أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    محمد وداعة يكتب: مصر .. لم تحتجز سفينة الاسلحة    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خفايا وخبايا مفاوضات اتفاقية مياه النيل لعام 1959 (13 – 14)
نشر في الراكوبة يوم 19 - 12 - 2012


د. سلمان محمد أحمد سلمان
1
أوضحنا في المقال السابق أن إجراءات التهجير القسري لأهالي منطقة وادي حلفا بدأت بعد أسابيع قليلة من توقيع اتفاقية مياه النيل في 8 نوفمبر عام 1959. فقد زار الفريق ابراهيم عبود مدينة وادي حلفا في 6 ديسمبر عام 1959 وقابل المواطنين هناك وبانت له بوضوحٍ الاثار الإنسانية الكارثية التي ستحلُّ بالمنطقة وسكانها جراء التهجير القسري، فلم يتمالك نفسه وسالت دموعه وتوقف عن مخاطبة الجماهير لدقائق.
ورغم الاتفاق على خارطة طريق لعملية التهجير القسرية خلال تلك الزيارة، إلاّ أن الخلافات استتبّت بين الأهالي والحكومة بعد قرار مجلس الوزراء توطين أهالي وادي حلفا في منطقة خشم القربة في تجاهلٍ تام لآرائهم حول الخيارات الأخرى وللاتفاقات التي تمّت معهم. وقد رفض معظم الأهالي ذلك القرار. وقد قُوبِل الوفد الذى ترأسه اللواء محمد طلعت فريد والذى زار المنطقة في نهاية أكتوبر عام 1960 بمظاهراتٍ واحتجاجاتٍ ضد التوطين، وامتدت المظاهرات فيما بعد للخرطوم. وتبعت تلك المظاهرات اعتقالات شملت الكثيرين منهم الفنان محمد وردي والأستاذة سعاد أبراهيم أحمد، وإقالات شملت السيد داوود عبد اللطيف من منصبه كرئيس لجنة التوطين في ديسمبر عام 1960، وكذلك السيد محمد توفيق مدير مصلحة العمل. وقامت الحكومة بحلِّ اللجنة التى كوّنها أهالي المنطقة والتى كانت قد اعترفت بها وتعاملت معها من قبل، ناسفةً بذلك الجسر الوحيد الذى كان يربطها مباشرةً بأهالي منطقة وادي حلفا.
وهكذا انفتح الباب على مصراعيه ليس فقط لمعارضة التوطين في منطقة خشم القربة، ولكن لفكرة التهجير القسري نفسها، ولمعارضة نظام الفريق إبراهيم عبود العسكري ككل.
2
شملت الخطة الاقتصادية للسودان للأعوام 1961 – 1968 بناء خزاني الروصيرص وخشم القربة وإقامة مشروع حلفا الجديدة الزراعي كمشروعٍ اقتصاديٍ للمهجّرين. وفي شهر يونيو عام 1961 أعلن البنك الدولي موافقته على تمويل خزان الروصيرص بقرضٍ قيمته 32.5 مليون دولار، بينما وافقت الحكومة الألمانية على إعطاء السودان قرضاً بمبلغ 19 مليون دولار لنفس الغرض. وبلغت التكلفة الإجمالية للخزان وأعمال الري والبنية التحتية حوالي 65 مليون دولار دفعت حكومة السودان الفجوة التمويلية فيها.
رغم أن اتفاقية مياه النيل لعام 1959 لم تُشِر صراحةً إلى خزان خشم القربة كما أشارت إلى السد العالي وخزان الروصيرص، إلاّ أن الاتفاقية أعطت السودان الحق في إنشاء أي أعمالٍ أخرى يراها لازمةً لاستغلال نصيبه من مياه النيل. بالطبع لم يكن أحدٌ يتوقع أن تثير مصر أية تساؤلاتٍ عن خزان خشم القربة لأن الخزان سوف يروي المشروع اللازم لتوطين أهالي وادي حلفا الذين سيُغرق السد العالي قراهم وأراضيهم الزراعية.
بدأ العمل في الخزان في نوفمبر عام 1960 وكان السودان في سباقٍ مع الزمن لإكمال الخزان حتى يتسنّى ترحيل أهالي حلفا قبل يوليو عام 1963 حسب ما تنصُّ عليه اتفاقية مياه النيل. وإذا كان خزان سنار أول سدٍّ يقام على النيل الأزرق، وخزان جبل أولياء الأول على النيل الأبيض، فإن خزان خشم القربة هو الأول على نهر عطبرة.
