الجيش السوداني يتصدى لهجوم شنته قوات الدعم السريع على الفاشر    المريخ يعود للتدريبات وابراهومة يركز على التهديف    مياسم يدعم والقطاع الرياضي يشكر    برباعية نظيفة.. مانشستر سيتي يستعيد صدارة الدوري الإنكليزي مؤقتًا    يوكوهاما يقلب خسارته أمام العين إلى فوز في ذهاب نهائي "آسيا"    ريال مدريد ينهي خلافه مع مبابي    هل يمكن الوثوق بالذكاء الاصطناعي؟.. بحث يكشف قدرات مقلقة في الخداع    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    سألت كل الكان معاك…قالو من ديك ما ظهر!!!    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    حمّور زيادة يكتب: ما يتبقّى للسودانيين بعد الحرب    أنشيلوتي: فينيسيوس قريب من الكرة الذهبية    عاصفة شمسية "شديدة" تضرب الأرض    مخرجو السينما المصرية    تدني مستوى الحوار العام    «زيارة غالية وخطوة عزيزة».. انتصار السيسي تستقبل حرم سلطان عُمان وترحب بها على أرض مصر – صور    د. ياسر يوسف إبراهيم يكتب: امنحوا الحرب فرصة في السودان    هل ينقل "الميثاق الوطني" قوى السودان من الخصومة إلى الاتفاق؟    كلام مريم ما مفاجئ لناس متابعين الحاصل داخل حزب الأمة وفي قحت وتقدم وغيرهم    الأمن، وقانون جهاز المخابرات العامة    مرة اخري لأبناء البطانة بالمليشيا: أرفعوا ايديكم    شاهد بالصورة.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بأزياء قصيرة ومثيرة من إحدى شوارع القاهرة والجمهور يطلق عليها لقب (كيم كارداشيان) السودان    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ان أوان التغيير .. في ذكري الخاتم عدلان
نشر في الراكوبة يوم 23 - 04 - 2013

للمفكر الخاتم عدلان اسهامات عديدة واري ان نشر ورقته ( آن أون التغيير ) مسألة ضرورية في ذكري رحيله وذلك لحوجة الكثيرين لها :-
( آن أوان التغيير
الخاتم عدلان
1. مدخل
ما الذي حدث للشيوعية؟ للأحزاب الشيوعية، و الشيوعيين الأفراد؟ ماذا حدث لعالم بكامِله، كان، حتى الأمس، ملء السمع و البصر، و أضحى أثراً بَعد عين؟. إنهارَ انهياراً مأساوياً يُذَكِّر المرء بالقَصص التوراتي والقرآني، حيث تختفي أقوام بكاملها من على وجه البسيطة و في لمحِ البصر!؟ ..
عندما بدأ شبح الشيوعية يُطارد أوربا العجوز، و يُقلِق نومها، و يُفزِع أباطرتها و طغاتها و يُجبرَهم على الإنخراط في حِلفٍ مُقدّس. كانت
قد وُلِدتْ بالفعل، و احتلّت مكانها على مسرح التاريخ، قوّة لم يسبق لها مثيل في عُنفوانها و نُبلِها و مشروعها الإنسانيِّ الأخّاذ. ذلك المشروع الذي أراد أن يُحوِّل العالم و يجعله مكاناً جديراً بإنسانٍ جديد متعدد المواهب والمَلَكات. ينمو في جميع الإتِّجاهات، و يكون شرطاً لِنُموِّه هذا، النُّموّ الحرّ لكل إخوته في الإنسانية.
عندما بدأ "ماركس" و "إنجلز" يرسمان معالم المشروع الجديد، تخدُمهما العبقرية و الموهبة و الذكاء، فقد إنجذبت إليه بالفعل، و على طول أوروبا
و عرضها، أكثر العقول استنارة ، و أكثر المناضلين شرفاً و حماسة؛ و قد تفجَّرت في صدور الرجال و النساء أحلامٌ و آمالٌ، و امتلأت آفاقِهم باحتمالات نبيلة و خَيِّرة كفيلةٌ باجتياج السماء. و قد نشأت لتحقيق تلك الآمال و الأحلام و الطموحات و الإحتمالات، أخَويَّات بشرية، لم تكن أقلّ من تلك الأخويات التى حقّقها الأنبياء وسط أتباعهم. و قد كانت صداقة ماركس و إنجِلز نفسَيهما، مثالاً ساطعاً على ذلك، قلّ أن يجود الزمان بمثلِه. و قد انخرطت هذه القوى في تغيير العالم، و تحقيق المشروع الإشتراكي، ثمّ الشروع بعده في بناء المجتمع الشيوعي، باعتبار ذلك تجسيداً لأنبل القِيَم التى عرفتها الإنسانية، و باعتباره حلآ لأعقد الألغاز التى أنشأها التاريخ،
و تجاوزاً لأصعب التناقضات التى عرفتها البشرية. و قد اتَّسَم نضال هذه القوى بالبطولة و بالشجاعة الفائقة و بنكران الذّات و الإزدراء بالمنفعة الشخصية و الإستهانة بالمصاعب و الأخطار .
