بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    حقائق كاشفة عن السلوك الإيراني!    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا يتعيّن على السودان الانضمام إلى اتفاقية عنتبي لحوض النيل؟
نشر في الراكوبة يوم 21 - 10 - 2012


د. سلمان محمد أحمد سلمان
1
في الدقائق الأخيرة من المناظرة التي جرت بيني وبين د. أحمد المفتي في برنامج "حتّى تكتملَ الصورة" يوم الأثنين 8 أكتوبر عام 2012، التفتَ الصحفي الحصيف مقدم البرنامج الأستاذ الطاهر حسن التوم إلى كلينا وبادرنا بالسؤال عما يجب أن يكون عليه موقف السودان تجاه اتفاقية عنتبي لحوض النيل? كانت إجابتي أنه من مصلحة السودان أن ينضمَّ إلى الاتفاقية وعدّدت أسبابي لذلك بإيجاز، بينما رأى د. المفتي أن حقوق الأجيال القادمة لخمسين أو مائة أو خمسمائة سنة تقضي بألا ينضم السودان لاتفاقية عنتبي.
إن هذا الموضوع على قدرٍ كبير من الأهمية وكان يتطلب مزيدا من النقاش ووقتاً أطول بكثير مما تبقّى من وقت البرنامج. عليه فقد رأيت أن أفرد له مقالاً منفصلاً أتناول فيه الأسباب التى أرى أنه يتعيّن على السودان بموجبها الانضمام إلى اتفاقية عنتبي لحوض النيل.
2
كما ذكرنا في مقالاتٍ سابقة فقد برزت فكرة مبادرة حوض النيل في عام 1997، وأخذت شكلها الرسمي في 22 فبراير عام 1999 في مدينة أروشا في تنزانيا إثر توقيع وزراء المياه لدول الحوض بالأحرف الأولى على وقائع الاجتماع الذي أسّس لقيام مبادرة حوض النيل. وقد اتفق الوزراء على أن الهدف من المبادرة هو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة من خلال الانتفاع المنصف والمنافع من موارد النيل المشتركة. لقد قام البنك الدولي وعددٌ من المانحين بدورٍ تسهيليٍ للمبادرة. وقد نجحت المبادرة في عدّة مجالات من بينها إنشاء سكرتارية بمدينة عنتبي في يوغندا، ومكتب للنيل الشرقي بأديس أبابا، ومكتب لنيل البحيرات الإستوائية بمدينة كيغالي بدولة رواندا، وتمويل عددٍ من المشاريع المشتركة من صندوقٍ للمانحين تمّ إنشاؤه خِصِّيصاً لهذا الغرض.
بدأ العمل قبل أكثر من عشرة أعوام في اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل (اتفاقية عنتبي) ولكنّه وصل إلى طريقٍ مسدود جراء خلافاتٍ جوهرية في بعض مواد الاتفاقية. وتتكوّن الاتفاقية من 44 مادة موزّعةٍ على ديباجةٍ وستّة أبواب، بالإضافة إلى ملحقٍ للاتفاقية عن فضِّ النزاعات.
يتضمّن الباب الأول مجموعة مبادئ لاستعمال وتنمية وحماية حوض النيل وتشمل مبدأ التعاون المتبادل والقائم على المساواة في السيادة وحسن النيّة، وكذلك مبادئ التنمية المستدامة والاستعمال المنصف والمعقول والالتزام بعدم التسبّب في ضررٍ ذي شأن، وحق كل دولة من دول الحوض في استعمال مياه النيل داخل أراضيها مع مراعاة هذه المبادئ.
