مرتزقة أجانب يرجح أنهم من دولة كولومبيا يقاتلون إلى جانب المليشيا المملوكة لأسرة دقلو الإرهابية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    إتحاد الكرة يحتفل بختام الموسم الرياضي بالقضارف    دقلو أبو بريص    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا يتعيّن على السودان الانضمام إلى اتفاقية عنتبي لحوض النيل؟ .. بقلم: د. سلمان محمد أحمد سلمان
نشر في سودانيل يوم 21 - 10 - 2012

في الدقائق الأخيرة من المناظرة التي جرت بيني وبين د. أحمد المفتي في برنامج "حتّى تكتملَ الصورة" يوم الأثنين 8 أكتوبر عام 2012، التفتَ الصحفي الحصيف مقدم البرنامج الأستاذ الطاهر حسن التوم إلى كلينا وبادرنا بالسؤال عما يجب أن يكون عليه موقف السودان تجاه اتفاقية عنتبي لحوض النيل? كانت إجابتي أنه من مصلحة السودان أن ينضمَّ إلى الاتفاقية وعدّدت أسبابي لذلك بإيجاز، بينما رأى د. المفتي أن حقوق الأجيال القادمة لخمسين أو مائة أو خمسمائة سنة تقضي بألا ينضم السودان لاتفاقية عنتبي.
إن هذا الموضوع على قدرٍ كبير من الأهمية وكان يتطلب مزيدا من النقاش ووقتاً أطول بكثير مما تبقّى من وقت البرنامج. عليه فقد رأيت أن أفرد له مقالاً منفصلاً أتناول فيه الأسباب التى أرى أنه يتعيّن على السودان بموجبها الانضمام إلى اتفاقية عنتبي لحوض النيل.
2
كما ذكرنا في مقالاتٍ سابقة فقد برزت فكرة مبادرة حوض النيل في عام 1997، وأخذت شكلها الرسمي في 22 فبراير عام 1999 في مدينة أروشا في تنزانيا إثر توقيع وزراء المياه لدول الحوض بالأحرف الأولى على وقائع الاجتماع الذي أسّس لقيام مبادرة حوض النيل. وقد اتفق الوزراء على أن الهدف من المبادرة هو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة من خلال الانتفاع المنصف والمنافع من موارد النيل المشتركة. لقد قام البنك الدولي وعددٌ من المانحين بدورٍ تسهيليٍ للمبادرة. وقد نجحت المبادرة في عدّة مجالات من بينها إنشاء سكرتارية بمدينة عنتبي في يوغندا، ومكتب للنيل الشرقي بأديس أبابا، ومكتب لنيل البحيرات الإستوائية بمدينة كيغالي بدولة رواندا، وتمويل عددٍ من المشاريع المشتركة من صندوقٍ للمانحين تمّ إنشاؤه خِصِّيصاً لهذا الغرض.
بدأ العمل قبل أكثر من عشرة أعوام في اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل (اتفاقية عنتبي) ولكنّه وصل إلى طريقٍ مسدود جراء خلافاتٍ جوهرية في بعض مواد الاتفاقية. وتتكوّن الاتفاقية من 44 مادة موزّعةٍ على ديباجةٍ وستّة أبواب، بالإضافة إلى ملحقٍ للاتفاقية عن فضِّ النزاعات.
يتضمّن الباب الأول مجموعة مبادئ لاستعمال وتنمية وحماية حوض النيل وتشمل مبدأ التعاون المتبادل والقائم على المساواة في السيادة وحسن النيّة، وكذلك مبادئ التنمية المستدامة والاستعمال المنصف والمعقول والالتزام بعدم التسبّب في ضررٍ ذي شأن، وحق كل دولة من دول الحوض في استعمال مياه النيل داخل أراضيها مع مراعاة هذه المبادئ.
