مقدمة الإستبعاد وهيمته بعض الأعضاء من المجموعات العرقية على عملية صناعة السياسة هى من أحد الأمور المحورية في عملية الصراع السياسى المعاصر فى السودان. ولذلك فإن التسوية السياسية المستندة على المشاركة فى السلطة سواء كانت مشاركة حقيقية أم رمزية، قد لاتتمكن من وضع حلول مستدامة، لأنها ببساطة لا تخاطب البعد الإجتماعى والإقتصادى للأزمة. كذلك، حتى ولو إستقر النزاع فى ظل تسوية سياسية مرتقبة إلاّ أن عدم مخاطبة جزور المشكلة قد يؤدى إلى إندلاع النزاع مجدداً بطبيعته الجهوية التى قد إسهم "النظام الأسلامى " بتعميقها، ولذلك فإن الأحزاب السياسية يجب ان تقوم ايضا بعملية إصلاح متزامنة مع جهود السلام لوضع حد لهذا الصراع العسير. وذلك من خلال بناء مؤسسات حزبية قادرة على إستيعاب التغييرات الكبيرة التى حدثت للشعب السودانى ومواجهة التحديات. نحاول أن نستعرض في هذه المقال بعض الجوانب التى نأمل أن تثير حواراً إيجابياً من خلال التحليل اإجتماعى الوجوداتى فى تفسير وفهم أعمق لطبيعة الصارع السياسى القائم، والذى فى دواخله أيضاً صراعاً إجتماعياً. السودان بالتحليل الموضوعى لهذه المحنة و الازمة المركبة بكل محاورها. فإذا كان السؤال المبدئي بالنسبة لجدل الهوية يحاول الإجابة ببساطة على السؤال الاّتي: "من أنا" في هذا الوجود الجغرافي المعيّن؟ ولكن فى نفس الوقت إن مفهوم " الآخر" في هذا الوجود الجغرافي يشكل عنصراً حاسماً فى تطور مفهوم الدولة القومية الذي يقوم على قدرة الإتصال بين الأفراد والجماعات مع بعضهم البعض. ولذلك فأن هوية وقومية الدولة السودانية مجروحة إلى حين إشعارآخر ويؤكد ذلك مدى تماسك الجماعات إثنية كانت أم جهوية والتى هى من أهم أهداف مفاهيم الأمة، والقومية التى تقوم بتحديد حدود المجتمع وتحديد معالم المواطنة. و لذلك فان فشل الأحتفاء بالتعدد الاثني يحتاج الي هندسة إجتماعية وسياسية كبيرة وقيادة رشيدة تؤمن بهذه الاهداف Social and Political Engineering " و الاّ – كما سوف نرى – سوف تقود إلى صراع مدمر يهدد وجود الدولة. على ضؤ هذ المقدمة والتى قصدنا من خلالها تحديد معالم المقال فى إطار و رؤية ربما تثير بعض الجدل الايجابي وليس محاولة عقلنة اللاعقلانية Rationalizing the irrationality . الغرض من المنظور التاريخى في هذا المقال هوإعطاء لمحة عامة فيما يتعلق بما حدث فى الماضى والإعتراف بعلاقات القوة المتفاوتة على أساس جهوى. إذ أن الهدف هو إحداث تقييم عادل وتشخيص للمشكلة يسهم فى خلق بيئة تصالحية متكاملة وخلق حالة تٌحترم فيها كل مبادئ الهوية والمواطنة الكاملة وأنسنة اللغة المستندمة على الصعيد الإجتماعى والسياسى Making language more humanitarian والإنتقال من خطاب “العدو " و"العدو المضاد" إلى نوع آخر تٌحترم فيه الخلافات على ضؤ مصالحة إجتماعية شاملة تدار فيها الصراعات التى تنشأ بصورة حضارية. نأمل أن يكون المقال اضافة لأسهامات العديد من السودانيين الذين اسهموا بنصيب وافر فى تشريح الأزمة العميقة التى تمر بها البلاد.