3
يمكن تلخيص نقاط الخلاف الثلاث حول اتفاقية عنتبي في الآتي:
أولاً مسألة الأمن المائي: تتناول المادة 14 مسألة الأمن المائي والذى عرّفته الاتفاقية بأنه يشمل حقّ كل دول حوض النيل في المياه من أجل الصحة والزراعة والإنتاج والبيئة. وقد كانت هذه المادة السبب الرئيسى لانهيار المفاوضات، إذ تصرُّ مصر والسودان على أن استعمالاتهما وحقوقهما القائمة والمشار إليها في اتفاقية مياه النيل لعام 1959 والتي توزّع كل مياه النيل بينهما (55.5 مليار متر مكعب لمصر، و18.5 للسودان) غير قابلةٍ للتفاوض وخطٌّاً أحمر لا يمكن عبوره وتمثّل الأمن المائى لهما ويجب تضمين هذه الاستعمالات والحقوق القائمة في الاتفاقية. وترفض الدول الأخرى هذا وتصرّ على أنّ لها حقوقاً في مياه النيل تحت نظرية الانتفاع المنصف والمعقول وأنه يجب على مصر والسودان الاعتراف بهذه الحقوق والتفاوض حولها.
ثانياً مسألة الإخطار المسبق: تطالب مصر والسودان بتضمين مواد مفصّلة في الاتفاقية لمسألة الإخطار المسبق لكل دول الحوض عن المشاريع التي تنوي أية دولة إقامتها على نهر النيل. وترفض الدول الأخرى هذه المسألة لإنها تتخوّف أن يُفسّر الإخطار على أنه يعطي مصر والسودان حق النقض.
ثالثا كيفية تعديل الاتفاقية: تطالب مصر والسودان أن يكون تعديل الاتفاقية بالإجماع أو الأغلبية على أن تشمل هذه الأغلبية مصر والسودان. وترى الدول الأخرى أن يكون تعديل الاتفاقية بالأغلبية العادية شملتْ أم لم تشملْ مصر أو السودان.
عليه فنحن أمام خلافاتٍ جوهرية كبيرةٍ أوصلت المفاوضات إلى طريقٍ مسدود.
4
كما ذكرنا من قبل فقد وقّعت ستَّ دولٍ حتّى الآن على الاتفاقية وهي: اثيوبيا وتنزانيا ويوغندا وكينيا ورواندا وبوروندي. وقد تمّ التوقيع على اتفاقية الإطار التعاوني في مدينة عنتبي بدولة يوغندا ولذا تُسمّى الاتفاقية "اتفاقية عنتبي." وتحتاج الاتفاقية إلى تصديق ست دولٍ لتدخل حيّزالتنفيذ. ولم تُوقِّع على الاتفاقية دولة الكونغو بعد، وقد انضمت دولة جنوب السودان إلى مبادرة حوض النيل في يوليو عام 2012، ولم توضّح موقفها رسمياً بعد من الاتفاقية.
وقد رفضت مصر والسودان الاتفاقية للأسباب الثلاثة التي ذكرناها أعلاه.
إننا نعتقد أن رفض السودان لاتفاقية عنتبي لا يقوم على أسبابٍ موضوعية، ونرى أنه من مصلحة السودان الانضمام لاتفاقية عنتبي للأسباب الآتية:
5
أولاً: إن التمترس خلف الحقوق المضمّنة في اتفاقية مياه النيل لعام 1959 يقتقر إلى القانون والمنطق. فهذه الاتفاقية هي اتفاقية ثنائية بين مصر والسودان ولا إلزامية لها على بقية دول الحوض. وقد رفضتها دول الحوض كتابةً منذ التوقيع عليها. بل وتحدّتها هذه الدول ببناء مشاريع على نهر النيل دون إخطار أو مشورة مصر والسودان. وقد أوضحنا في المقال السابق أن السودان يتحدّث عن الحقوق (18.5 مليار متر مكعب) وليس عن الاستعمالات التي لم تزد عن 12 مليار متر مكعب سنوياً كما ذكر السيد الوزير السابق كمال علي بنفسه. وهذا يعني أن السودان قد فشل في استعمال حوالي 344 مليار متر مكعب من حقوقه من مياه النيل منذ عام 1959.