3
يمكن تلخيص نقاط الخلاف الثلاث حول اتفاقية عنتبي في الآتي:
أولاً مسألة الأمن المائي: تتناول المادة 14 مسألة الأمن المائي والذى عرّفته الاتفاقية بأنه يشمل حقّ كل دول حوض النيل في المياه من أجل الصحة والزراعة والإنتاج والبيئة. وقد كانت هذه المادة السبب الرئيسى لانهيار المفاوضات، إذ تصرُّ مصر والسودان على أن استعمالاتهما وحقوقهما القائمة والمشار إليها في اتفاقية مياه النيل لعام 1959 والتي توزّع كل مياه النيل بينهما (55.5 مليار متر مكعب لمصر، و18.5 للسودان) غير قابلةٍ للتفاوض وخطٌّاً أحمر لا يمكن عبوره وتمثّل الأمن المائى لهما ويجب تضمين هذه الاستعمالات والحقوق القائمة في الاتفاقية. وترفض الدول الأخرى هذا وتصرّ على أنّ لها حقوقاً في مياه النيل تحت نظرية الانتفاع المنصف والمعقول وأنه يجب على مصر والسودان الاعتراف بهذه الحقوق والتفاوض حولها.
ثانياً مسألة الإخطار المسبق: تطالب مصر والسودان بتضمين مواد مفصّلة في الاتفاقية لمسألة الإخطار المسبق لكل دول الحوض عن المشاريع التي تنوي أية دولة إقامتها على نهر النيل. وترفض الدول الأخرى هذه المسألة لإنها تتخوّف أن يُفسّر الإخطار على أنه يعطي مصر والسودان حق النقض.
ثالثا كيفية تعديل الاتفاقية: تطالب مصر والسودان أن يكون تعديل الاتفاقية بالإجماع أو الأغلبية على أن تشمل هذه الأغلبية مصر والسودان. وترى الدول الأخرى أن يكون تعديل الاتفاقية بالأغلبية العادية شملتْ أم لم تشملْ مصر أو السودان.
عليه فنحن أمام خلافاتٍ جوهرية كبيرةٍ أوصلت المفاوضات إلى طريقٍ مسدود.
4
كما ذكرنا من قبل فقد وقّعت ستَّ دولٍ حتّى الآن على الاتفاقية وهي: اثيوبيا وتنزانيا ويوغندا وكينيا ورواندا وبوروندي. وقد تمّ التوقيع على اتفاقية الإطار التعاوني في مدينة عنتبي بدولة يوغندا ولذا تُسمّى الاتفاقية "اتفاقية عنتبي." وتحتاج الاتفاقية إلى تصديق ست دولٍ لتدخل حيّزالتنفيذ. ولم تُوقِّع على الاتفاقية دولة الكونغو بعد، وقد انضمت دولة جنوب السودان إلى مبادرة حوض النيل في يوليو عام 2012، ولم توضّح موقفها رسمياً بعد من الاتفاقية.
وقد رفضت مصر والسودان الاتفاقية للأسباب الثلاثة التي ذكرناها أعلاه.
إننا نعتقد أن رفض السودان لاتفاقية عنتبي لا يقوم على أسبابٍ موضوعية، ونرى أنه من مصلحة السودان الانضمام لاتفاقية عنتبي للأسباب الآتية:
5
أولاً: إن التمترس خلف الحقوق المضمّنة في اتفاقية مياه النيل لعام 1959 يقتقر إلى القانون والمنطق. فهذه الاتفاقية هي اتفاقية ثنائية بين مصر والسودان ولا إلزامية لها على بقية دول الحوض. وقد رفضتها دول الحوض كتابةً منذ التوقيع عليها. بل وتحدّتها هذه الدول ببناء مشاريع على نهر النيل دون إخطار أو مشورة مصر والسودان. وقد أوضحنا في المقال السابق أن السودان يتحدّث عن الحقوق (18.5 مليار متر مكعب) وليس عن الاستعمالات التي لم تزد عن 12 مليار متر مكعب سنوياً كما ذكر السيد الوزير السابق كمال علي بنفسه. وهذا يعني أن السودان قد فشل في استعمال حوالي 344 مليار متر مكعب من حقوقه من مياه النيل منذ عام 1959.