و رغم الهزائم و الإنكسارات، التى واجهتها في بداية مسيرتها، فقد تمكّنت هذه القوى في عام 1917، في روسيا القيصرية، من الإستيلاء على السُلطة، و الشروع في بناء المجتمع الجديد. و قد تجلَّتْ في عملية الإستيلاء على السُلطلة و في مواجهة التدخل الخارجي والحرب الأهلية، بطولاتٌ خارقة، إعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء. و قد ظهرت إثر انتصار الثورة في روسيا، بوادرٌ باهرة لإجتياح العالم بأكملِه، و لم يكن الإعتقاد بإمكانية و واقعية ذلك الإجتياح وِفقاً على الشيوعيين وحدهم، بل شاركتهم فيه شعوب بكامِلها،
و ارتعدت له فرائص البرجوازيين و وجَفتْ قلوبهم. و لكن! بعد الشروع في معارك الإستيلاء على السُلطة في بعض البلدان، إتّضح أنّ تحقيق الحُلم لم يكن بالسهولة التى تَخَيَّله بها الشيوعيون و قادتهم. و بدأ واضحاً أنّ قوى أوروبا العجوز لم تكن تنقصها الشجاعة، و لا الحَمِيَّة والمكر، و لا العنفوان المُسلّح، و إنّ وصفَها بأنّها قوى عجوز، كان يحتوي على جُرعة زائدة من البلاغة الكلامية.
عندما بدأت وقائع هزيمة الثورة في هنغاريا، و تأجيلها في ألمانيا،
و إجهاضها في بلدانٍ أخرى، تفعلُ فعلها و تُشكِّل وعياً جديداً؛ إضطرّ البلاشفة الى توقيع صُلح "برست ليتوفسك "، و قبول اقتطاع مساحات هائلة من أراضيهم لصالح المعتدين الألمان. و من شيوعية الحرب و طموح التنفيذ الفوري للبرنامج الشيوعي، تراجعوا الى السياسة الإقتصادية الجديدة التى يُمكن أن تؤدي الى بروز فئات برجوازية صغيرة جديدة في المستقبل، تنافس البروليتاريا. و شيئاً فشيئاً، حلّت الوقائع الصّارمة محلِّ الأحلام المُجَنَّحة! ..
أثناء حرب التدخل و الحرب الأهلية، فَنِيَ آلاف الشيوعيين، و هلكت أقسام كاملة من البروليتاريا الصناعية. وحلَّ محلَّهم فلآحون أمِّيون و أجلاف، لا يستوعبون المشاريع النظرية و لا يؤمنون بها. و أمسكت بمقاليد السُلطة، بيروقراطية ضخمة من قُساة القلوب، ظلّت الهُوَّة بينها و بين الشعب تتَسع كل يوم. و قد أدّى ذلك إلى نتائج، ليس من أهدافنا حالياً الخوض في تفاصيلها، و لا تَقَصِّي أسبابها، تاركين ذلك لمناسبة، ربما تحينُ قريبا؛ مِن هذه النتائج :
* تركّزت الثروات في يدِ الدولة فأصبحت مالكة لكلِّ شيئ، و متصرِّفة مُطلَقة الصلاحية في كلّ خيرات المجتمع. و كان مطلوباً منها، مع ذلك، أن تشرع في الإضمحلال ! .. و وجدت البيروقراطية أن باستطاعتها أن تتصرّف بخيراتِ المجتمع و مصائر الناس بِحُريّة أوسع من تلك التى كانت لدى القياصرة ! فانفصلتْ عن الشعب، و امتصَّت رحيق حياته و نكَّلتْ به.
* مِن خلال عمليات تصفية نشطة إستُخدمت فيها المؤتمرات الحقيقية
و المفتعلة، تمّ القضاءُ على جميع الأحزاب الأخرى، و سُحِق استقلال المنظمات الإجتماعية و الأهلية، و صار الحزبُ حِزباً واحداً، الرأيُّ رأياً واحداً، و التصوُّر للماضي و الحاضر و المستقبل تصوُّراً ضحلاً و بائساً ! يُمثِّلُه
و يُجَسِّده حاكمٌ مُعتل العقل كان إسمه "جوزيف ستالين" ..
* حَلَّتْ سياسة الهيمنة و الضمِّ و الإلحاق و فَرض النماذج السياسية
و الإقتصادية، بل النّهب الواضح الفظ !، في بعض الحالات، محلِّ السياسات القائمة على أخويَّة الشعوب و حرِّيتها و حقَّها في تقرير المصير.
إنّ ذلك كلّه و غيره، لم يحدُث مرّة واحدة ، و لم يحدُث دون مقاومة؛ فَعَلى المستوى الأعلى للقيادات الحِزبية، فَقَدَ الكثيرون أرواحهم دفاعاً عن المشروع الأصلي. و على مستوى الشَّعبْ و وسط جماهير الفلآحين بصفة خاصّة، سالَتْ دماء الملايين الذين كانوا يدافعون عن أسلوب في الحياة، كانوا يرَونَه طبيعيّاً و عادلاً، خاصّةً بعد تمليكهم الأرض بعد الثورة، و لم يعبأ أحد بإقناعهم أن هناك ما هوَ أفضل منه.
هذه اللمحات العابرة، ليست محاولة لتفسير ما حدث في الإتحاد السوفييتي
و غيره من البلدان الإشتراكية، بل هي محاولة لتوضيح حقيقة، في غاية البساطة، و هيَ أنّ أيِّ حزب يُمكن أن ينحدر من ذُرى البطولة الى سِفوح الإنحطاط، و يمكن ان يتحوَّل قادته من مناضلين يقتحمون السماء، الى حِفنةٍ من القَتَلة الأشرار.