المدخل الأساسى والمنطقى لطرح هذه الخلفية التاريخية للصراع السياسى فى السودان هو ان الصراع ذو خلفية إجتماعية بحتة وهناك حاجة لربط كل من الماضى والمعضلة الحالية وتمهيد الطريق لتحقيق السلام الشامل والمستدام بأقل تكلفة إنسانية لجميع الأطراف. نقطة الإنطلاقة في هذا المقال تقوم علي إعتماد مدخل تحليلي لعملية السلام المستدام من خلال ثلاثة محاور رئيسية مجتمعة: سياسي، إجتماعي وإقتصادي. البعد التاريخى والثقافى للصراع الجهوي في السودان التاريخ ملئ بالمفاجأت، فى عام 1989 فى ظل إنشغال العالم بالحرب الباردة، وفجأة تم تزكيرنا بأننا نسينا شيئاً ؟ وهو ليس إنتصار الرأسمالية على الإشتراكية! ولكن أيضاً قيام 15 دولة جديدة بدلاً عن الأتحاد السوفيتى. وراء هذه التغيرات ليس مهماً أن يكون التطور فى الدولة، ولكن فى طبيعة البنية الإجتماعية، وعلى هذا الأساس فإن إستخدام القوة كمشروع أساسى للدولة بدلاً عن التعاون فى محاولة حكمنة الصراع وقواعد التغيير الإجتماعى، فإن ذلك يقود إلى المزيد من عوامل التفكك الإجتماعى social disintegration. هنالك إصرار غير مسبوق على الإلتفاف ومواجهة الصراع القائم "بتكتيك" قصير المدى. من خلال التجارب الانسانية والدول ذات الهوية المركبة ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن تراكم عملية "الغبن الإجتماعى" كفيلة بإستمرار الصراع على مدى قرون، كما هو الحال فى يوغسلافيا السابقة. كذلك، فإنّ ستخدام القوة هو الاّخر يعتبر العنصر الأكثر فعّالية فى تحفيز عملية التجذئة والتفكك و القبول بالمعادلة الصفرية للصراع المسلّح. وعلى الرغم من أن ظواهر التفكك التى تعترى الدولة السودانية، او بتعبير آخر " تعرية الوجدان القومى " Erosion of National Belongingموجودة وواضحة المعالم، فإن إستكشاف البعد الإجتماعى من خلال معرفة مصادر التكامل "Integration" ربما تساعد فى إلقاء الضؤ على بعض التحديات التى تواجه ليس فقط بقاء السودان موحدا، وإنما أيضاً تحديات عن ملامح النظام السياسى القادم حتى ولو كان ذلك النظام ديمقراطيا. تاريخ ما أهمله التاريخ كأحد مصادر عوامل تفكيك السودان انّ الصراع السياسى والإجتماعى فى السودان مابين "أولاد البحر" وأبناء "الغرب" كما درسناه فى مادة تاريخ السودان للجلوس لأمتحان الشهادة السودانية فى ذاك الوقت هوفي الواقع صراع تاريخى يعود مباشرة بعد أن تولى الخليفة عبدالله التعايشى مقاليد الحكم بعد رحيل الأمام محمد أحمد المهدى. هذا الوضع، اي تولى أحد أبناء الغرب رئاسة السودان فى ذلك الوقت كان مفاجئا ولم يرضى العديد من قيادات المهدى المنحدرة من الأقليم الشمالى في ذاك الوقت، خاصة الخليفة شريف والذى لم يتعاون مع الخليفة فى ادارة دفة البلاد وإبعاد شبه الإستعمار. بل اكثر من ذلك تعاون بشكل كامل مع المستعمر الخارجى (الفتح الانجيليزي المصرى) والذى يٌعتبر بمعايير هذا الزمن بمثابة "الخيانة العظمى". وبتعبير ساخر وقاسي لايخلو من "الغرض أشار بروفيسر عبدالله عوض حمور في وصف ابطال معركة كررى فى دهر الإستعمار، بأنها كانت إنتحاراً جماعياً بشجاعة (أنظر الصحافة العدد 0203/1/16-6989 . نحن هنا لسنا بصدد أعادة كتابة التاريخ اومحاكمته، ولكن للأسف المؤرخين - سواء كان ذلك بقصد أو دونه لم يتم تحليل هذا المنعطف التاريخى بشيئ من الموضوعية. رمزية ودلالة تعيين الامام المهدى لأحد أبناء الغرب في ذاك الوقت ذات دلالة بالغة وهى نقطة فى غاية الأهمية تعكس طبيعة الصراع على السلطة الحالى. ورغم إنحدار الخليفة من أصول عربية، غير أن ذلك لم يكن كافيا. وإذا اتأملنا فى رمزية المهدى في مفاهيم السياسة المعاصرة، نجد ان الأمام كان متقدما جدا فى الوعى السياسى، حيث أن فى عالم السياسة ضرورة أن يتقدم "الآخر". كل الكتابات أشارت إلى "دكتاتورية" الخليفة عبدالله التعايشى وسؤ معاملته، ولكن لم تشر إلى ما الذى دفع الخليفة إلى هذا النوع من الحماقات. هل واجه الخليفة نوع من التمرد والعصيان المدنى؟ وعلى هذا الأساس فان من صدف التاريخ Accident of the history أن يتم قراءة تمرد أطراف السودان - خاصة غرب السودان فى مقابل هيمنة الشمال على الدولة على أساس هذا الصراع التاريخى بين أبناء الغرب والبحر. ولذلك فإن الجفوة الوجدانية بين أبناء النيل والغرب هى جفوة ذات جزور عميقة مرتبطة بتكون الدولة السودانية. هذه الهيمنة اليوم معّبراً عنها بالعديد من الإسقاطات النفسية التاريخية. وعلى هذا الأساس وخلال فترات الحكم السابقة في السودان كان هنالك نوع من السيطرة الضمنية الغير معلنة ولكنها واضحة المعالم - خاصة على مؤسسات الخدمة المدنية والمؤسسات العامة، فالخدمة المدنية يجب أن تكون المرآة التى تعكس تعدد الجماعات والجهويات. وهنا يجب أن نشير إلى أنه وبالرغم من تعقيدات النظام اللبنانى المبنى عل أسس الطائفية، إلا أنه يضمن نوع من التوزيع العادل Equitable لمراكز القوة بين الطوائف من خلال تمثيل جميع الطوائف فى المواقع المهمة. هذا الاعتراف الصريح بالمكونات الاثتية للمجتمع ساعد الصومال الاّن ان يخطو خطوه كبيرة نحو الاستقرار السياسي بتضمين المحاصصة القبلية في الدستور بشكل يضمن مشاركة الجميع. ذهاب جنوب السودان أوضح بصورة غير قابلة للشك أن الدين والأيدلوجية لم تكن أسباب الإختلاف والفرقة – بل الذى يفرق بين السودانيين وإنعكس ممارسة فى النظام السياسى القائم الذى يدعى المرافعة عن الأسلام – دين مكارم الأخلاق – فى سقوط أخلاقى لم يسبقه مثيل بشهادة قادته.!! فإذا لم نستطع إدارة الإختلاف على أساس العرق فى بنية مؤسسات الدولة كما هو حال الوضع الآن، فإنّ التشّظذي قائماً لا محالة، و مهما إجتهدنا فى كبح جماح العوامل المؤدية إلى ذلك، فإنها لن تعدوا كونها ثمة مسكنات مؤقتة. هذا الإختلاف قد حرّض "التيمور الحمر" ضد القومية الأندوسية، وكذلك الرقص على الموت بين "الهوتو والتوتسي" فى رواندا، والتقسيم على أساس العرق فى يوغوسلافيا السابقة. بحكم معرفتى بالشأن الصومالى من خلال العمل، أتضح لى بما لا يدع مجالاً للشك أن الدين واللغة غير كافيين لتشكيل (هوية) أو (قومية) لأى دولة. حتى فى ظل الجماعات المنحدرة من نفس العرق. ولذلك نخشى كما أشار فهمى هويدى وهو كاتب اسلامي بارز فى أن يصبح شعار الأسلام هو "الحل" فى (دول الربيع العربى) في نهاية المطاف الي أن يصبح "المشكلة" من خلال إستخدامه للإبتزاز وتمرير الأجندة السياسية وإستبعاد الآخرين. إذن التحدى القائم الآن هو كيفية إدارة البنية الإجتماعية وعلاقتنا المثلى بالآخر في السودان وفى نفس الوقت بناء دولة المواطنة الشاملة، والأهم من ذلك توافق السياسيين من خلال الإعتراف بان الأزمة شاملة. ولابد ان تخاطب قضايا الإندماج الإجتماعى وحل الصراعات عن طريق التفاوض والتوافق الوطنى ولكن دون حلول جزئية، لأن ذلك يساهم فى تعميق الأزمة والتى لاحقاً تكون