منافذ الطريق إليك لتسير في القراءة ويغيب عنك لتجد نفسك أمام حديث أم سالوكة بلهجتها البهيجة فلا تملك إلاِّ أن تصعد الجبال خلف ككي لتسمعه يغني من أجل المطر .. فالمطر لن ينزل إلاِّ بسر من أسراره التي أعطاها إياه الكجور كنتاكي ... ثم يعود القاص مرة أخرى واصفا تداعيات حديث أم سالوكة وبكاؤها الغريب في ذلك اليوم .. وغنا ككي .. و د الموية .. ترى هل سيعود من حيث أتى .. وككي الساحر / الخرافة / السر .. فقد مهد إليه القاص وشكله رويدا رويدا منذ لحظة وجوده تحمله مياه الأمطار وإرضاع النمور له ومباركة الكجور كنتاكي مانحا إياه سر المطر .. عليه يكون البطل واضحا وعجيبا ونادرا ومسيطرا على المتلقي بكذا صفات غير طبيعية .. وبذلك يكون القاص قد ابتز الأدباء الأفارقة بشخصية ككي وسر المطر .. بيد أنه لا بد لنا أن نضع في الاعتبار أن القاص قد تقمص شخصية ككي ولم يجد بدا من إظهار شاعريته على لسان بطله معلنا تضامنه معه .. ربما أراد القول أنت بعض مني يا ككي .. أو أنا كللك .. لذا تجد القاص قد أشار إلى تقطع أصابع ككي بيد أن الرباب لم ينكسر في إشارة واضحة لإستعداده ليكون سرا جديدا للمطر.. هنا ليس سحرا ولا خرافة بل حقيقة وكل الحقيقة مما حداه للقول : أنا ابن أبناء المطر قد جئت في مطر الفجيعة في خريف هطول أمي وأعود من نفس الطريق طريق أحلام المطر ككي الجديد .. خذني معك ... عروة علي موسى