و لكنَّ الإنحطاط الذي أصاب الحزب البلشفي تحت قيادة "ستالين" لم يكن شاملاً لكل الحركة الإشتراكية و الشيوعية. فأثناء الحرب الأسبانية، و طوال الحرب العالمية الثانية، إنقدحت شرارة البطولة من جديد و لعبَ الشيوعيون، على طول أوروبا و عرضها، أدواراً في مقاومة الفاشية و النازية، لا يمكن أن تنساها الشعوب. و لَعبَ الجيش الأحمر السوفييتى دوراً في دحرِ النازية لايمكن أن تنساه الإنسانية. و قد حقَّق معجزة سحق النازية رغم أنّ قائده المعتوه! كان يُلحِق به من الخسائر و الأضرار ما عجِزَ عنه " الفيرماخت" أي، هيئة قيادة الجيش النّازي. و قد نشأت في حماية الجيش السوفييتي، في شرق أوروبا و وسطها، دولٌ إشتراكية على منوال المثال السوفييتي، و الذي كان قد لحِقته تشويهات لا تغيبُ عن العين. و من المؤكّد، أنّ تلك التشويهات كانت واضحة و جليّة لقادة البلدان الإشتراكية الجديدة، و لكنّ إمكانية نقدها و فضحها، دع عنكَ إمكانية الخروج عليها!، كانت مُغلَقة، حيث كان "قانون البقاء" يتكفَّل بإخراس الألسنة. و لا يُمكن لأحدٍ أن يُنكر أنّ هذه النُّظُم قد حقَّقتْ إنجازات باهرة و كبيرة بكلِّ المقاييس، في بُلدانٍ كان أغلبها يتّسمُ بالتخلف، و لكنّهم كانوا يحققون هذه الإنجازات و النَّيْرُ الروسيُّ الفادح يثقِلُ أكتافهم !. و كنتيجة، لامفَرَّ منها لعملية طويلة من التدجين و الإخضاع
و الإرهاب و الإفساد و التشويه، عَبَرَتْ هذه الأحزاب مرحلتها البطولية الى مرحلة الإنحطاط و الإذعان و المناقضة. و هل نحتاجُ لأمثلةٍ على ما نقول؟ .. إنّ القليل منها يكفينا :
** في أوائل نوفمبر 1989 عاد "إيريش هونيكر" من زيارة الى الإتحاد السوفيتي، حاول فيها "غورباتشوف" أن يقنعه بإجراء إصلاحات على غِرار البيريسترويكا. و قد رفض هونيكر هذا الأمر بازدراء ! قائلاً : إنّ نظامه لا يحتاج الى إصلاح ! و عندما سُئِل عن "سور برلين" قال: إنّه سيظلُّ قائماً خلال السنوات المائة القادمة !! و لكن، بعد أقلّ من عشرة أيّام، أي في
9 نوفمبر 1989 إنهار سور برلين الذي كان أوّل سورٍ في التاريخ يُقام، ليس لحماية الشعب من الغزاة، كما كان يحدُث في الصين و إسبرطة مثلاً، بل لمنع سُكّان الجنَّة الإشتراكية الألمانية من الهروب الى سعير الإستغلال الرأسمالي!! و لانظنُّ أنّ "ماركس" كان من الممكن أن يحتمل مثل هذه السُّخرية القاسية.
** و في تشيكوسولوفاكيا، سَيَّرَ أبناء العُمّال و الفلآحين و العُلماء، مظاهراتٍ في 17 نوفمبر يطالبون فيها بالإصلاحات الديمقراطية السياسية
و الأكاديمية. و قد حاولتْ الفتيات في المظاهرة أن يستَمِلنَ رجال البوليس برشقهم بالأزهار، و لكنّ القادة الشيوعيون، الذين تحوَّلوا الى تروسٍ في ماكينة البيروقراطية المعزولة عن الشعب، أجابوهم بالرصاص الحي !.
** في ديسمبر 1989 ألقى "نيكولاي شاوشيسكو" خطاباً استمرّ ستَّ ساعات في مؤتمر الحزب الشيوعي الروماني، و قُوطِع بالتصفيق المتواصل، و الوقوف أكثر من عشرِ مرّات و أُجِيز بالإجماع ! فَمَنْ يجرؤ أن يقول أنّه لا يرى الشمس في رائعة النّهار !؟. و انتُخِبَ شاوشيسكو رئيساً مدى الحياة،
و أبدى القادة السوفييت، و على رأسهم غورباتشوف، إعجابهم الشديد بالخطاب و بصاحب الخطاب، و أرسلوا له رسالة مطَوَّلة بذلك، كانوا قبلها بعامين، قد أنعموا عليه بِوسام "لينين" للسلام. وقد كان الشعب الروماني يشهدُ المهزلة بغضبٍ يُحرّق الأجفان ويُفَجِّرُ الألباب؛ فقد تحوَّل قادة الحزب الشيوعي في نظرهم الى طُفيليّات جديرة بالسحق. و عندما انفجرت المظاهرات إحتجاجاً على نفي راهب كاثوليكي، إندفعتْ السيكيوريتات،
و بأوامر الطاغية، تحصدُ جماهير الشعب بالمئات، و لكن السيكيوريتات،
و بكلِّ قوّتها و جبروتها، لم تستطع أن تحمي الطَّاغية ! و عشيّة أعياد الميلاد، أُعدِمَ تشاوشيسكو و زوجته، و لم تُذرَف عليهما دمعةٌ واحدة ..
