«الإنتاج الأدبي الغزير إساءة اجتماعية» .. جورج إليوت! قدم أستاذنا الكاتب والناقد الكبير عيسى الحلو في ملفه الثقافي الثر بهذه الصحيفة - عدد الجمعة الماضية - تلخيصاً رائعاً لمسرحية الكاتب المسرحي، السويسري ، الفذ، فريدريش دورينمات، الذي تفنن كثيراً وطويلاً في تصوير ضعف البشر الخطائين، ومقدراتهم القاصرة على الاحتمال والتجُّمل .. فأتحف المسرح العلمي بنصوص لا تزال حية بعمقها الذي تُفنِّد القبح الكامن وراء أقنعة البشر ..! تلك المُناخات الفنِّية التي تُمَنطِق فكرة «السقوط الأخلاقي» وتَسوق لها الحجج .. حين يكون سقوط النفس - المُبرَّر وفقاً لمقتضيات فنِّية - قرارا لا نُكوص عنه، ولا مجال لترميم عواقبه.. أن تخون، أو تكذب .. أن تَسرق .. أو تَجبُن .. أن تُؤثر نفسك على الأقربين بمرارة القانع بانعدام الخيار .. أو أن لا تفعل .. أن لا تكون .. وما قد يتحقق إن فعلت .. وما قد لا يحدث إن أنت أنِفْتَ عن أن تفعل ..! معيار الضياع ، ميزان الوصول ، وكيف ولِمَ يتفاوت البشر الخطاءون في هذه الأحكام بقوانين الواقع، وكم أنهم لا يخضعون لذات ? التحكيم ? بفلسفة الفن الأخَّاذة الحَادِبة - العَادلة بعد كُلِّ هذا - على وجهٍ ما ..! ديرنمات تناول الضعف البشري تفنيدا وتحليلاً، وتصويرا، بتعرية الشَّر المختبئ في نفوس أبطال مسرحياته، واللائذ بالأقنعة لحين ظهور «تجسيم ? الضمير الذي يُمزِّقُها، فَيُظْهِر - بالتضاد بين صورته الظاهرة وصورتِهَا التي أظهرها وجودُه ! ? الشر الكامن خلفها ..! هكذا دوماً تتكشف حقائق الشر عند دورينمات إذ تعول فكرته تلك في نهوضها على مواجهات صارمة بين أبطاله، فتُعرِّي ? بذلك - عَفَن طويَّة الإنسان أمام ذاته قبل الآخرين .. يتحقق هذا المعنى عنده بطرائق متنوعة .. أما الذي لا يتغير فهو إصراره على أن تجئ تلك التعرية في تلافيف حدث دراماتيكي ..! في مسرحيته ? زيارة السيدة العجوز ? ? التي أورد الأستاذ عيسى الحلو نصاً مترجماً وملخصاً لها - كان البَّقال يَرقُب أهل قريته وهم يحفرون قبره بحماس يذكيه إغراء أموال السيدة الثرية التي كانت تنشد الانتقام منه بتحفيزهم على قتله .. لكنها ما لبثتْ أن عفَتْ عنه .. تاركةً إياه حيَّاً بين ظهراني من حكموا عليه بالموت .. وتاركةً إياهم يعيشون مع عار فعلتهم أمام عيني من كادوا يقتلونه لأجل المال ..! وفي مسرحيته ? هبط الملاك في بابل ? تَبعثُ السماء فتاة جميلة، تكون هدية لأفقر رجل في بابل, تلك الفتاة لم تكن من نصيب أحد، إذ رفض الجميع التخلي عن أموالهم للفوز بها , فالكل يريدها ويريد المال، وقد رفضتهم هي لقصورهم عن شرطها، فتركتهم بذلك يكابدون خسارتها التي تُمثِّل حقيقة جشعهم للمال ..! وفي مسرحيته ? الشهاب ? يقوم من مَوتَتِه الأديب الشهير الحائز على جائزة نوبل، والذي أَعلنتْ الإذاعات والصحف نبأ وفاته، فيُصاب بالهَلَع أولئك الذين في موته «كرامتُهم»، وفي عودته إلى الحياة كشف حالهم، وأوَّلُهم الطبيب الذي أعلن وفاته ..! لقد ظل دورينمات يصور هذا المعنى في معظم إبداعاته المسرحية ، وحُقَّ له أن يفعل، لأنه يكسوه - في كل مرةٍ - ثوباً قشيباً ..! الراي العام