اكتمل العمل في خزان خشم القرية في منتصف عام 1964 بتكلفةٍ فاقت ثمانية مليون دولار، بالإضافة إلى ثلاثة مليون دولار أخرى لبنية الري التحتية للمشروع. وهو سدٌ صغير كانت طاقته التخزينية حوالي مليار متر مكعّب من المياه عند إكماله عام 1964. ولكنّ هذه الطاقة انخفضت بمرور الزمن إلى النصف بسبب تراكم الطمي الذي يحمله نهر عطبرة سنوياً من الهضبة الإثيوبية. وعليه فقد قلّت المساحة التي كانت تُروى من الخزان في مشروع حلفا الجديدة الزراعي بصورةٍ كبيرة، وأصبح لزاماً على المهجّرين البحث عن وسائل كسب عيشٍ أخرى غير الزراعة. كذلك قلّت الكهرباء المحدودة أصلاً التي يُولّدها السد.
3
لم تُضِع مصر أى وقتٍ بين توقيع اتفاقية مياه النيل وبدء العمل في السد العالي. فكما ذكرنا من قبل، أدّت صفقة الأسلحة التي عقدتها مصر مع تشيكوسلوفاكيا (بعد الهجمات الإسرائيلية المتكرّرة على القوات المصرية في قطاع غزّة) إلى سحب العرض الأمريكي البريطاني لتمويل السد العالي، وقاد هذا الوضع الرئيس عبد الناصر لتأميم قناة السويس والذي أدّى بدوره إلى العدوان الثلاثي على مصر وسحب البنك الدولي عرضه تمويل السد العالي. أدّى هذا الانسحاب إلى بروز الاتحاد السوفيتي كممولٍ ومنفّذٍ لمشروع السد العالي. وكسِب المعسكر الشرقي هذه الجولة من الحرب الباردة ضد الغرب، واستطاع أن يحتل لنفسه مكاناً استراتيجياً وهاماً على حوض النيل لبعض الوقت. ولأهمية الحدث، فقد قام السيد نيكيتا خروتشوف سكرتير الحزب الشيوعي ورئيس مجلس الوزراء في الاتحاد السوفيتي بنفسه في 23 أكتوبر عام 1958 بإعلان أن الاتحاد السوفيتي سوف يقدّم قرضاً بمبلغ 400 مليون روبل لبناء السد العالي في مصر. وحضر السيد خروتشوف مع الرئيس جمال عبد الناصر الاحتفال باكتمال المرحلة الأولى من السد العالي عام 1964.
4
بدأ العمل في السد العالي في يناير عام 1960، بعد شهرين فقط من توقيع اتفاقية مياه النيل، واكتمل بعد عشرة أعوام ونصف في يوليو عام 1970 بتكلفةٍ قاربت ال 600 مليون دولار. يبلغ طول السد 4,000 متر وعرضه 1,000 متر، بينما يبلغ ارتفاعه 110 متر، وتبلغ سعة البحيرة التخزينية للسد 162 مليار متر مكعب من المياه (أي ما يساوي حوالي ضعف حمولة النيل السنوية المقدّرة عند أسوان ب 84 مليار متر مكعب). ويبلغ طول البحيرة وراء السد (والتي سُمّيت بحيرة ناصر) 550 كيلومتر (حوالي 150 كيلومتر منها داخل الحدود السودانية وتُعرف ب بحيرة النوبة)، وعرضها 35 كيلومتر، مع مساحة سطحية تُقدّر بحوالي 5,250 كيلومتر مربع. وقد كان السد العالي عند اكتماله عام 1970 أكبر سدٍّ في العالم، وكان وما يزال أكبر سدٍّ على نهر النيل، ولكن سوف يتفوّق عليه سد النهضة الاثيوبي عند اكتماله.
ظلّ السد العالي خط الدفاع القوي لمصر ضد الفيضانات والجفاف، والمنظّم الأول لعمليات الري الشاسعة في مصر، وأصبحت بحيرة ناصر مصدراً كبيراُ للثروة السمكية. كما أن السد يُولّد حوالي 1,200 ميقاواط من الطاقة الكهربائية وينظّم ويسهّل الملاحة على نهر النيل داخل مصر.