عليه فإن دول المنبع لا علاقة لها أو إلزامية عليها فيما يتعلّق بحقوق السودان من مياه النيل الناتجة عن اتفاقية عام 1959، ولن يحمي عدم التوقيع على اتفاقية عنتبي هذه الحقوق بأي حالٍ من الأحوال.
ثانياً: إن لدول الحوض الأخرى حقوقاً في مياه النيل بموجب القانون الدولي والعدالة والإنصاف. وقد اعترفت مصر والسودان نفسيهما بمقتضى اتفاقية عام 1959 بهذه الحقوق، ولكنهما وضعتا عوائق إجرائية كبيرة تتعارض مع القانون الدولي للمياه ومبدأ سيادة الدول. فقد قضت الاتفاقية أنه ينبغي على أية دولة تود قدراً من مياه النيل التقدم بطلبٍ لمصر والسودان واللذين سيقرران قبول الطلب أو رفضه. وإذا تمّ قبول الطلب فستحددّ الدولتان الكمية التي ستُمنح لهذه الدولة، وتراقب الدولتان بواسطة الهيئة الفنية الدائمة المشتركة لمصر والسودان عدم تجاوز هذه الدولة للكمية الممنوحة لها.
تستشهد دول المنبع (خصوصاً اثيوبيا التي هي مصدر 86% من مياه النيل) كثيراً بهذه الفقرة من الاتفاقية كدليلٍ على نوع التعاون الذي تتحدّث عنه مصر والسودان، وتتهكّم وتسخر كثيراً من هذه الفقرة، وتجد آذاناً صاغية في كثيرٍ من المؤتمرات الدولية.
سيغيّر انضمام السودان لاتفاقية عنتبي هذا الوضع الإقصائي الخاطئ، وسيمثّل اعترافاً وقبولاً غير مشروط بحقوق دول النيل الأخرى، وهو مبدأ أساسيٍ في القانون الدولي، وسيكون الانضمام سبباً لنيل ثقة واحترام دول المنبع وتعاونها.
ثالثاً: إن معظم احتياجات اثيوبيا من مياه النيل هي لتوليد الطاقة الكهربائية، وهي استخداماتٌ غير استهلاكية لأن المياه التي تولّد الطاقة تعود للنهر وتواصل انسيابها للسودان ومصر. كما أن لسدود اثيوبيا فوائد كثيرة للسودان. فهي تحجز الطمي الذي أفقد سدود السودان نصف طاقتها التخزينية والتوليدية، وتُوقِف الفيضانات وتنظّم انسياب النيل الأزرق خلال العام. ويمكن بقدرٍ من التعاون الاتفاق على الفترة التي ستملأ فيها اثيوبيا البحيرات وراء السدود التي تزمع اثيوبيا بناءها، لأنه كلّما طالت فترة ملء البحيرات كلما قلت التأثيرات السلبية على السودان ومصر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التبخر قليلٌ في اثيوبيا بسسب الطقس وعمق البحيرات، مقارنةً بالتبخر الكثيف والذي يبلغ عشرة مليار متر مكعب في بحيرة السد العالي، وحوالي سبعة مليار في سدود السودان.
عليه فإن مشاريع السدود في اثيوبيا لن يكون لها تأثيراتٌ سلبية كبيرة على السودان، ولا يجب أن تكون سبباً للاعتراض على اتفاقية عنتبي .كما أن انضمام السودان للاتفاقية سيعطيه موطأ قدمٍ لمعرفة المشاريع الاثيوبية تحت التخطيط، ومناقشة آثارها السلبية، والتعاون والعمل معاً للتقليل من هذه الآثار.