و في هنغاريا و بُلغاريا و ألمانيا، كان الشيوعيُّون من الحِكمة بحيث استطاعوا أن ينضمُّوا بسهولة نسبية إلى الشعب، و يشتركوا معه في هدم البناء الذي أقاموه طِوال سنوات حُكمِهم. و قبل ذلك، في بولندا، وقفتْ الطبقة العاملة كلّها ضد السُلطة و ضد الحزب و نظّمت نفسها في نقابة "تضامن" ؛ و مع ذلك لم يرَ الحزبُ أنّه كفَّ عن أن يكون حزباً للطبقة العاملة ! و استعان قادته بالجيش، الذي يبدو أنّه تقمَّصته روحٌ هيجليّة حوَّلته الى نقيضٍ ! فصارَ هو الطبقة العاملة، بينما أصبحتْ الطبقة العاملة نقيضاً لِذاتِها !. و قد كان بعض الشيوعيّون يصرخ ويقول: لن نتنازل عن شبرٍ واحد من رِقعة الإشتراكية حتى و لو كان ذلك التنازل من أجل الطبقة العاملة نفسها !!.
و لم يكن استخدام الجيش ضد الطبقة العاملة وقفاً على بولندا وحدها، فقد استُخْدِم ضدها في ألمانيا عام 1953، و في المجر 1956 و في تشيكوسلوفاكيا عام 1968.
هذا العبور من عصر البطولة الى عهد الإنحطاط، هل يخُصّنا نحن في الحزب الشيوعي السوداني ؟ هل يُمكن ان يكون مصيرنا كمصيرِ الآخرين ؟ وهل سنشترك يوماً في قمع شعبنا و قهره بالسلاح ؟ و هل في مآسي الأحزاب الشيوعية الأخرى و مصائرها، شيئاً نتعلَّمه منها ؟ و هل في استطاعتنا أن نُديرَ ظهورنا لما حدث و نتعامل كأنّ شيئاً لم يكُنْ ؟..
هذه هيَ بالضبط ، الأسئلة التي كتبتُ هذه الورقة للإجابة عليها، بل إنّها كُتِبَتْ لِتفادي مثل ذلك المصير الذي حلَّ بغيرِنا. فَثمَّة نغمة بدأت تتّسع الآن بأنّنا حزبٌ من نوعٍ خاص، لم يعرف عِبادة الفرد، و لا حَجْب الرأي الآخر،
و لا نَفي المخالفين في الرأي؛ دع عنكَ إعدامهم. و ما دامت المقدِّمات المختلفة تقود الى نتائج مختلفة، فلا يُمكن لأحدٍ أن يتّهمنا بشيئ أو يُحاسبنا بأخطاء غيرنا. و ربما يتساءل البعض : كيف يُمكن لحزب عبدالخالق محجوب
و الشفيع أحمد الشيخ، أن يصبح كحزب شاوشيسكو ؟ .
و ليس في نيّة كاتب هذه السطور أن يكتفي بالإجابات العاطفية، أو الجُمل الطنّانة المُفجِّرة للحماس و العواطف النبيلة. صحيحٌ أنّنا حزب سودانيٌّ شديد الإعتزاز بسودانيَّتِه، و لكن الأحزاب الشيوعية الأخرى، كانت أحزاباً وطنية هيَ الأخرى، شديدة الإعتزاز بانتماءِها القومي من دون شك. و قد كانت لها مآثرها و تضحياتها و أبطالها و قد حاولتْ، كما حاولنا، أن تُخضِع الماركسية لمُقتضيات واقعها، ربما أقلّ قليلاً أو أكثر قليلا، و لكنّنا، كحزب شيوعي، لو وُضِعنا في نفس الظروف التى وجدتْ هذه الأحزاب نفسها في خِضَمِّها، لفعلنا مثلما فَعلوا، مع أنّ البصمات السودانية لن تكون معدومة.
إنّنا كشيوعييين، و إذ نستندُ على الوقائع المُتَّفق عليها، حتى مِن قِبَل الأعداء، لَيَحِقُّ لنا أن نفخر بالمأثرة التى جسَّدها على السودان، حزبُنا الشيوعي السوداني. و لكنَّها مأثرة قد آذنت بالإنطواء ! و يعتقد كاتب هذه السطور، أنّ ساعة التغيير قد أزِفَتْ، و إنّنا إذا فَشَلنا في النهوض بأعباء التغيير، فإنّ نُبْلَ التاريخ سيتحوّل الى لؤمٍ لا يُصَدَّق. و عندما ينظرُ المرء الآن و يُجيلُ النّظر داخل الحزب الشيوعي السوداني، فإنّه يرى مظاهر الشيخوخة قد دبَّت في كلِّ شيئ و تخلّلت جميع الخلايا. و لكنَّه يرى، مع ذلك، إمكانية هائلة للنهوض بالإستناد إلى جديدٍ ينبتُ بين الأنقاض، و حياةٍ تتمخَّضُ من كوم الرّماد. هناك إمكانيات حقيقية لبناء مشروع جديد، عادل
و خَيِّر، و لكنَّه أكثر تواضعاً ممّا كنّا نحلم ونتمنّى، و أكثر واقعية و راهنية، و أكثر التصاقاً بالأرض، و أكثر اهتماماً بإنسان اليوم، و قضاياه الحقيقية
و مشاكله الطاحنة و آماله القريبة، منه بإنسان خيالي لا يعدو أن يكون مقولة ذِهنية، لا ننكر جمالها ومقدرتها الهائلة على الجذب، كما لا ننكر أنّها يُمكن ان تتحقّق في يومٍ قادم من أيّام الإنسانية. و لكنّنا فقط، في لحظتنا هذه من الزمان، في بُقعتنا هذي من الأرض، في مرحلتنا هذه من تطوُّر المجتمع، نتركها للأجيال القادمة. فهيَ، و ياللأسف الشديد، ليست في متناول أيدينا، ليست في مُستطاعنا. كما أنّ الأجيال القادمة لن تتمكّن من الوصول إليها إلآ على أساس من هذا البناء المتواضع الذي نحاول أن نُقِيمَه لأنفسنا. و في هذا مصدرٌ عميقٌ للعزاء .