التجزئة هى الحل “Partition is a Solution" وهو حتماً وللأسف تفكيك للسودان. تطلاعات الأطراف " بحقوق المواطنة الكاملة " أدى إلى ظهور النزعات العنصرية معّبراً عنها بمجموعة من عوامل الإستعباد. بحكم أن السودان كان الأقرب لمصر، كان ولا يزال شمال السودان النيلي فى المقدمة من ناحية التعليم. ولكن مع إنتشار التعليم ونبوغ أبناء الأطراف وتطلعهم للحكم في اطار دولة المواطنة، هذا الوضع لم يكن مريحاً للنخبة الحاكمة من شمال السودان. فتم إستيعاب العديد منهم فى الأحزاب السياسية،, ولكن على أساس "تابعى Dependent " وليس مستقل " Independent. رغم إنهيار الشيوعية الاّ ان نظرية الصراع الاجتماعي Social conflict تعتبر الأصدق فى تفسير حالة الصراع الحالى للسودان. حيث أن بداية عملية أى تغييربالضرورة أن تفضى إلى وضع جديد. لن تتوقف عملية التغيير هذه أبداً فى ظل تنامى المطالبة بالحقوق. وتطبيقاً على نظرية الصراع على تاريخ السودان الحديث، نجد أن بعد الإستقلال مباشرةً شهد ميلاد حركات جهوية وليست عرقية، مثل ( حركة سونى فى دارفور – تجمع البجا، حزب سانو ....وإلى آخره .... وهذه الأحزاب أو الحركات كانت مطلبية لسد الفجوة بين أقاليم السودان المختلفة آنذاك.كانت مطالبهم خدمية بحتة، كالتعليم والخدمات الأساسية الأخرى لتلك المناطق النائية من المركز ولحوجة الماسة إلى التنمية الإقليمية المتوازنة وقتذاك. فهي كانت اولي اشكال التظاهر الاجتماعيSocial Protest . وبمفهوم المواطنة وعدم التكافؤ الإجتماعى – شهدت الجزيرة أكبر معسكرات نزوح طوعية فى تاريخ السودان. وهي تشبه فى أحداثها هجرة جنوب إفريقيا إبان فترة التمييز العنصرى، ولكن الفارق هو أن هذه المعسكرات فى السودان طوعية لجيش عمال القطن وقطع قصب السكر، وهم محرومون من نصيبهم فى التعليم والحصول على المياه النظيفة. حيث يعيشون فى " الكنابى " التى تقبع على جنبات الطريق وعل طول ترعات المياه. ونتيجة لهذه التنشئة المشوهة Distorted Socialization، نجد أن معظم قيادات الحركات المسلحة هم من أبناء هذه الشريحة التى تسمى ب" الجنقو" وهم سكان الكنابى أو الكنبو، والمنحدرون من أصول دارفورية وكردفانية. وهم غالباً ممن إستطاعوا أن يتلقوا التعليم في ظل ظروف بالغة الصعوبة. هذا الوضع الإجتماعى غير اللائق، إضافة إلى تراكم الأحساس بالإستعباد الإجتماعى، كل هذه التراكمات النفسية كانت من أقوى المحفزات لإنضمامهم لركب الحركات التحررية المسلحة. ويقننا ان يدرك المركز بأن هناك تخباً من بعض أبناء الأطراف لديهم طموح فى الجلوس على سدة الحكم، وهذا حق مشروع للجميع وليس حكراً على أحد أو فئة بعينها ,ولكن " تكتيك " اللٌعبة الاّن يقضى بإستيعابهم بطرق معقدة وتحويلهم إلى "حٌلفاء" وعلى هذا الأساس لم يكن المركز على إستعداد لقبول سياسيين ذوى بأس شديد Hardliners"يأتون من الأطراف. وبالمقابل لم يقابل أبناء الأطراف عملية " الإستيعاب " هذه بنوع من "البراغماتية" . والسؤال الآن إلى أى مدى تستمر عملية الإستعياب هذه؟ وإلى متى تنتهى ممارسة الإبتزاز هذه ؟ الإجابة على هذا التساؤلات تقودنا إلى النظر مرة أخرى للسؤال الكبير – مشكلة السودان فى دارفور و الأطراف! أم مشكلة دارفور و الأطراف فى السودان؟ الإجابة على هذا السؤال سوف تحدد ملامح الحل الشامل . صفوة القول بأن ثنائية الإستبعاد الإجتماعى والإستبعاد السياسى Exclusion and Political Accommodation process هى من القضايا المركزية فى طبيعة الصراع القائم الآن، وأن معادلة المشاركة السياسية فى السلطة لن تستمر طويلاً مع استمرار الصراع المسلح. ونحن هنا لسنا بصدد الدخول فى التفاصيل أوإلى تعميق الكراهية بالاشارة الي طريقة القتل غير الرحيم الذي حدثت في دارفور او عدم تحريك المأساة للشعور القومى بالرغم من الديانة الموحدة مما يشير بجلاء إلى عوامل أخرى غير مرتبطة بالتمرد،فى ظل مجتمع كان اغلب الظن أن يحافظ على قيم مشتركة مستمدة من الأسلام. ومن سخريات القدر، ان الزمان دار دورته ويتم الإستعانة الاّن بما هو يساعد فى تغيير الوضع الحالى والهيمنة السياسية من خلال تبرير التعامل مع أى قوة " خارجية " تتسم فى تحقيق الهدف. وهذا لعمرى نفس منطق الخليفة شريف مع الخليفة عبدالله فى ظل تعاون الخليفة شريف مع القوات الغازية ولذلك فإن مفهوم الخيانة ربما يكون مفهوم "ديناميكى ". فما يراه "الآخر " ويصفه بالخيانة فإنه مبرراً للقوى الطامحة فى تغيير قواعد الوضع القائم . وقبل أن نختم هذا الجزء لابد من الاشارة إلى المعادلة المهمة فى هذا الخصوص والتى تتطلب النظر لها بعمق بين طرفى النزاع الآن فى السودان وتتلخص ببساطة في الاّتي: هناك قوى مسيطرة ومحتكرة للقوة والحكم و ليس لديها الإستعداد لمشاركة الآخرين بشكل حقيقى، ولكن فى المقابل تعانى من أزمات مستمرة ومتلاحقة، وأصبحت معزولة عن المجتمع الدولى وليست لديها القدرة على تحقيق الإستقرار السياسي وذلك بسبب قدرة الآخر على التأثير القوى. أما القوى المتمردة والتى تسعى إلى تغيير الوضع، فهى قادرة على إحداث عدم الإستقرار، ولكن فى ظل تكلفة إنسانية كبيرة قد لا تمكّنها من بلوغ هدفها على المدى القريب. هذا هو التوازن المطلوب دراسته"سلطة بلا سيادة في مقابل تراجيديا انسانية مؤلمة"، والذى أسميته "بتوازن الضعف الإستقطابىEquilibrium Weak Polarized والذى يقوم على الإستقطاب والإصطفاف ما بين الطرفين فى ظل نتائج مؤلمة للشعب السسودان بأكمله. هناك العديد من السودانيين المخلصين الذين درسوا هذه المعادلة بصورة أو بأخرى، وأسهموا بتقديم رؤى مبتكرة فى توصيف لب المشكلة وليست تداعياتها، ففى ظل تنامى التعليم والوعى وتيار معرفة الحقوق Rights" خاصة لدى الأطراف فأننا نتوقع مواجهة المزيد من حالات عدم الإستقرار السياسى مدفوعة بتراكم العوامل التاريخية والبنية الإجتماعية الهشة Fragile Social Structure. فإن الصراع كما يتصوره البعض مبني علي اساس إشراك الآخرين فى السلطة وليس فى عملية إتخاذ القرار، وهذا لعمرى هو خطل التحليل القائم !! جوهر الصراع الاّن حقيقة، هو حول المشاركة فى صنع القرار وليس إقتسام نتائج صناعة القرار. فإن أى شراكة حقيقية أو" Real partnership " يجب تقوم على مبدأ أن يتحول ضمير المتكلم من "أعطيناهم" إلى " تقاسمنا ". الطريق إلى الأمام: ماهو المطلوب عمله لتصحيح هذا الخطل؟ أنّ أىّ عملية تسوية سياسية قادمة يجب أن يتبعها عملية مصالحة إجتماعية بحيث أنها لا تتطلب من " الآخر " تغيير نظرته وإنما هيكلة مؤسسات الدولة إجتماعياً وجوهوياً بحيث تعكس جميع ألوان الطيف الموجودة فى داخل المجتمع السودانى. ولذلك فان عملية هيكلة الخدمة المدنية والتمثيل العادل الذى يعكس هذا التنوع ربما يكون له تأثير فعّال فى عملية التسوية السياسية. هذه المؤسسات أصبحت جذءاً من الفساد الأدارى، وعدم الكفاءة بدون إيلاء إهتمام بجدواها الإقتصادى. وتعاملت الحكومة مع هذه المؤسسات كقنوات سهلة لخلق فرص عمل عائلية ومجالس وإدارات لا يعلم حتى وزير المالية بأعضاءها . كذلك ندعم توجه تخصيص المؤسسات العامة والتى هى أصبحت فى الغالب الأعم مؤسسات "عائلية" وهى كذلك تشكل جزءاً كبيراً من مسببات الغبن الإجتماعى القائم الآن. كل ما حدث فى عمليات السلام السابقة من دارفور وجنوب كردفان كانت تقوم فقط على تحويل حالة العنف وإتاحة قدر من المشاركة السياسية إلى جانب عدد من الوعود الزائفة في المجال الاقتصادي غير قابلة للتحقق. والتى تصبح المادة السياسية فيما بعد لعملية الإحتواء خلال الحوار السياسى والذى ليس مبنياً على قناعة الطرف الآخر –(الحكومة). إذن فإن عملية الحوار ليست ذات مصداقية Credibility " من شأنها أن تجعل من الممكن تجديد إطار التعايش لحاله من الصراع السياسى المستمر يصعب كسر حلقة الصراعBreaking the conflict trap . فشل إتفاقات السلام السابقة يعود لعدم قدرتها فى مخاطبة جذور المشكلة، وليس بمقدور المفاوضين تجاوز حواجز جوانب النصر والهزيمة أو القوة في عملية التفاوض. إذن، فانّ التفاوض ليس مبنياً على على أساس قناعة الطرف الآخر بإقراره بأن هنالك مشكلة وانما تبني العملية التفاوضيه علي اساس المناورة السياسية. كذلك، معظم الإتفاقيات السابقة لم تناقش عملية بناء عقد إجتماعى جديد Social contract “ والتى تعبر عن قضايا الصراع المسكوت عنها، او بالتعبير عنها صراحةً. بالاضافة الي ذلك، فإن بالنسبة الواقع الحالى فى السودان لكثيراً من السياسيين بعض الأحيان تعتبر الحرب أكثر اماناً من السلام بالنسبة لهم. فالسلام بالنسبة لهم يعتبر قفزة إلى المجهول، وهوينطوى عن تنازلات حقيقة ولسيت شكلية، والفقدان على السيطرة السياسية، ولذلك، فانّ التماسك مهماً بالنسبة لهم فى تكريس بعض التحالفات السالبة، من خلال سياسية "فرق تسد". هذا هو الوضع الذى ساد أيام حكومة الوحدة الوطنية بعد اتفاقية السلام الشامل عام 2005 مع جنوب السودان، حيث كانت الحكومة تسعى إلى إعطى الجنوبيين مناصب سياسية منزوعة الدسم و غير قابلة للتنفيذ . ولذلك نأمل خلال المفاوضات القادمة أن يأتى الطرح من المفاوضيين أنفسهم فى المفاوضات وذلك من خلال طرح الأسئلة بشجاعة فيما يتعلق بالطريق إلى الأمام. من الأهمية بمكان أن يكون الإتفاق القادم او عملية التسوية السيايسة شاملةً للجوانب الإقتصادية، الإجتماعية والسياسية لانها للاسف سوف تكون الاخيره في هذا الرقم القياسي من الاتفاقات في ظل حكومة واحدة! قناعتي المبنية علي الوقوف علي تجارب العديد من الدول والتي واجهت نفس مأزق التشرزم و الجهوية، ان معالجة جزور الجهوية الضاربة في السودان ليس بالامر السهل وفقا للعديد من الرؤي المطروحة. وان تكون لدينا الشجاعة الكافية للقول بان مواجهة الجهوية ان يتم التعامل معها بشكل صريح الي حين، ووضعها في اطار مؤسسي واضح المعالم بعيدا عن المثالية تتضمن الحد الادني من التمثيل العادل. و في هذا الخصوص وعلى سبيل المثال ندعم بقوة إنشاء