رابعاً: تمثّل مستنقعات جنوب السودان حاجزاً ضخماً لانسياب مياه النيل الأبيض، وتنظّم وتحدّد هذه المستنقعات كميات المياه التي ستنساب عبرها إلى شمال السودان ومصر بصرف النظر عن كمية المياه في النيل الأبيض. وقد أوضحت عدّة دراسات أن استعمال دول البحيرات الاستوائية لعشرة مليار متر مكعب من مياه النيل الأبيض (وهذا رقمٌ عالٍ ولن تستطيع هذه الدول استعماله لسنواتٍ طويلةٍ آتية) لن يتعدى تأثيره على مصر والسودان مليار متر مكعب واحد بسبب مستنقعات جنوب السودان التي تحجز وتقرّر كميّة المياه التي ستنساب عبرها إلى شمال السودان ومصر.
يعني هذا الوضع أن استعمالات مشاريع دول النيل الاستوائية لن تكون خصماً على السودان. وحتّى في حالة ازدياد احتياجات دول المنبع فإن الحل سيكون في مزيدٍ من التفاوض والتعاون وليس في المقاطعة. عليه فإن هذا الوضع يُعضّد مقترحَ انضمام السودان لاتفاقية عنتبي.
خامساً: إن الدول النيلية الأخرى ستقوم ببناء مشاريعها على نهر النيل رضي السودان ومصر أم أبيا. فاثيوبيا قد بنت عدداً من السدود في السنوات الأربعين الأخيرة دون إخطار أو مشورة مصر أو السودان. فقد بنت اثيوبيا سد تكزي على نهر عطبرة وهو سدٌّ كبير، ارتفاعه حوالي 190 متر، ويحجز أكثر من أربعة مليار متر مكعب ويولّد أكثر من 300 ميقاواط من الطاقة الكهربائية. وكذلك أكملتْ اثيوبيا سد تانا بيليس (يولّد حوالي 500 ميقاواط)، وقبله سد فينشا. وهاهي قد شرعتْ في بناء سد النهضة (الألفية) العظيم الذي سيولّد أكثر من 5000 ميقاوط من الكهرباء ويحجز حوالي 60 مليار متر مكعب من المياه. كما أن تنزانيا قد أكملت مشروع "شين يانغا" لمياه الشرب الذي يأخذ المياه من بحيرة فكتوريا لشمال غرب تنزانيا، وأن يوغندا مستمرةٌ في مشاريع السدود على النيل الأبيض وقد افتتحت سد بوجاغالي في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر عام 2012.
معظم هذه المشاريع تمّت بدون مشورة مصر والسودان، وبعضها تمّ حتى بدون علمهما. وتتطلّب الحكمة والمنطق انضمام السودان ومصر لاتفاقية عنتبي حتى يتسنّى لهما الجلوس مع هذه الدول تحت مظلة المفوضية المشتركة والتحدّث حول هذه المشاريع وحول إمكانية التعاون معها، بدلاً من المقاطعة ودفن الرؤوس في الرمال والحديث الممجوج والمكرّر والفارغ من المضمون عن التعاون.
سادساً: ادّعت مصر أخيراً أن مياه النيل ليست 84 مليار متر مكعب بل تشمل الأمطار في حوض النيل التي تزيد عن 1600 مليار متر مكعب. هذا يعني في رأي مصر أن مياه النيل في حقيقة الأمر هي 1684 مليار متر مكعب. وهذا الادعاء يناقض اتفاقية مياه النيل لعام 1959 التي صاغتها مصر والسودان نفسيهما والتي نصّت على أن مجمل مياه النيل مقاسةً عند أسوان هي 84 مليار متر مكعب فقط. لقد أوضحنا للإخوة المصريين سذاجة وعدم معقولية هذا الإدعاء، وأشرنا إلى أن اثيوبيا ويوغندا لن تستطيعا بناء سدودهما على السحاب، وأن تنزانيا بنت مشروع "شين يانغا" لمياه الشرب بسبب الجفاف في إقليمها الشمالي الغربي. أوضحنا لهم أيضاً أن هذا الإدعاء سيعمّق الخلافات الحالية مع دول المنبع وينسف محاولات التقارب. وقد اندهشتُ كثيراً عندما تبنّى وكرّر د. أحمد المفتي في المناظرة بيننا في برنامج حتى تكتمل الصورة إدعاء مصر أن مياه النيل هي في حقيقة الأمر 1684 مليار متر مكعب!!