إنّني أرمي في الصفحات التالية، أن أُقَيِّمَ إنجازات الحزب الشيوعي السوداني، و أُثبتُ بعض ما أضافه للحياة السياسية و الفكرية و الثقافية السودانية. كما أنوي أن أُحاكِمَ بالآمال التى فجَّرها في جوانح الناس،
و المشاريع الكُبرى التى ألزمَ نفسه بتحقيقها، وفشَل في تحقيقيها لمُختَلف الأسباب. كما أنوي أن أقول أنَّ السَّيرَ بالطريقة القديمة، لم يَعُد ممكناً. فالآيديولوجية القديمة لم تَعُد مُلهِمة للأجيال الجديدة، و لا مُفِجِّرة لطاقاتها، لا جامعة لِقوى التغيير. و النُّظُم الداخلية، عفا عليها الزمن، و الديمقراطية يجب أن تدخل من جميع النوافذ و الأبواب، كما أنّ الوجوه يجب أن تتجدّد.
أنوي أن أقول : أنّ ساعة التغيير قد أزِفَتْ، وأرجو ألآ يفوت الأوان ..
2. لمحات من سِيرة الحزب
في أغسطس 1993، بَلغَ الحزب الشيوعي السوداني عامه السابع
و الأربعين على ثرى السودان. و عندما يقف الشيوعيّون السودانيون في هذه النقطة، و يَرْجَعوا بأبصارهم إلى الوراء، و يتأمّلوا مسيرتهم هذه، الطويلة بمقاييس السياسة السودانية، فإنّهم لا يجدون فيها ما يُخجِل أو يٍُشِين. بل يجدون فيها، على العكس، الكثير الذي يملأ الجوانح بالفخر و النفوس بالرِّضا. و يُمكن لكل مراقبٍ نزيه أن يؤكّد، دون أن يخشى التحيُّز أو المبالغة، أنّ الشيوعيين السودانيين لم يتخلّفوا عن أيَّة معركة خاضها الشَّعبُ من أجل التقدّم و الديمقراطية طوال هذه العقود، إن لم يكونوا القادة الذين لا تلين لهم قناة في هذه المعارك. و قد استهلّوا مسيرتهم و دشّنوا تاريخهم بالنضال ضد المجلس الإستشاري عام 1946 و ضد الجمعية التشريعية عام 1948. لقد شاركوا في تفجير الغضب الشعبي ضد تلك المؤسسات الإستعمارية،
و تقدّموا الصفوف و جادوا بالتضحيات وقدّموا الشُّهداء. و استطاع الشّعبُ بِفضلٍ من ذلك الدّور و بِفضلِ إرادته الغلآبة، من هزيمة تلك المؤسّسات
و تخطِّيها. و قد شاركَ الشيوعيون، من خلال علاقات حميمة بالجماهير، في بثِّ الدعوة الى استقلال كامل ونظيف، خالٍ من الإرتباطات العسكرية
و الأحلاف و المشاريع الإستعمارية المشبوهة. إستقلال يكون بوّابة يلجُ منها السودان الى القرن العشرين، و يبني اقتصاده المتقدّم، و نظامه الديمقراطي الرّاسخ، و نهضته الوطنية الشامخة. و يُحِقِّق وحدة الشعب و يُلِهمُ كلَّ نضالاته اللآحقة.
في خِضم ذلك النضال، أدخل الشيوعيون أساليب جديدة في العمل السياسي الجماهيري في السودان. أقاموا الليالي السياسية الحاشدة
و التي صارت، فيما بعد، منابر أساسية للتعليم السياسي و التعبئة الشعبية. و أصدروا البيان السياسي المطبوع بإسلوبه الجديد المُتميِّز، و رسالته السياسية الواضحة. و سَيَّروا المظاهرات الشعبية لإظهار قوّة الجماهير، لها هيَ نفسها أوّلاً، و لأعدائها بعد ذلك. و لِخدمة أهداف سياسية و اجتماعية محدّدة؛ و بشعاراتٍ تضيف الى المضمون المحدّد، القوّة و الحيوية و التعليم.
و لعِبوا من خلال كل ذلك و غيره، دوراً، لا يُمكن أن ينكره إلاّ مُغرض، في تحقيق الإستقلال و الدعوة الى تعميقه بتحقيق الإستقلال الإقتصادي باعتباره وسيلة التحرّر الحقيقية.
و أثناء الفترة القصيرة للحُكم الوطني الديمقراطي بعد الإستقلال، دعا الشيوعيُّون بأصواتٍ مُجلجِلة موسومةٍ بصفاء الرؤية و بُعد النظر، الى وُحدة الصّف الوطني في مواجهة القوى الرّجعيّة و الذيول الإستعمارية؛ و كادت دعوتهم تلك أن تُكَلَّل بالظّفَر بفضِّ الائتلاف بين حِزبَيْ الأُمّة و الشّعب الديمقراطي، و إقامة تحالف وطني واسع و تكوين حكومة للوحدة الوطنية.
و لكن القُوى الرّجعية في حزب الأمّة، و في قيادة الجيش، و بِتشجيعٍ
و تحريض من قوى أجنبية، إستَبَقتْ هذه الخطوة الهامّة و نفَّذتْ إنقلاب 17 نوفمبر بقيادة جنرالات الجيش في صبيحة اليوم الذي كان من المُقرَّر أن يُعقَد فيه البرلمان.