عليه فإن دول المنبع لا علاقة لها أو إلزامية عليها فيما يتعلّق بحقوق السودان من مياه النيل الناتجة عن اتفاقية عام 1959، ولن يحمي عدم التوقيع على اتفاقية عنتبي هذه الحقوق بأي حالٍ من الأحوال.
ثانياً: إن لدول الحوض الأخرى حقوقاً في مياه النيل بموجب القانون الدولي والعدالة والإنصاف. وقد اعترفت مصر والسودان نفسيهما بمقتضى اتفاقية عام 1959 بهذه الحقوق، ولكنهما وضعتا عوائق إجرائية كبيرة تتعارض مع القانون الدولي للمياه ومبدأ سيادة الدول. فقد قضت الاتفاقية أنه ينبغي على أية دولة تود قدراً من مياه النيل التقدم بطلبٍ لمصر والسودان واللذين سيقرران قبول الطلب أو رفضه. وإذا تمّ قبول الطلب فستحددّ الدولتان الكمية التي ستُمنح لهذه الدولة، وتراقب الدولتان بواسطة الهيئة الفنية الدائمة المشتركة لمصر والسودان عدم تجاوز هذه الدولة للكمية الممنوحة لها.
تستشهد دول المنبع (خصوصاً اثيوبيا التي هي مصدر 86% من مياه النيل) كثيراً بهذه الفقرة من الاتفاقية كدليلٍ على نوع التعاون الذي تتحدّث عنه مصر والسودان، وتتهكّم وتسخر كثيراً من هذه الفقرة، وتجد آذاناً صاغية في كثيرٍ من المؤتمرات الدولية.
سيغيّر انضمام السودان لاتفاقية عنتبي هذا الوضع الإقصائي الخاطئ، وسيمثّل اعترافاً وقبولاً غير مشروط بحقوق دول النيل الأخرى، وهو مبدأ أساسيٍ في القانون الدولي، وسيكون الانضمام سبباً لنيل ثقة واحترام دول المنبع وتعاونها.
ثالثاً: إن معظم احتياجات اثيوبيا من مياه النيل هي لتوليد الطاقة الكهربائية، وهي استخداماتٌ غير استهلاكية لأن المياه التي تولّد الطاقة تعود للنهر وتواصل انسيابها للسودان ومصر. كما أن لسدود اثيوبيا فوائد كثيرة للسودان. فهي تحجز الطمي الذي أفقد سدود السودان نصف طاقتها التخزينية والتوليدية، وتُوقِف الفيضانات وتنظّم انسياب النيل الأزرق خلال العام. ويمكن بقدرٍ من التعاون الاتفاق على الفترة التي ستملأ فيها اثيوبيا البحيرات وراء السدود التي تزمع اثيوبيا بناءها، لأنه كلّما طالت فترة ملء البحيرات كلما قلت التأثيرات السلبية على السودان ومصر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التبخر قليلٌ في اثيوبيا بسسب الطقس وعمق البحيرات، مقارنةً بالتبخر الكثيف والذي يبلغ عشرة مليار متر مكعب في بحيرة السد العالي، وحوالي سبعة مليار في سدود السودان.
عليه فإن مشاريع السدود في اثيوبيا لن يكون لها تأثيراتٌ سلبية كبيرة على السودان، ولا يجب أن تكون سبباً للاعتراض على اتفاقية عنتبي .كما أن انضمام السودان للاتفاقية سيعطيه موطأ قدمٍ لمعرفة المشاريع الاثيوبية تحت التخطيط، ومناقشة آثارها السلبية، والتعاون والعمل معاً للتقليل من هذه الآثار.