5
غير أن السد قد حجز (ومازال يحجز) كميات الطمي الضخمة التي يأتي بها نهر النيل من الهضبة الإثيوبية كل عام والتي كانت المصدر الأساسي لتخصيب الأراضي الزراعية في مصر، والتي تُقدّر بحوالي أربعة مليون طن سنوياً. وأصبح لزاماً على مصر الاستعاضة عن الطمي بالسمادات الكيمائية. كما ساهم حجز الطمي في تآكل المنطقة الساحلية في مصر والتي كان يغذيها الطمي كل عام. وانتشر في منطقة البحيرة في السنوات الأولى مرض البلهارسيا بسبب التوالد المكثّف لطفيلية البلهارسيا في مياه البحيرة. ونتج عن حجز الثروة السمكية الضخمة في بحيرة ناصر نقصٌ كبيرٌ في الأسماك في الساحل المصري للبحر الأبيض المتوسط. ورغم أن مصر قد نجحت بمساعدة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في إنقاذ الكثير من الآثار التاريخية في المنطقة بما في ذلك أبو سمبل وكلابشا وأمادا, إلاّ أن هناك تساؤلاتٍ حول إن كانت كل الآثار في مصر، كما في السودان، قد تمّ فعلاً إنقاذها.
6
أرغم السد العالي حوالي 70,000 من النوبيين المصريين، و50,000 من النوبيين السودانيين على النزوح. وقد اشتكى النوبيون المصريون من عدم استشارتهم أو مشاركتهم في أيٍ من القرارات التي تعلّقت بتهجيرهم القسري، وعن سوء أوضاعهم بعد التهجير، بل وحتى استمرار تدهورها. وقد علتْ أصوات النوبيين المصريين المهجّرين بعد ثورة 25 يناير عام 2011 مطالبةً بمراجعة أوضاعهم وتعويضاتهم.
وقد تمّ تهجير النوبيين السودانيين إلى بيئةٍ تختلف اختلافاً تاماً عن بيئتهم، وفي منطقةٍ تبعد أكثر من 700 كيلومتر من موطنهم الأصلي، وبين مجموعاتٍ قبلية تختلف اختلافاً كبيراُ عنهم، ولم يكن لهم تداخل أو معرفة بها، وفي طقس ماطرٍ راعدٍ لم يكونوا على درايةٍ به أو بآثاره إطلاقاً، وقد تعرّضوا بسببه لمشاكل صحية وأمراض لم يكونوا على معرفةٍ بها من قبل.
7
رغم أن السد العالي لم يكتمل حتى عام 1970، إلاّ أن اتفاقية مياه النيل لعام 1959 ألزمت حكومة السودان "بأن تتخذ اجراءات ترحيل أهالي سكان حلفا وغيرهم من السكان السودانيين الذين ستُغْمَرْ أراضيهم بمياه التخزين بحيث يتم نزوحهم عنها نهائياً قبل يوليو سنة 1963." عليه فإن الاتفاقية كانت قاطعةً ولم تترك أية مساحةٍ من المرونة للسودان إذا حدث أي طارئٍ أدّى إلى بعض التأخير. كما أن الوقت كان ضيقاً، ووضح هذا فى العجالة التي كان السيد حسن دفع الله، مفوّض الهجرة، مضطراُ للتعامل بها لإنجاز مسؤولياته بذلك التاريخ.
كما لم تكن هناك اتصالات وتنسيق بين المسؤولين عن عملية التهجير فى السودان وبين منفّذي السد العالي فى مصر لضمان الربط بين التقدم فى بناء السد وتنفيذ عملية التهجير كما تقضي بذلك المعايير الدولية لإعادة التوطين القسري. وقد رفضت الحكومة المصرية الطلب السوداني بتأجيل برنامج التخزين فى بحيرة السد العالي لمدة ستة أشهر لإكمال بناء المنازل للمهجّرين بعد نشوء خلافات حادة مع شركة "تيرف" التي كانت تتولّى عملية البناء. عليه فقد تعثّرت عملية التهجير وبدأ التخزين فى البحيرة، وبدأ إغراق الأراضي السودانية قبل إخلاء كل السكان المتأثرين وقبل ترحيل الممتلكات الحكومية من المنطقة.
كما أن بعض المباني السكنية فى حلفا الجديدة تعرّضت لبعض الدمار بسبب العواصف والأمطار. وقد نتج عن ذلك مشاكل لعددٍ كبيرٍ من الأسر المهجّرة. وإزاء ذاك الوضع الحرج اضطرّت الحكومة إلى تشكيل لجنة تحقيقٍ في الأمر. وقد خلصت اللجنة إلى أنه فضلاُ عن أن العواصف كانت قوية، إلاّ أن أعمدة السقوف لم تُشدْ على الجدران بشكلٍ جيّد، وبُنِيت الأعمدة التي تحمل قطع الخرسان للجدران الخارجية على قاعدةٍ ضحلة.