يحفظ التاريخ للشيوعيين السودانيين أنّهم نَبَّهوا الى وقوع ذلك الإنقلاب مُبكِّراً، و كتبَ عبدالخالق محجوب مقالاً لهذا الغرض يوم 9 نوفمبر فاضحاً التدابير الخفية للإعداد للإنقلاب العسكري، و مُفصِحاً عن مقدرة متميِّزة للإلمام بدقائق السياسية السودانية؛ و اتِّجاهات السياسة العالمية مع مَلَكة التقييم الصائب و اليقظة المسؤولة. و عندما وَقَعَ الإنقلاب، كان الشيوعيُّون أوّل القوى السياسية التى أعلنتْ معارضتها له. وطوال ستِّ سنوات، كانوا في طليعة القتال من أجل الإطاحة به و استعادة الديمقراطية. و بالإضافة الى صمودهم في وجه الملاحقة و الإعتقال و السجن، فقد قدّموا للجماهير، القيادة السياسية المُلهَمة؛ إذ طرحوا في منتصف عام 1961 الإضراب السياسي العام باعتباره الأداة التى تؤدِّي الى إسقاط النظام. و لم يبخلوا بشيئ، و لم يتردّدوا في الإقدام على أيِّ تضحية. و ابتدعوا أساليب العمل السِّرِّي التى تُعتَمد في مواجهة الهجمات. و لعبوا بكلِّ ذلك دوراً رائداً
و أساسياً في تفجير ثورة أكتوبر 1964. و قد شَهِد لهم الشعبُ نفسه، بهذا الدَّور المتميِّز في إسقاط حكومة عبود و عودة الديمقراطية، عندما طوَّق أعناقهم بثقةٍ نادرة في حكومة أكتوبر الأولى، و في الإنتخابات الأولى عام 1965، إذ كسِبوا إحدى عشرة دائرة من دوائر الخرِّيجين الخمس عشرة،
و فاز عبدالخالق محجوب، السكرتير العام للحزب، في الإنتخابات التكميلية لدائرة الأزهري بالذّات، بعد تنصيب الأخير رئيساً لمجلس السيادة.
طِوال الفترة الممتدة من ثورة أكتوبر و حتى انقلاب مايو 1969، و رغم حلِّ حزبهم في هذه الأثناء، و رغم كلّ أعمال القمع التى تعرّضوا لها، عمِلَ الشيوعيون على تعميق شعارات التغيير و التقدُّم، ونجحوا كثيراً في ذلك. كما استطاعوا، بفضلِ تحالفاتهم الواسعة من أجل الديمقراطية، و بِفضلِ أساليبهم المرِنة، أن يمنعوا الرِّدَّة عن ثورة أكتوبر من أن تصبح رِدَّة شاملة، فاحتفظت الجماهير بمنظّماتها التى كان الرَّجعيُّون مُصَمِّمين على سحقِها جميعاً.
و يُعتبر إنقلاب مايو، من أقسى الإمتحانات في تاريخ الحزب الشيوعي؛ و إذا اتّفق الناس أو اختلفوا، فَثَمَّة شيئ لا شكّ فيه، و هو : أنّ تلك المواقف كانت محكومة بالمبادئ، و بعيدة عن كلّ انتهازية سياسية، و مُتَّسِمة بروح الصِّدام دفاعاً عن قِيَم الديمقراطية و التقدّم. و من الحقائق المشهودة، أنّ الحزبَ قد رفضَ كل إغراءات السُلطة و امتيازاتها، و لفظَ بحزمٍ أولئك الذين رأى في تصرُّفاتهم تهافتاً على المصالح الشخصية، أو تغليباً للإعتبارات التكتيكية على حساب الشعب و ديمقراطية الحُكم و سعادة الجماهير. و أُجْبِرَ الحزبُ، ساعة الإقتضاء، أن يُحارب السُّلطة المايوية بسلاحها ذاته – سلاح الإنقلاب العسكري- أعطى موافقته، بصرف النظر عن كون تلك الموافقة صريحة أو ضِمنية، لتفجير حركة 19يوليو 1971، علَّه بذلك، يفتح الباب لحُكم الجبهة الوطنية الديمقراطية، و إنجاز مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، و مُفَضِّلاً، في كلِّ الأحوال، مواجهة كل احتمالات الهزيمة على الأستسلام دون قِتال. نقول ذلك دون أن نُغلِق الباب أمام تقييم شامل لتلك الفترة المضطّربة، يستند على الكشف المأمول عن كلِّ الحقائق.
تُعتَبر مواقف أستشهاد عبدالخالق محجوب و الشفيع أحمد الشيخ
و جوزيف قرنق و بابكر النُّور و هاشم العطا و محمد أحمد الرَّيح و رفقائهم العسكريين جميعاً، مناراتٌ عالية، ليس في تاريخ الحزب وحده، بل في تاريخ الشعب كذلك . فقد أوضح أولئك الرجال الأفذاذ، أنّهم قادرون على الذهاب الى آخر المدى في الدَّفاع عن المبادئ التى آمنوا بها، و عن مصالح الشَّعب كما تَصَوَّروها. وفي مواقفهم تلك، لم يكونوا يُعبِّرون عن صلابة الحزب
و كفى، بل كانوا يُعبِّرون عن صلابة الشعب و شرفِه. ورغم الضّربة القاسية التى وُجِّهت للحزب بعد رِدَّة 22 يوليو1971، و التى تركت آثاراً غائرة على كل مسيرته اللاّحقة؛ و رغم التّوجُّهات الشرسة من قِبَل السُّلطة و من قِبَلِ القوى التى كانت تقف وراءَها محليّاً و إقليميّاً و عالميّاً، لاقتلاعه من الجذور، إلاّ أنّ الحزب تمكّن من مواصلة نضاله ضد سُلطة مايو، و مَدَّ يده لكل قُوى المعارضة، و التى لم تكُن تخفي نواياها العدوانية تجاهه، و ذلك لتوحيد النضال من أجل الإطاحة بحُكم الفرد و استعادة الحُكم الديمقراطي و فتح النوافذ من جديد لتطوُّر السودان. و قد كان ثمرة ذلك ما تحقَّق في انتفاضة أبريل 1985 رغم كل ما أحاط بها من ظروف و مُلابسات عرقلت وصولها الى أهدافها.