مجلس بأسم المصلحة الوطنية الحيوية“Establishing the council of vital national interest “ والفكرة الرئيسة من إنشاء هذا المجلس تقوم علي توفير نظام عدالة وحسبة متطور لضمان حقوق جميع السودانيين للحصول على المناصب العليا بإنصاف. وليس مثل الوضع القائم حاليا كما عبر عنة رئيس ديوان الحسبة بالبرلمان السودانى الفاتح عزالدين بقوله " أن ناس دارفور "شبعناهم سلطة" أنظر الضمير هنا! هذا المجلس يضمن القضاء على الإمتيازات لحقوق مجموعة عرقية معينة دون غيرها، حيث توجد المؤهلات من جميع الأعراق في البلد. هذا الوضع الجديد أو المجلس يتطلب هندسة مؤسسية لإصلاح الخدمة المدنية من أجل تحقيق السلام institutional engineering" والإستقرار من خلال وضع قواعد وأهداف حتي يرى الآخرين وجودهم الحقيقى فى بلد متعدد الأطراف، وليس رمزياً. هذه الضوابط والتوازنات " Check and balance " هى جزء من المسكوت عنه فى الأزمة الحالية. كيفية تحقيق ذلك يحتاج إلى اراده قوية. جميع الأطراف فى حاجة إلى وجود تمثيل حقيقى فى السلطة وليس وجوداً "رمزيا Symbolic"" فى إطار المواطنة الكاملة.“ نأمل أن يكون إطار المفاوضات القادمة إطاراً منهجياً مبنى على أساس التطور الديناميكى للشعب االسودانى ويحاول الإجابة على هذه الأسئلة: هل الأتفاق الجديد المرتقب سوف يمنع تجدد الحرب؟ وهل تشكيلات السلطة التى سوف تقوم علي الاتفاق تتجاوز تعقيدات الواقع والأشكالات التى أدت إلى الصراع ؟ ماهو المحك الرئيسى للمفاوضات المقبلة ؟ جلب السلطة أم تأجيل وتجميد للصراع ؟ ما الذى تطلبه الحركات المسلحة فى الأطراف ؟هل لديها القدرة ان تنضوى تحت حزب سياسى واحد؟ هل نقطة النهاية لهذا الصراع بتغيير الحكم فى السودان ؟ أم قبول توافقى للسلطة؟ ماهو المصير الذى سوف تواجهه هذه الحركات فى أى وضع ديموقراطى سوف ينشأ لاحقاً ؟ ماهى الرسائل التطمينية لأهلنا فى الشمال من الحركات المسلحة والذين برغم تأكيدات العديد منهم بالظلم الذى وقع على شعب دارفور وعلى المناطق الأخرى ولكنهم غير واثقين قد يكونوا بعيدين من الثأر؟ هل النظام الحالى والقائمين عليه يجدون متعة فى ظل هذه الأزمات المتلاحقة والتعرية الأخلاقية فى معرفة أسباب الصراع ؟ هل المفاوضات القادمة تقوم علي اساس الحل الشاملً الذي يخاطب العقول ولب المشكلة ام مناورة سياسية جديدة؟ وما دام "الشيئ بالشيئ يذكر" - كما يقال - فى ختام هذه المقالة نشير إلى أنه بالرغم من تودد الحكومة السودانية لنظيرتها الحكومة المصرية، والتى تشاركها الرؤية الأيدولوجية والمنطلقات الفكرية، ولكن لم يغيّر المصريون نظرتهم الدٌونية تجاه السودانيين. بالرغم من الدعم السخى واللا محدود والذى قدمه السودان لمصر ومايذال يقدمه، إلاّ أن كل ذلك تّم بتجاهل شبه كامل بصورة تكاد لا تخفى على أحد. لابد أن أيضاً نتوقف ولو قليلاً بشيئ من التدبر والإمعان عند زيارة الرئيس المصرى مرسى إلى أوغندا والتى لم يكلف نفسه حتى عناء التوقف بمطار الخرطوم لو لحين! بل والأغرب من ذلك دعم مرسى لأوغندا برغم تقديم السودان لدى منصب نائب الأمين العام لمنظمة التعاون الأسلامى بإعتراض ضد كمبالا، الاّ انه بحسابات السياسة وجد دعما مصريا بعيدا عن العواطف حيث تعلو المصالح علي الصداقة.