بالإضافة إلى مشاكل الطقس والبيئة التي تعرّض لها المُهجّرون، فقد تعالت الشكاوى أن التعويضات لم يتم تقديرها بطريقةٍ عادلة ولا بالصورة التي تمّ الاتفاق عليها. كما برزت أيضاً مشكلة علاقات الإنتاج فى مشروع حلفا الجديدة الزراعي التي كانت مختلفةً تماماُ عن الحرية التي كان يتمتع بها المزراعون فى حلفا القديمة. فقد كانوا في حلفا القديمة ملاكاً للأرض يتّخذون كافة قرارتهم بأنفسهم ويتحمّلون تبعاتها. لكن الزراعة فى حلفا الجديدة تخضع لعلاقات إنتاجٍ معقّدة ونظامٍ سلطويٍ مركزيٍ تحدّد فيه الشركة الزراعية نوع ووقت زراعة المحاصيل ووقت حصادها وتسليمها للشركة (مثلما كان النظام الزراعي وعلاقات الإنتاج فى مشروع الجزيرة)، مما جعل الزرّاع يحسون بأنهم مُستأجِرون وليسوا مزارعين أحرار كما كانوا فى منطقة حلفا القديمة.
وكما ذكرنا أعلاه فقد قلّت المساحة التي كانت تُروى من الخزان في مشروع حلفا الجديدة الزراعي بصورةٍ كبيرة بسبب كميات الطمي الضخمة التي يحملها نهر عطبرة كل عامٍ من الهضبة الاثيوبية. كما زادت الشكوى من أن أراضي المشروع (سهل البطانة) هي أراضي رعيٍ ولا تصلح للزراعة. عليه فقد أصبح لزاماً على الكثير من المهجّرين البحث عن وسائل كسب عيشٍ أخرى غير الزراعة.
8
كانت التعويضات التي طالب بها السودان خلال الجولة الخامسة من المفاوضات التي قادها السيد ميرغني حمزة فى نهاية ديسمبر عام 1957 وبداية يناير عام 1958 هى 35 مليون جنيه مصري، وتشمل تعويضات أهالي حلفا والمنشآت الحكومية وكذلك المعادن والآثار التي ستغرق فى مياه البحيرة. أصرّت مصر على رقمها للتعويضات والذي كان عشرة ملايين جنيه مصري. تراجع رقم السودان إلى 25 مليون، ثم إلى 20 مليون جنيه مصري خلال المفاوضات فى أكتوبر عام 1959. وكما ذكرنا سابقاً فقد وافق السودان على وساطة الرئيس جمال عبد الناصر الذي حكم باللقاء فى منتصف الطريق وقرر أن تكون التعويضات 15 مليون جنيه مصري. وقد هلّل كلٌ من الوفدين لقرار التحكيم هذا، واعتبر السودان، الذي كان يطالب ب 35 مليون جنيه مصري، مبلغ ال 15 مليون التي قضى بها الرئيس عبد الناصر مُنصفاً وعادلاً كما ذكر السيد المقبول الأمين الحاج وزير الزراعة والري فى مؤتمره الصحفي فى 3 ديسمبر عام 1959، والذي أشرنا إليه من قبل.
بلغت التكلفة الإجمالية لترحيل وإعادة توطين أهالي حلفا حوالي 37 مليون جنيه، فصّل السيد حسن دفع الله (مفوّض الهجرة) الجزء الأول منها كالآتي:
أولاً: المواهي والعلاوات: 1,636,130
ثانياً: الخدمات: 755,445
ثالثاً: بناء المساكن والخدمات: 15,901,269
رابعاً: رسوم المستشارين الهندسيين: 427,071
خامساً: التعويضات: 3,913,867
سادساً: الترحيل: 1,036,577
سابعاً: زاد المهجّرين: 131,542
ثامناً: منصرفات تجهيز المشروع الزراعي: 2,196,784
وجملة هذه المنصرفات هى حوالي 26 مليون جنيه. وعندما نضيف إليها تكلفة خزان خشم القربة البالغة ثمانية ملايين، وتكلفة بنية الري التحتية للمشروع والبالغة ثلاثة ملايين جنيه، فإن التكلفة الإجمالية لترحيل وإعادة توطين أهالي حلفا تصل إلى مبلغ 37 مليون جنيه، أى حوالي 250% من التعويض الذي قبله السودان من مصر. وقد غاب عن لائحة التعويضات المعادن والآثار التي اختفت من قائمة مطالبات السودان خلال المفاوضات في شهر اكتوبر عام 1959. ولم يطالب السودان يتعويضاتٍ عن الكهرباء التي كان يمكن توليدها من شلالات دال وسمنه التي أغرقتها بحيرة السد العالي. وكما ذكرنا من قبل، فإن مطلب السودان بنصيبٍ من كهرباء السد العالي لم تشمله أجندة المفاوضات. وهو طلبٌ كان يمكن أن ينبني على فرضية مصر التي وجدت طريقها إلى القبول بواسطة الوفد السوداني فى مفاوضات أكتوبر عام 1959 أن السد العالي لمصلحة مصر والسودان معاً.