رابعاً: تمثّل مستنقعات جنوب السودان حاجزاً ضخماً لانسياب مياه النيل الأبيض، وتنظّم وتحدّد هذه المستنقعات كميات المياه التي ستنساب عبرها إلى شمال السودان ومصر بصرف النظر عن كمية المياه في النيل الأبيض. وقد أوضحت عدّة دراسات أن استعمال دول البحيرات الاستوائية لعشرة مليار متر مكعب من مياه النيل الأبيض (وهذا رقمٌ عالٍ ولن تستطيع هذه الدول استعماله لسنواتٍ طويلةٍ آتية) لن يتعدى تأثيره على مصر والسودان مليار متر مكعب واحد بسبب مستنقعات جنوب السودان التي تحجز وتقرّر كميّة المياه التي ستنساب عبرها إلى شمال السودان ومصر.
يعني هذا الوضع أن استعمالات مشاريع دول النيل الاستوائية لن تكون خصماً على السودان. وحتّى في حالة ازدياد احتياجات دول المنبع فإن الحل سيكون في مزيدٍ من التفاوض والتعاون وليس في المقاطعة. عليه فإن هذا الوضع يُعضّد مقترحَ انضمام السودان لاتفاقية عنتبي.
خامساً: إن الدول النيلية الأخرى ستقوم ببناء مشاريعها على نهر النيل رضي السودان ومصر أم أبيا. فاثيوبيا قد بنت عدداً من السدود في السنوات الأربعين الأخيرة دون إخطار أو مشورة مصر أو السودان. فقد بنت اثيوبيا سد تكزي على نهر عطبرة وهو سدٌّ كبير، ارتفاعه حوالي 190 متر، ويحجز أكثر من أربعة مليار متر مكعب ويولّد أكثر من 300 ميقاواط من الطاقة الكهربائية. وكذلك أكملتْ اثيوبيا سد تانا بيليس (يولّد حوالي 500 ميقاواط)، وقبله سد فينشا. وهاهي قد شرعتْ في بناء سد النهضة (الألفية) العظيم الذي سيولّد أكثر من 5000 ميقاوط من الكهرباء ويحجز حوالي 60 مليار متر مكعب من المياه. كما أن تنزانيا قد أكملت مشروع "شين يانغا" لمياه الشرب الذي يأخذ المياه من بحيرة فكتوريا لشمال غرب تنزانيا، وأن يوغندا مستمرةٌ في مشاريع السدود على النيل الأبيض وقد افتتحت سد بوجاغالي في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر عام 2012.
معظم هذه المشاريع تمّت بدون مشورة مصر والسودان، وبعضها تمّ حتى بدون علمهما. وتتطلّب الحكمة والمنطق انضمام السودان ومصر لاتفاقية عنتبي حتى يتسنّى لهما الجلوس مع هذه الدول تحت مظلة المفوضية المشتركة والتحدّث حول هذه المشاريع وحول إمكانية التعاون معها، بدلاً من المقاطعة ودفن الرؤوس في الرمال والحديث الممجوج والمكرّر والفارغ من المضمون عن التعاون.
سادساً: ادّعت مصر أخيراً أن مياه النيل ليست 84 مليار متر مكعب بل تشمل الأمطار في حوض النيل التي تزيد عن 1600 مليار متر مكعب. هذا يعني في رأي مصر أن مياه النيل في حقيقة الأمر هي 1684 مليار متر مكعب. وهذا الادعاء يناقض اتفاقية مياه النيل لعام 1959 التي صاغتها مصر والسودان نفسيهما والتي نصّت على أن مجمل مياه النيل مقاسةً عند أسوان هي 84 مليار متر مكعب فقط. لقد أوضحنا للإخوة المصريين سذاجة وعدم معقولية هذا الإدعاء، وأشرنا إلى أن اثيوبيا ويوغندا لن تستطيعا بناء سدودهما على السحاب، وأن تنزانيا بنت مشروع "شين يانغا" لمياه الشرب بسبب الجفاف في إقليمها الشمالي الغربي. أوضحنا لهم أيضاً أن هذا الإدعاء سيعمّق الخلافات الحالية مع دول المنبع وينسف محاولات التقارب. وقد اندهشتُ كثيراً عندما تبنّى وكرّر د. أحمد المفتي في المناظرة بيننا في برنامج حتى تكتمل الصورة إدعاء مصر أن مياه النيل هي في حقيقة الأمر 1684 مليار متر مكعب!!