وهذه المؤشرات ربما تعطى بعض الدروس للنخبة الحاكمة المهرولة. والأمر ليس هذا فحسب، بل و أن الكراهية العمياء للأطراف، جعلت الحكومة السودانية تمدد ثلاث طرق لمصر، بينما تتجاهل مصالح السودانيون غرباً وجنوباً. شعرت الحكومةالآن بأن المستفيد من البنية الأساسية "الجهوية المزاج" هم المصريون بإنتاجهم الكبير، وبدأت نوبة الخوف من إغراق السوق السودانية بالسلع المصرية وتدمير الصناعة السودانية. ولذلك، نأمل ألاّ يكون الشعور بالكبرياء لديهم جارحاُ وجدانياً، من النظرة المصرية السلبية، في حين نظرة حكومتنا لم تكن يوماً تصب فى صالح توسع مصالحنا الإقتصادية نحو إفريقيا. مفهوم الإنتماء والسيادة فى ظل "ديناميكية الهوية" هو إنتماء عاطفى فى ظل ضرورة إنسانية وإجتماعية للبقاء معاً. هذه هى النقطة المركزية فى الصراع القائم والذى من خلاله سوف يتم تقييم عوامل "البقاء" وعوامل "التفكك" للطرفين والتى نتمنى صادقين ألاّ تحدث وان تأخذ فى الاعتبار في التسوية السياسية القادمة. خاتمة ربما لا يفيق السياسين في دفة الحكم من خلال دروس التاريخ والعبر وخاصة تلك المأخوذة من أوروبا فى عملية بناء الدولة. وفي هذا الخصوص، يجب أن يتذكر الجميع أن الخارطة الأوربية القائمة الآن هى خارطة " إثنية " بصورة بحتة، نأمل ألاّ تذكرنا بجحيم حروب القرون الوسطى، والتى أدت إلى تمزيق أوروبا فى ذلك الوقت، وتطلبت الوحدة الحالية أربعة قرون لتكوين الأتحاد الأوروبى. المهم الإشارة إلى أن كل العوامل الموضوعية المدونة لتسهيل عملية هذا البناء قد تمت مناقشتها بإسهامات كبيرة من السودانيين، غير أن للأسف - وأرجو أن لا أوصف بالتشاؤم - إن عملية بناء الدولة ربما تمر بعملية تفكيك الدولة Disintegrating to integrate ، وحين يشعر الجميع بخطر تلاشى الدولة، , عندها يكون تقديم المقترحات متأخراً وأن يستعد جميع السودانيين " المهيمنين والمهيمن عليهم " للفاجئة. اخيراً، فالسودان ليس فى معركة مع الأسلام على الإطلاق حتى فى فترة ما قبل إنفصال الجنوب , ولكن فى معركة ربما تكون مع " المتأسلمين " أو لربما مع الذين ينظرون إلى بقية السودانيين بنظرة " الرعايا ولابد من قيادتهم " ولم يكن الدين أحد أسباب الفرقة على الإطلاق. وللاسف حتي الذي ينضون تحت سقف ايدلوجية واحده يعانون من قضايا الاستبعاد الجهوي والاجتماعي. ولذلك فان رسالتنا الأخيرة فى هذه المقالة هى أن الأحزاب السودانية المبنية على أساس أيدولوجى سواء كانت شيوعيه ام إسلاميه إن تراجع هذا الإستقطاب الحاد فى مقابل تقدم أجندة الرفاه والرخاء الإقتصادى وان تدرس إلى اي مدى استطاعة أيدولوجية الدولة ان يكون لها قدرة للتأثير إيجابيا على الأفراد ونمط حياتهم الروحانية وسلوكهم الخاص؟ وهل ذلك كافى لإقامة دولة الرفاهية؟ هل يمكننا أن نجعل من الإقتصاد إطارا لبرامج الأحزاب التنافسى بدلاً من الصراع الأيدولوجي الاجوف والذى ثبت بأن الدولة سواء كانت دينية او شيوعية لن تؤثر على سلوك الأفراد؟ وانّ المزايدة الفارغة بين العلمانية والدولة الدينية لا تقدم حلا لقضايا التنمية العاجلة. ولذلك ادعو الي نقاش جاد في جدلية الدولة السودانية ما بين المشروع الفكري و دولة الرفاه، اّملا ان الاجابة علي السؤال ان لا تاخذ نصف قرن اّخر من الزمن و الحروب الوهمية. د.سيف الدين داؤد عبد الرحمن [email protected]