في 8/فبراير/1902م افتتح اللورد كتشنر كلية غردون التذكارية، تخليداً لذكرى عظيم بريطانيا الذي لقي حتفه على يد ثوار المهدية في 26 يناير 1885م. كانت كلية غردون في ذلك الحين مجرّد مدرسة إبتدائية. في عام 1905م تمّ تطبيق نظام الدراسة الثانوية لتخريج مسّاحين ومساعدي مهندسين بالإضافة للقسم الخاص بالمدرسة الحربية. ومن دون الخوض في التفاصيل الدقيقة لحركة التطور التاريخي لجامعة الخرطوم، فإنّها قد شهدت سلسلة متلاحقة من الإضافات، من اهمّها إفتتاح مدرسة كتشنر الطبية في 29/2/1924م وكانت قائمة بذاتها، ثمّ تلتها على الترتيب، كليات البيطرة، الهندسة، ثمّ الآداب والحقوق، حتى تمّ تجميع كل هذه الكليات في كليّة واحدة سميّت بكلية الخرطوم الجامعية في العام 1951م. كانت مناهج كلية غردون، منذ العام 1937 م، مرتبطة بامتحان الشهادة الثانوية بجامعة كمبردج ببريطانيا، حيث الحصول على هذه الشهادة يؤهل الطالب للدراسة في الجامعات البريطانية. وفي عام 1956 أخذت اسمها الحالي؛ جامعة الخرطوم، وبذلك أصبحت أول كلية إفريقية مرتبطة بجامعة لندن تتحول إلى جامعة مستقلة تمنح شهادتها الخاصة. وتضم حتي الآن حوالى 21 كلية و12 معهد. قصدنا من هذه الفذلكة التأريخية، الإشارة إلى أنّ جامعة الخرطوم قد مرّت بكل المراحل اللازمة، واستوفت كلّ الشروط الضروريّة التي يجب أن تستوفيها كي تصبح جامعة محترمة كما هو التقليد السائد في الصروح الجامعية العريقة مثل السوربون وجامعة لندن، فالجامعات لا تقوم هكذا كالأعاصير، في ليلة واحدة، مثل فورة الإنقاذيين التي أسموها ثورة التعليم العالي، فلا هي ثورة ولا هوّ تعليم. من خريجي هذه الجامعة من رفع رأس الوطن والمواطن السوداني عالياً وجعله يتباهى بإنتمائه لأمّة أنجبت هؤلاء الجهابذه الذين تجاوزت معارفهم وفاق صيتهم حدود الوطن، ومن خريجيها أيضاً، وللأسف الشديد، من مسح بكرامتنا الأرض وجعلنا نتوارى خجلاً لمجرّد أننا ننتمي إلى أُمّة خرج من أصلابها "هؤلاء الناس". من الصنف الأول، علي سبيل المثال لا الحصر، محجوب عبيد وعبدالملك محمد عبد الرحمن ومعاوية شداد في الفيزياء، وأبوسليم ويوسف فضل في التاريخ وتوثيق ذاكرة الأمة، وعبد الله الطيب والطيب صالح في الأدب واللسانيّات، داود مصطفى والضو مختار في الطب، ومحمد هاشم عوض ومأمون بحيري وعلي عبد القادر وبشير عمر في الاقتصاد، وأكولدا مان تير في القانون، وآدم الزين في الإدارة العامة، وغيرهم من الفطاحلة في البيطرة والزراعة والهندسة الذين صاروا صوىً للسراة في طريق العلم والحق. أمّا الصنف الثاني، فلست على إستعداد أن أدنّس هذه السطور بأسمائهم، وما حدث ليلة الجمعة، نكون في غاية الحشمة، لو وصفناه بعبارات مثل الخزي والعار والندالة والخسّة، "ربّنا لا تؤاحذنا بما فعل السفهاء منّا". جامعة بكل هذه الخلفية وبكل هذا العطاء، لماذا ترسف دوماً تحت الأغلال وتتعرض باستمرار للضربات المتتالية؟ ولماذا تثير الهلع في نفوس الحكومات القمعية، ولماذا يصل الأمر إلى هذه الوحشية، لدرجة ترويع الآمنين، وحرق مساكن الطلاب وممتلكاتهم، دون أن يتعرض الجناة لأيّ محاكمة؟. هل لأنّ طلاب جامعة الخرطوم كانوا وراء ثورة 21 أكتوبر 1964 م التي أطاحت بنظام الفريق عبود، ولعبوا دوراً بارزاً في انتفاضة 6 أبريل 1985 م التي أطاحت بنظام نميري، وكان لهم العديد من الشهداء في صدامات دامية ضد جميع الديكتاتوريات العسكرية التي تعاقبت على حكم السودان بما فيها النظام الحالي؟. إن كان الأمر كذلك، فإنّ النفور من الإستبداد، والتصدّي للقضايا الوطنية، والتضحية من أجلها، فضائل موروثة في أدب الجامعة منذ خليل فرح وعلي عبد اللطيف، مروراً بالقرشي وسليم والتاية وليس آخرهم محمّد عبد السلام. الخطير في هذه الأحداث بحسب بيان صادر من طلاب الجامعة، أنّ الذين أقتحموا داخليات مجمع الوسط قد استخدموا (الاسلحة النارية "مسدسات" بالإضافة لقنابل الملتوف والسيخ والسواطير)، وللسواطير هذه قصة طريفة ومعروفة. وبحسب بيان آخر صادر من تجمع أساتذة جامعة الخرطوم، أنّ "هذا السلوك الهمجي الذي درجت عليه جهات، تدل المؤشرات لعلاقتها بالسلطة الحاكمة". ولا تعليق على ذلك. من الظواهر الملاحظة في الجامعة، أنّ هناك طالب من هذه الفئة، متواجد بالجامعة لما يربو علي الخمسة عشر عاماً، طالبٌ ملتحٍ، واسع العينين، وبنظرة فارغة من أيّ مضمون، تراه يحدّق في الفراغ الكبير منطلقاً من فراغ أكبر، إسمه يحمل معاني الوعيد والإنباء بمصير غاتم، تتجمع حوله مجموعة من الجلاوذة العتاولة، الذين ترسل أعينهم شواظاً كأنّهم سفراء الجحيم. بهم غلظة في النفوس وبلادة في الطبع تتناسب مع المهمّة التي تمّ إنتدابهم لها. وصف بيان الطلاب، الجامعة بالجميلة، وهي جميلة، بل حسناء فاتنة ورقيقة، لكنّها وقعت تحت قبضة الأوغاد، يتعاقبون عليها واحد تلو الآخر، لا يردعهم رادع من ضمير أو دين، كلّما استجمعت أنفاسها انقضّوا عليها من جديد، كأنّما لديهم معها قصّةَ ثأرٍ قديم، يا للبشاعة!، ظلّت على هذه الحال ترسف في أغلال أسرها وتقبع وراء قضبانها خمسة وأربعون عاماً هي عمر الأنظمة الشمولية في السودان. الناظر إلى أسوار الجامعة في السنوات الأخيرة، يجد أنّ هناك إهتماماً مبالغ فيه وتوسّع زائد عن الحاجة في الأطواق الحديدية، وإحكام كامل للمداخل والمخارج حتي لتبدو كأنّها ثكنة عسكرية أو مخفر بوليسي. أمّا أخبار الإكتشافات العلمية والبحوث، والإضافات الجديدة في ساحة العلم والمعرفة، فهي مهمّة ثانوية ولا تشغل بالاً. الذين لديهم إهتمام بالإقتصاد السياسي الدولي وإقتصاديات التنمية، يعرفون الدكتور ها-جوون جانغ وكتابه زائع الصيت "ركل السلّم" Kicking Away the Ladder الذي ذهب فيه إلى أنّ الدول الغنيّة لكي تصبح غنيّة، استخدمت كل ميزات السياسات التدخلية والإجراءات الحمائية لتعزيز الموقف التنافسي لمنتجاتها في الأسواق الخارجية -أي استخدمتها كسلّم- ولمّا وصلت قمّة الثراء والعظمة، ركلت هذا السلّم بعيداً حتى تمنع الدول النامية والفقيرة من استخدامه وسيلةً للصعود، وذلك بتبنّي سياسات تحريرية أدواتها منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وغيرها من مؤسسات الرأسمالية العالمية. هذا النموذج ينطبق تماماً على قادة الإنقاذ، الذين استفادوا من كلّ الميزات التي يوفرها التعليم الحكومي المجاني، الذي لو لاه ما قامت لهم قائمة، ولمّا وصلوا إلى قمّة السلطة والثراء سحبوا كلَّ هذه الميزات وتركوا أبناء الفقراء يتعاركون بالسيخ والسواطير في ساحة الجامعة، ويشعلون اللهب على ما تبقي من مبانيها. [email protected] الجريدة،