إذا كان الوفدان السوداني والمصري يؤمنان فعلاً بهذا الإدعاء فإنه ينبغي عليهما الانضمام إلى اتفاقية عنتبي لكي يعملا بالتعاون مع بقية الدول على إضافة هذا القدر المهول من مياه الأمطار إلى نهر النيل. وقتها سوف تُحل كل مشاكل واحتياجات دول الحوض من المياه، ولن يحتاج د. المفتي أن يقلق على أجيالنا القادمة لألف عام، وليس لخمسمائة عام فقط.
سابعاً: إن هناك غُبناً تاريخياً كبيراً وسط دول المنبع بسبب سياسات مصر والسودان الاستعلائية والإقصائية في مياه النيل، ومطالبتهما الدول الأخرى تقديم طلبٍ لهما لأية استعمالاتٍ من النهر. كما أن هناك تعاطفاً دولياً كبيراً مع هذه الدول بسبب سياسات ومواقف مصر والسودان حول مياه النيل، خصوصاً مع ما رشح مؤخراً بواسطة "ويكيليكس" عن تخطيط مصر، بالتعاون مع السودان، إبان السنوات الأخيرة من فترة حكم السيد حسني مبارك لضرب السدود الاثيوبية من موقعٍ قرب مدينة كوستي، رغم نفي الدولتين لهذا الزعم.
إن الانضمام لاتفاقية عنتبي سيزيل جزءاً من هذا الغبن والتعاطف ويبرز حسن النية من جانب السودان، ويدفع بإمكانية التعاون الجاد (وليس تعاون الشعارات) مع دول النيل الأخرى.
ثامناً: يتوقّع المراقبون انضمام جمهورية الكونغو ودولة جنوب السودان إلى اتفاقية عنتبي بسبب العلاقات التاريخية والجغرافية والعرقية والثقافية التي تربطهما بدول المنبع الأخرى. وعندما يحدث هذا فسينشأ تكتّلٌ من ثمانية دول ضد تكتّل مصر والسودان. وقتها سيواجه السودان ومصر عزلةً كبيرة تحدّث عنها د. أحمد المفتي نفسه. لتفادي هذه العزلة ولتأكيد شعار التعاون الجاد فإنه من مصلحة السودان الانضمام لاتفاقية عنتبي الآن.
تاسعاً: يكثر الحديث عن دور اسرائيل في حوض النيل وتعكيرها علاقات مصر والسودان مع دول حوض النيل الأخرى. إن انضمام مصر والسودان لاتفاقية عنتبي سوف يساعد على إغلاق الباب أمام الدور الاسرائيلي ويقوّي علاقة الدولتين بدول المنبع، خصوصاً مع قيام مفوضيةٍ شاملةٍ لكل دول حوض النيل. من الناحية الأخرى فإن مقاطعة مصر والسودان للاتفاقية سوف يعطي الوجود الاسرائيلي التبرير، ويعزّز دور اسرائيل في هذه الدول.
عاشراً: إن المُرتكز الأساسي للقانون الدولي للمياه هو التعاون. وتشمل اتفاقية الأمم المتحدة بشأن قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية على كلمة "التعاون" ومشتقاتها أكثر من15 مرة. وينبني التعاون بموجب هذه الاتفاقية على مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول الذي أكّدت محكمة العدل الدولية سيادته على كل المبادئ الأخرى. وتحتاج اتفاقية الأمم المتحدة إلى مصادقة 35 دولة لتدخل حيز التنفيذ، وقد صادقت عليها حتى الآن 28 دولة. ويُتوقّع أن تتم التصديقات السبع المتبقية خلال العام القادم.