طِوال السنوات الأربع التى أعقبت الإنتفاضة، طرح الحزبُ شِعار وُحدة قوى الإنتفاضة لإعطائها محتواها الإجتماعي وتجسيدها السياسي. و قد استطاع الحزبُ المُثخَن بالجراح و المُثقل بقيود السِّرية الطويلة الفادحة، أن يحتلَّ مكانته في بانوراما السياسة السودانية. و إذ كانت تلك المكانة صغيرة و ثانوية، فقد كانت على الأقل مُستقرة. و قد تحقَّق له ذلك بفضلِ تاريخه و نضاله، و بِفضلِ برنامجه الديمقراطي الواقعي، و بِفضلِ تكتيكاتِه المَرِنة، التى أجبرت القوى السياسية الأساسية على قبولِه و التعامل معه،
و هيَ التى كانت ترفضُ ذلك رفضاً مُطلَقاً و قاطعاً؛ و ربما تبيَّن لهذه القوى أنّه لا يُمثِّلُ تهديداً حقيقياً لها ! كما كان يفعل في الماضي، و هذا أمرٌ سنبحثه في موضعِه. المُهم أنّ الحزب الشيوعي السوداني، صار رقماً مُعتَرفاً به في السياسة السودانية.
عندما انقضَّت الجبهة الإسلامية القومية على السُلطة في 30 يونيو 1989 لم يتوانَ الحزب عن الإنخراط في القتال ضدَّها في إطار التجمُّع الوطني الديمقراطي، الذي استطاع أن يوحِّد أوسع معارضة سياسية في تاريخ البلاد. و لَعبَ الحزب دوراً متميِّزاً، و مايزال، سواء في تجميع القوى، أو في صياغة الميثاق، أو في النضال اليومي ضد السُلطة، رغم نقائصه، أو في عمل التجمُّع الخارجي، السياسي و الإعلامي و غيره.
هذه اللَّمَحات الخاطفة، و التى لم يُقصَد منها بالطبع، التأريخُ للحزب الشيوعي السوداني، توَضِّح بجلاءٍ أنّ هذا الحزب ظلّ جزءاً أصيلاً من نضال الشعب السوداني، و فصيلة متقدّمة في مسيرة هذا الشعب العملاق. لم يكُن نَبتاً شيطانيّاً، و لا كياناً مُصطَنعاً و لا مقولة مُلَفَّقة. بل استدعاه الواقع استدعاء. استدعته المهام الوطنية التى كانت مطروحة أمام الشعب،
و التناقضات المستعصية التى كانت تنتظر الحل، و الآمال المشروعة في الديمقراطية والتقدّم والإشتراكية، التى لم يتحرّك بها وجدان الشعب السوداني فحسب، بل انداحت دوائرها لتُغطِّي كل القارّات، و تأخذ بِشِغاف أفئدةِ الشِّعوب.
و في حقيقة الأمر فإنّ الدُّور الذي لعبَه الحزب الشيوعي السوداني في بلادنا، يتخطّى مستوى النضال السياسي المباشر إلى مستويات الفكر النظري، و الخَلق الفنِّي و الأدبي و الثقافي. فلقد حاول الحزب، بقدر ما توفَّر له من مقدرات، أن يجعل الممارسة الحزبية ممارسة عملية، مُخضعاً إيّاها لرؤية متكاملة، و مشروع متعدّد الجوانب. و قد شَرَع عبدالخالق محجوب منذ 1954، و لم يكُن حينها قد تعدّى السابعة و العشرين من العُمر، يكتُب في الصُّحُف السيَّارة، و في الوثائق الحِزبية و المطبوعات الجماهيرية، عن النظرية التى تُنَسِّق الوِجدان، و تُفَسِّر ظواهر الوجود، و تعطي الإنسان رسالة نبيلة في الحياة. و يُنادي بأهمِّية إخضاع ظاهرة الإستعمار للتحليل الإقتصادي، و بمحاكمة الحضارة الغربية انطلاقاً من تناقضاتها العميقة
و الفاجعة، إذ تُنادي نظريَّاً بِقِيَمِ الخير و الجمال و العدل، و تدوس على نفس هذه القِيَم بالنَّعالِ في ممارساتها العلمية. و في حين كان المثقَّفون في ذلك العهد ينظرون إليه في إعجاب و يقرأونه بإنبهار، كان الرَّجعيُّون ينظرون إليه في ريبةٍ مُختَلطةٍ بالعجب.
