هل كان بامكان محمود عبد العزيز ان يقدم اكثر من كل هذا الابداع الذى قدمه لو منحته الاقدار المزيد من السنوات كى يظل بيننا ؟ سؤال يسيطر على تفكيرى منذ ان رحل حوت الغناء عن دنيانا وتركنا لكل هذا الألم ، وانا فى خضم احزانى واهاتى على فقد هذا المبدع يظل هذا السؤال يراودنى فى كل حين فتصيبنى الحيرة والألم معا واسترجع شريط الذكريات منذ ان تعرفت على محمود عبد العزيز كمعجب بصوته وفنه فى منتصف تسعنيات القرن المنصرم ، حينها كنت ارتاد حفلات الراحل فى المكتبه القبطية وصالة الفروسية وغيرها من الاماكن التى شهدت انطلاقته الاوله نحو النجومية والتوهج ، كان الحوت مدهشا منذ ذلك الوقت ليس هذا فحسب بل انه كان عبقرى عرف كيف يستحوذ على قلوب الشباب لانه لم يعتمد على صوته الفريد فقط بل انه استطاع بذكائه الفطرى ان ياتى بكل ماهو جديد ومتجدد فى الغناء فخلق لنفسه لونية مختلفه فى طريقة الغناء والاداء وفى طريقة لبسه و تسريحة شعره وفى حضوره الطاغى على المسرح حتى اننى كنت كلما ذهبت ونظرت اليه وهو يعتلى المسرح بكل هذه التفاصيل الجميلة اتذكر ابراهيم عوض ذلك الفنان الذرى الذى التف حوله كل الناس فى خمسنيات وستنيات القرن الماضى وتأثر به غالبية الشباب فى كل شى كان يفعله لانه كان مبدع حقيقى ومتفرد ،اللافت للأمر ان الجان جاء الى الساحة الفنية فى توقيت وكأنه مهدى الغناء المنتظر بعد ان جفت حقول الفن من المبدعين الجدد وتاه الفن والفنانين فى تلك الايام التى كان الغناء فيها اقرب الى الموبقات منه الى الفن،فى تلك الايام تحولت اجهزة الاعلام المسموعه والمرئية لخدمة القابضين على مفاصل السلطة واكتفت بالاناشيد الجهادية واناشيد الدفاع الشعبى وغيرها ،ونتيجة لكل ذلك التضييق انفض سامر الغناء الرفيع ليأتى الحوت بكل جبروته الغنائى متجاوزا متاريس تلك الايام ومتخطيا لكل العقبات ومتجاوزا لمن حاولوا اغتيال تجربته لانه كان مؤمنا بموهبته الاكيده وبفنه الراقى ليلتف الجمهورمن حوله ويرتوى الشباب من فيض ابداعه المتميز فصار هو الامبراطور الذى يتربع على عرش الغناء ويمسك بتلابيب القلوب . السؤال لازال يسيطر على تفكيرى ويمنحنى تلك الحيرة الغامضه كنت احاول منذ ان فارقنا الحبيب الغالى محمود عبد العزيز ان اتفحص واتمعن فى تلك الاغنيات التى اختارها من الحقيبة مرورا بتلك الاغانى التى غناها لمختلف كبار الفنانيين فمنحها القاً غير طبيعى وجعلها تسترد مكانتها فى قلوب الجماهير ونفض عنها غبار السنوات بحنجرته المذهلة فكان يختارهذه الاغنيات بدقه العارف والعالم بخبايا الفن والابداع وعندما تشبع الجمهورمن ذلك الفن الاصيل استطاع محمود ان يأتى بعدها باغنياته الخاصة فوجدت قبول غير طبيعى كاول اغنيات جديده تجد هذا الحب والانتشار منذ سبعنيات القرن الماضى حين توقف انتاج الغناء الجميل ولم يبارح مكانه لسنوات طويلة وظللنا بعدها نجتر هذا الغناء العذب حتى تصورنا ان حواء الاغنية السودانية قد عجزت عن ولادة اغنيات جميلة ، لكن استطاع مهدى الغناء المنتظر الجان وحوت الغنا الكبير ان يعيد للاغنية السودانية الكثير من عافيتها واصبح هنالك حراك فنى بعد ان نفخ الحوت فى روح الاغنية فبعث تلك الورش الغنائية من جديد واكتظت الصوالين التى كانت رميم با الشعراء والملحنين والمغنيين الشباب الذين كانوا يضعون الحوت نصب اعينهم ويريدون ان يصلوا الى ماوصل اليه هذا الشاب اليافع المذهل ومن رحم فن محمود عبد العزيز وابداعه الجميل ولد الكثير من المغنيين الشباب وشقوا طريقهم وخلقوا قاعده جماهرية والفضل فى كل هذا يعود للحوت لأنه هو الذى تصدى واقتحم وفتح نوافذ الفن وجدد هواء الاغنية وفتح الباب على مصرعيه لكل الذين جاءوا من خلفه . كنت متأكد ان هذا السؤال المستعصى الذى حيرنى بعد رحيل الحوت اجابتة تكمن فقط فى قصة حياة محمود الانسان والمغنىلذلك تعمقت وغوصت فيه اكثر وخلصت الى ان ما فعله محمود خلال سنواته القصيرة بمقياس الزمن والطويلة بموازين الابداع لايمكن لشخص عادى ان يفعله وان يصل الى هذه النجومية الغير مسبوقة التى وصل اليها حوت الغناء لذلك ينتابنى احساس عميق ان محمود قدم كل مافى وسعه بل انه فاق كل التخيلات وعبر حاجز الزمن والسنوات وقدم خلال عشرين عام او مايزيد مايقدمه الاخرين خلال سبعين عام لكننارغم ذلك ولمحبتنا الشديده له تمنيناه ان يظل معنا لسنوات قادمات لانه كان ملهمنا الوحيد وحبيب الكل ولان وجوده بيننا كان يمنحنا الطمأنينة والامان على مستقبل الغناء لكن يقيننا ان محمود اعطانا كل شى وجاءت اللحظة التى يرقد فيها ويرتاح فى قبره وحانت اللحظة التى نرضى فيها بالقضاء ونبتهل فيها الى الله طالبين له المغفرة ، الحوت تغنى فابدع وسطع فاذهل وكان قريب من كل الناس فلمس قلوبهم هو فنان عظيم وابا حنون وصديق شده وهو محب لجمهوره وعاشقا لكل ماهو جميل ، لذلك علينا ان نسلم بقضاء الله فمحمود عبد العزيز حالة ابداعية استثنائية جاءت الينا بمقادير مكتوبة كى تعطينا فرحا حقيقى وسعادة غامرة فى سنوات معلومة وقد ادى الرساله على احسن مايكون واسعدنا وامتعنا حتى فى احزانه وانهزاماته كان يتحامل على نفسه ويعطينا الدفء والفرح ،لقد ترك محمود خلفه ملايين المحبين يدعون له وقلوبهم تئن من ألم الفراق ودموعهم منهمرة وبالتأكيد القلب يحزن والعين تبكى على الاحباب ومحمود حبيب فوق العادة ومبدع لن يجود الزمان بمثله. اللهم ارحم محمود واسكنه الجنة وابدله دارا خير من داره واهل خير من اهله وصحبة خير من صحبته واجزه خيرا وخفف عنه انك غفورا رحيم . [email protected]