عليه فإن انضمام السودان لاتفاقية عنتبي المتناسقة مع اتفاقية الأمم المتحدة سيعكس قبول السودان لمبادئ القانون الدولي للمياه التي تمّ الاتفاق والتراضي عليها عالمياً. تجدر الإشارة هنا إلى أن السودان كان قد صوّت في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 مايو عام 1997 لصالح اتفاقية الأمم المتحدة وأشاد بها، ولكنه لم يوقّع أو ينضم لهذه الاتفاقية بعد.
لهذه الأسباب العشرة نرى أنه يتعيّن على السودان الانضمام إلى اتفاقية عنتبي.
6
أوضحنا في مقالٍ سابق أن أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدراسات الأفريقية بالقاهرة بروفيسور ابراهيم نصر الدين قد نصح دولتي السودان ومصر بالتوقيع الفوري على اتفاقية عنتبي لمياه النيل قبل فوات الأوان، محذراً من أن الوقت ليس في صالح البلدين وأن التقاعس عن الاتفاقية له تبعاتٌ في كامل الخطورة. ونوّه البروفيسور نصر الدين خلال ندوة نظمها "المعهد العالمي للدراسات الأفريقية" في نهاية شهر سبتمبر عام 2012 في مقره بالخرطوم حول مستقبل العلاقة السودانية المصرية في ظل الوضع الراهن "إلى أن تخوفات البلدين غير موضوعية من واقع أن حقوقهما محفوظة ولن يمسها أحد، يضاف إلى ذلك أن التوقيع يتيح لخبراء البلدين فرصة للتواجد على الأرض في كل المشروعات."
(راجع جريدة الصحافة السودانية العدد رقم 6883 بتاريخ الجمعة 11 ذو القعدة عام 1433 الموافق 28 سبتمبر عام 2012 الصفحة الثالثة.)
لا بدّ من إضافة أن مصر ظلّت تستخدم أكثر من 60 مليار متر مكعب من مياه النيل سنوياً منذ توقيع اتفاقية عام 1959 عندما كان عدد سكانها حوالي 22 مليون نسمة. الآن وقد تجاوزعدد سكانها 84 مليون نسمة فمن المؤكّد أن مصر في حاجةٍ إلى مياه إضافية لن تتأتّى إلّا بالتعاون مع دول النيل الأخرى.
كما لابد من التذكير أن مصر تستورد أكثر من 60% من احتياجاتها من القمح، وهذا يجعلها أكبر مستوردٍ (ومستهلكٍ) للقمح في العالم رغم استعمالها لقدرٍ مهولٍ من مياه النيل. وهذا بالتأكيد سببٌ آخر يفرض على مصر الانضمام لاتفاقية عنتبي حتى يتمَّ الاتفاق من خلال التعاون مع دول حوض النيل الأخرى على سبلٍ لزيادة مياه نهر النيل وزيادة نصيب مصر منها لمقابلة احتياجاتها المتزايدة من القمح والمواد الغذائية الأخرى.
7
الموقف الذي تبنّاه البروفيسور ابراهيم نصر الدين يوضّح بجلاء الجدل المكثّف الدائر الآن في القاهرة حول مياه النيل نتيجة التحوّل الديمقراطي وانبعاث حرية التعبير والتفكير والكتابة في مصر بعد ثورة 25 يناير عام 2011. إن هذا الجدل يمكن أن ينتج عنه تغييرٌ في مصر تجاه اتفاقية عنتبي. عليه فإن السودان يحتاج إلى موقفٍ مستقلٍ يأخذ في الاعتبار في المقام الأول والأخير مصالح السودان.
إنني آمل أن يفتح هذا المقال الباب أمام مناقشة هذا الموضوع الهام والخطير والعاجل بهدوءٍ وعقلانية وبدون اتهاماتٍ وتجريحٍ وهتافات، فالقضية قضية وطن، وقضية حقوق أجيالٍ قادمة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.