9
كان إكمال امتداد المناقل لمشروع الجزيرة هو الدافع الأول والرئيسي لكل التنازلات التي قدّمتها وفود المفاوضات المختلفة بدءاً بحكومات السيد اسماعيل الأزهري (يناير عام 1954 حتى يوليو عام 1956)، ومروراً بحكومات السيد عبد الله خليل (يوليو عام 1956 حتى نوفمبر عام 1958) وانتهاءاً بحكومة الفريق ابراهيم عبود التي وقّعت على اتفاقية مياه النيل في 8 نوفمبر عام 1959. فقد كان مشروع الجزيرة هو قلب الاقتصاد السوداني والمموّل الرئيسي لكل مشاريع التنمية من تعليمٍ وصحة وطرق ومياه، والمصدر الأساسي للعملات الأجنبية التي كان يدرّها قطن مشروع الجزيرة – أكبر وأنجح مشروعٍ في العالم وقتها تحت إدارةٍ واحدة.
عليه فقد رأت هذه الحكومات أن التضحيات الجسام التي سيقدّمها أهالي حلفا هي ثمنٌ مقبولٌ لبناء خزان الروصيرص لإكمال ري امتداد المناقل لمشروع الجزيرة. غير أن أيةٍ من هذه الحكومات لم تستشرْ أهالي حلفا قبل أن توافق على قيام السد العالي وعلى التهجير القسري لهم. وحتى بعد توقيع الاتفاقية التي قضتْ بترحيلهم تنصّلت حكومة الفريق ابراعيم عبود عن وعودها ونسفت جسور التواصل مع أهالي حلفا، مما جعل عملية الترحيل القسري إجراءاً تعسفياً استبدادياً دفع ثمنه المهجرون وأبناؤهم وبناتهم.
إضافةً إلى هذا فقد كانت الحكومات المختلفة منذ عام 1954 ترى أن زيادة نصيب السودان من مياه النيل إلى 18,5 مليار متر مكعب هو نتيجةٌ ايجابيةٌ لاتفاقية عام 1959 وإنجازٌ آخر يستحق التضحية التي قدّمها أهالي حلفا.
لكن بنية الري التحتية لمشروع الجزيرة بدأت في التآكل والتدهور منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي وأصبح العطش (وليس القطن) هو ما يشتهر به المشروع. وانتهى دور المشروع في تمويل مكوّنات التنمية في السودان من مشاريع تعليمٍ وصحةٍ وطرقٍ ومياه. بل وقد انتهى دوره في إزالة الفقر حتى بين مزارعيه أنفسهم، وتواصلت (وما زالت تتواصل) المؤتمرات واللجان والتقارير والتصريحات عن أسباب انهيار مشروع الجزيرة.
من الجانب الآخر لم يستطع السودان خلال الخمسين عاماً الماضية استخدام أكثر من 12 مليار متر مكعب في العام بدلاً من ال 18,5 مليار التي ظلّ يفاوض من أجل الوصول إليها لمدة خمسة أعوامٍ وقدّم من أجلها كل تلك التنازلات.
لا بدّ لهذا الوضع أن يُثير السؤال: أين ذهبت كل تضحيات أهالي حلفا الجسيمة التي قدّموها قبل خمسين عاماً من أجل مشروع الجزيرة الذي ينهكه العطش الآن، ومن أجل زيادة حصة السودان من مياه النيل والتي فشل السودان في استعمالها؟
10
سوف يكون المقال القادم (الرابع عشر) هو المقال الأخير في هذه السلسلة من المقالات عن خفايا وخبايا مفاوضات اتفاقية مياه النيل لعام 1959. وسوف نلقي في ذلك المقال الختامي الأضواء على مجمل عملية التفاوض وطريقها الشائك وتنازلات السودان التي تواصلت، وبنود الاتفاقية وتبعاتها وتداعياتها.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.