.. [email protected] دائما يلقاك تتقدمه تلك الضحكة الودودة والقفشة المنعشة لنفوس كل من يقابلونه حتى في أقسى لحظات انكماشها ، وذلك صفاء لا تجده الا في القليلين من أمثال استاذنا الذي رحل بالأمس مهدي محمد سعيد ..في هذا الزمن المتجهم الوجه بقسمات الهموم وتقطيبة الريبة ! وعرف عنه وهو الذي ترأس لجنة النصوص الغنائية بالاذاعة والتلفزيون والمصنفات الأدبية ، واحتفظ بعضويتها حتى أعياه المشوار ، انه كان يحيل اجتماعات اللجان الى ( جلسات ريد ) حقيقية تستشف بهجتها من ألق الشعر وهي تتفحصه بعيون الشعراء المعايشين وليس بصرامة لجان تحكيم الامتحانات ..وهو المعلم الذي تشرب اللغة وآدابها وسكبها جداولاعذبة و ثرة للألاف من الغرسات التي غدت اشجارا وريفة تنشر ظلالها في كل زوايا الوطن وورودا تنفث أريجها في ممراته ، شعرا وعلما ونغما ! تعرفت عليه منذ سنوات طويلة ، وقد كان قبلها دائم السؤال عن من أكون واين أقيم وهو يتصفح انتاجي المتواضع مما ظنه بعض الأخوة المطربين شعرا غنائيا فقدموه للجان المختصة التي شكل فيها الراحل الرائع قاسما مشتركا على مدى سنوات عطائه المثمرة! وحينما التقينا بادرني بمزاح لا يكون الا بين الأصدقاء ، رغم أنه اللقاء الأول وكنت مع الراحل الأمين عبد الغفار ، ولم ينقطع التواصل بعدها أبدا بيننا ، فكلما أرتميت في أحضان الوطن ، أذهب الى داره العتيقة قرب مسجد الشيخ قريب الله بأمدرمان ، وحتى عبر مسافات السفر ، يكون السؤال من خلال الهاتف أو مشاهدته وهو يملاء الشاشة حبورا ! كان اللقاء الأخير بيننا ، في برنامج تلفزيوني قبل عامين وأكثر قليلا عبر القناة القومية وعلى الهواء مباشرة بمناسبة عيد الفطر وقتها ، ضمنا مع الأستاذين على شبيكة وسعد الدين ابراهيم والمذيع عبد الله الأصم ، ثم افترقنا .. أنا الى الصدر الثاني الذي لم نفطم من ثديه بعد ، وهو الى فراش المرض كما علمت لاحقا بعد أن أثقل قلبه الشفيف ركام الأحمال وزحمة الجمال ولم يضق بكل ذلك وأستمرت بسمته تخنق الوجع بأصرار وتعلو ثغره ، وقد حكى لي استاذنا ابوقرون عبدالله ابو قرون عند زيارته الأخيرة منذ شهور للامارات حينما سألته عنه ! مهدي الاستاذ والأديب والشاعر والأب والصديق وصاحب الطرفة والملحة ، وخفة الدم ..هو جميل افتقدنا ، ولكنا سنلقاه في حنايا النفس المكلومة بفقده ذكرى لن تموت ، وهو الذي كتب أجمل القصائد وأعذب الأغنيات لأبي داود والعاقب ، ورائعة زيدان المشهورة ( جميل ماسألناه ولكّنا هويناه ) وكيف ننساه وهو الذي أهدى السودان مرتين قلادة الفوز في مهرجان الأغنية العربية ، بصوت أسرار بابكر ومحمد الخاتم ومن الحان محمد حامد جوار ! نسأل المولى عزّ وجل أن يتغمده برحمته الواسعة وينزل على قبره شابيب الغفران ، والعزاء موصول لأسرته ولقبيلة الأدب والشعر والنغم ولأصدقائه في كل مكان فان سقط من علياءعوده جسدا كالزهرة الى باطن أرض الوطن الذي أحبه في حياته، فسيبقي مهدي بعد مماته عطرا طيبا في رئة الوجدان الوطني والانساني أبدا ،وصورة باسمة لن تغادر عدسات العيون التي أغرقها دمع فقده العزيز ، وانا لله وأنا اليه راجعون. *** جانب من سيرة الراحل العطرة.. مهدي محمد سعيد عباس.. ولد عام 1934 في أم درمان. حاصل على ليسانس من جامعة القاهرة فرع الخرطوم 1960 . عمل مدرساً بوزارة التربية والتعليم, ومديراً لمدرسة وادي سيدنا الثانوية. عضو مؤسس للندوة الأدبية بأم درمان, وعضو بلجنة الشعر بالمجلس القومي للآداب والفنون, وبالهيئة القومية للآداب والفنون, وعضو لجنة التصويب بالإذاعة والتلفزيون (سابقاً), واللجنة التنفيذية لاتحاد الأدباء بالسودان. دواوينه الشعرية: الطين والجوهر 1979 مرافئ الرؤى 1988 - قلبي ينادي 1999. كتبت عنه مقالات متفرقة في الصحف المحلية والعربية, والمجلات الثقافية, مثل جريدة المدينة, ومجلة المنتدى (الإماراتية).