إذا كان الوفدان السوداني والمصري يؤمنان فعلاً بهذا الإدعاء فإنه ينبغي عليهما الانضمام إلى اتفاقية عنتبي لكي يعملا بالتعاون مع بقية الدول على إضافة هذا القدر المهول من مياه الأمطار إلى نهر النيل. وقتها سوف تُحل كل مشاكل واحتياجات دول الحوض من المياه، ولن يحتاج د. المفتي أن يقلق على أجيالنا القادمة لألف عام، وليس لخمسمائة عام فقط.
سابعاً: إن هناك غُبناً تاريخياً كبيراً وسط دول المنبع بسبب سياسات مصر والسودان الاستعلائية والإقصائية في مياه النيل، ومطالبتهما الدول الأخرى تقديم طلبٍ لهما لأية استعمالاتٍ من النهر. كما أن هناك تعاطفاً دولياً كبيراً مع هذه الدول بسبب سياسات ومواقف مصر والسودان حول مياه النيل، خصوصاً مع ما رشح مؤخراً بواسطة "ويكيليكس" عن تخطيط مصر، بالتعاون مع السودان، إبان السنوات الأخيرة من فترة حكم السيد حسني مبارك لضرب السدود الاثيوبية من موقعٍ قرب مدينة كوستي، رغم نفي الدولتين لهذا الزعم.
إن الانضمام لاتفاقية عنتبي سيزيل جزءاً من هذا الغبن والتعاطف ويبرز حسن النية من جانب السودان، ويدفع بإمكانية التعاون الجاد (وليس تعاون الشعارات) مع دول النيل الأخرى.
ثامناً: يتوقّع المراقبون انضمام جمهورية الكونغو ودولة جنوب السودان إلى اتفاقية عنتبي بسبب العلاقات التاريخية والجغرافية والعرقية والثقافية التي تربطهما بدول المنبع الأخرى. وعندما يحدث هذا فسينشأ تكتّلٌ من ثمانية دول ضد تكتّل مصر والسودان. وقتها سيواجه السودان ومصر عزلةً كبيرة تحدّث عنها د. أحمد المفتي نفسه. لتفادي هذه العزلة ولتأكيد شعار التعاون الجاد فإنه من مصلحة السودان الانضمام لاتفاقية عنتبي الآن.
تاسعاً: يكثر الحديث عن دور اسرائيل في حوض النيل وتعكيرها علاقات مصر والسودان مع دول حوض النيل الأخرى. إن انضمام مصر والسودان لاتفاقية عنتبي سوف يساعد على إغلاق الباب أمام الدور الاسرائيلي ويقوّي علاقة الدولتين بدول المنبع، خصوصاً مع قيام مفوضيةٍ شاملةٍ لكل دول حوض النيل. من الناحية الأخرى فإن مقاطعة مصر والسودان للاتفاقية سوف يعطي الوجود الاسرائيلي التبرير، ويعزّز دور اسرائيل في هذه الدول.
عاشراً: إن المُرتكز الأساسي للقانون الدولي للمياه هو التعاون. وتشمل اتفاقية الأمم المتحدة بشأن قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية على كلمة "التعاون" ومشتقاتها أكثر من15 مرة. وينبني التعاون بموجب هذه الاتفاقية على مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول الذي أكّدت محكمة العدل الدولية سيادته على كل المبادئ الأخرى. وتحتاج اتفاقية الأمم المتحدة إلى مصادقة 35 دولة لتدخل حيز التنفيذ، وقد صادقت عليها حتى الآن 28 دولة. ويُتوقّع أن تتم التصديقات السبع المتبقية خلال العام القادم.
عليه فإن انضمام السودان لاتفاقية عنتبي المتناسقة مع اتفاقية الأمم المتحدة سيعكس قبول السودان لمبادئ القانون الدولي للمياه التي تمّ الاتفاق والتراضي عليها عالمياً. تجدر الإشارة هنا إلى أن السودان كان قد صوّت في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 مايو عام 1997 لصالح اتفاقية الأمم المتحدة وأشاد بها، ولكنه لم يوقّع أو ينضم لهذه الاتفاقية بعد.
لهذه الأسباب العشرة نرى أنه يتعيّن على السودان الانضمام إلى اتفاقية عنتبي.
6
أوضحنا في مقالٍ سابق أن أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدراسات الأفريقية بالقاهرة بروفيسور ابراهيم نصر الدين قد نصح دولتي السودان ومصر بالتوقيع الفوري على اتفاقية عنتبي لمياه النيل قبل فوات الأوان، محذراً من أن الوقت ليس في صالح البلدين وأن التقاعس عن الاتفاقية له تبعاتٌ في كامل الخطورة. ونوّه البروفيسور نصر الدين خلال ندوة نظمها "المعهد العالمي للدراسات الأفريقية" في نهاية شهر سبتمبر عام 2012 في مقره بالخرطوم حول مستقبل العلاقة السودانية المصرية في ظل الوضع الراهن "إلى أن تخوفات البلدين غير موضوعية من واقع أن حقوقهما محفوظة ولن يمسها أحد، يضاف إلى ذلك أن التوقيع يتيح لخبراء البلدين فرصة للتواجد على الأرض في كل المشروعات."
(راجع جريدة الصحافة السودانية العدد رقم 6883 بتاريخ الجمعة 11 ذو القعدة عام 1433 الموافق 28 سبتمبر عام 2012 الصفحة الثالثة.)
لا بدّ من إضافة أن مصر ظلّت تستخدم أكثر من 60 مليار متر مكعب من مياه النيل سنوياً منذ توقيع اتفاقية عام 1959 عندما كان عدد سكانها حوالي 22 مليون نسمة. الآن وقد تجاوزعدد سكانها 84 مليون نسمة فمن المؤكّد أن مصر في حاجةٍ إلى مياه إضافية لن تتأتّى إلّا بالتعاون مع دول النيل الأخرى.
كما لابد من التذكير أن مصر تستورد أكثر من 60% من احتياجاتها من القمح، وهذا يجعلها أكبر مستوردٍ (ومستهلكٍ) للقمح في العالم رغم استعمالها لقدرٍ مهولٍ من مياه النيل. وهذا بالتأكيد سببٌ آخر يفرض على مصر الانضمام لاتفاقية عنتبي حتى يتمَّ الاتفاق من خلال التعاون مع دول حوض النيل الأخرى على سبلٍ لزيادة مياه نهر النيل وزيادة نصيب مصر منها لمقابلة احتياجاتها المتزايدة من القمح والمواد الغذائية الأخرى.
7
الموقف الذي تبنّاه البروفيسور ابراهيم نصر الدين يوضّح بجلاء الجدل المكثّف الدائر الآن في القاهرة حول مياه النيل نتيجة التحوّل الديمقراطي وانبعاث حرية التعبير والتفكير والكتابة في مصر بعد ثورة 25 يناير عام 2011. إن هذا الجدل يمكن أن ينتج عنه تغييرٌ في مصر تجاه اتفاقية عنتبي. عليه فإن السودان يحتاج إلى موقفٍ مستقلٍ يأخذ في الاعتبار في المقام الأول والأخير مصالح السودان.
إنني آمل أن يفتح هذا المقال الباب أمام مناقشة هذا الموضوع الهام والخطير والعاجل بهدوءٍ وعقلانية وبدون اتهاماتٍ وتجريحٍ وهتافات، فالقضية قضية وطن، وقضية حقوق أجيالٍ قادمة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.