شَرَعَ الحزب وِفقَ مقتضيات النظرية الماركسية التي تبنَّاها، في إخضاع المجتمع للتحليل الطبقي، و إرجاع مواقف القوى السياسية المختلفة الى منشأها الطبقي و ربطها بمصالحها الطبقية و الفئوية . كما شرعَ في صياغة برنامج سياسي متكامل على هذا الأساس. و إنّه لَمِن الأمور البالغة الدلالة، أنّ القوى الإجتماعية و الدوائر الأكاديمية التى كانت تصرخ في وجوه الشيوعيين مُنكِرة إمَّا وجود الطبقات في السوداني، أو عدم صلاحية المعيار الطبقي في الحُكم على المواقف السياسية و الإقتصادية ؛ تلجأ الآن إلى مقولات الصراع الطبقي، و معايير المصلحة الطبقية في اتِّخاذ المواقف السياسية أو تحليلها !! و لا يُقَلِّل من أهمية هذه الظاهرة، أنّ البعض يلجأون إليها ضِمناً و ليس صراحة.
و تُعتَبر "وثيقة الماركسية و قضايا الثورة السودانية" مَعلماً بارزاً في الحياة الفكرية في السودان ؛ إذ حاولت الخروج من إطار الآراء المُسبَقة و المفاهيم العامّة إلى الدراسة الباطنية للمجتمع السوداني، و معرفة المواقع الحقيقية للطبقات المختلفة، و أوزان ونفوذ هذه الطبقات في المجتمع، و مواقفها من مُختَلف القضايا المتعلِّقة بتقدّم البلاد، و بناء إستراتيجية الحزب
و تاكتيكاته على أساس هذه المُعطيات ؛ و محاولة إنهاء غُربة الماركسية بِجعلها جزء من النسيج الحي للبنية الإجتماعية و السياسية للبلاد. و مهما كانت الآراء حول الإستنتجاجات التى توصَّلت إليها الوثيقة نفسها، إلاّ أنَّها إختطَّت منهجاً في معالجة القضايا السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية، لايُمكن لأحدٍ أن يتجاهله بعدها. و قد سَبَقتْ هذه الوثيقة، و أعقبتها، وثائق أخرى سارت على نفس النهج، منها وثيقة "سبيل السودان نحو تعزيز الإستقلال و الديمقراطية والسِّلم" المُجازَة في المؤتمر الثالث للحزب في فبراير 1956. و وثيقة "إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير" و التى كتبها عبدالخالق في معتَقَلِه في ‪"الشجرة " عام 1971 ؛ و غيرها من الوثائق الحزبية الهامَّة، التى تُعتَبرُ معالمَ فكرية في تاريخ الحزب، و دلائل على قُدرتِه على التقييم السياسي و الفكري، و موقعه المستقل نسبيَّاً. و لولا أسلوب الإخراج الذي جعل كثيراً من تلك الوثائق في غير متناول الجماهير
و حصرها في نطاق عضوية الحزب، لكانَ الأثر الفكري و السياسي أبعد مدى بكثير ممّا حدث بالفعل.
بالإضافة للتنظير السياسي، فقد لعبَ الشيوعيُّون دوراً عظيما بِحَق، في تنظيم الجماهير. فهُم الذين بادروا ببناء نقابات العمَّال، بدءاً بنقابة السِّكة حديد، و تَوَّجوا ذلك الجهد ببناء الإتحاد العام لنقابات عُمَّال السودان.
و شاركوا في بناء إتحادات الطلاّب، و ذلك منذ مؤتمر الطلبة عام 1948
و انتهاءاً باتحاد طُلاّب جامعة الخرطوم، و الإتحادات الطُلاّبية الأخرى.
و بادروا ببناء إتحاد المزراعين و ساهموا بدورٍ بارز في بناء نقابات المِهَنيين و الموظّفين و اتحاداتهم. و كانوا أوّل حزبٍ سياسي شاركتْ كوادره في بناء حركة النساء والشباب، وهي حركة اجتماعية سياسية ذات توجُّهات وطنية
و تقدُّمية.
على الصّعيد الثقافي، نستطيع القول أنّ الآمال الواسعة التى فجّرتها احتمالات المستقبل الإشتراكي بالنسبة للإنسانية جمعاء، و بالنسبة للسودان على وجه الخصوص، قد ألهَمتْ أجيالاً من المبدعين في مجالات الشِّعر
و القصّة و المسرح و غيرها، فأنتجوا أبرز الأعمال في تاريخ الثقافة السودانية، و أنشأوا حركة ثقافية نشِطة، تشابكت روافدها في المجرى العام للحِسِّ الثقافي و التقدُّم الإجتماعي، دون أن يُملي عليها الحزبُ أهدافها، و دون أن تصبح هيَ بوقاً سياسياً له. و لكنّ الإرتباطات غير المباشرة، كانت هناك على الدوام، كما أنّ انتماء كثير من المبدعين إلى الحزب الشيوعي، كان أمراً معروفاً.
و اختصاراً نقول: إنّ الحركة السياسية و الإجتماعية و الثقافية في السودان، قد طرأتْ عليها تطوُّرات هامة بِفِعلِ ظهور الحزب الشيوعي السوداني. و قد تمكّن الحزبُ من فرضِ وجودِه على المسرح السياسي رغم ضراوة وشراسة المقاومة التى ووجِه بها في كثير من المنعطفات. و نادراً ما نَجِدُ قوَّة سياسية مسؤولة، تتجاهل ردود فعل الحزب، عندما تضعُ برامجها أو تُحَدّد مواقفها. و يُمثِّل كل هذا، مجالاً خِصباً للبحث النزيه. و ما أشِرنا إليه في هذه الأسطر السابقة، و بهذه الصورة الخاطفة، ليس قليلاً بالنسبة إلى حزبٍ يحمل مواصفات الحزب الشيوعي. و لم نورِده نحن إلاّ بِقَصدِ إثبات مَا نعتبره الحقيق في حقِّ حزبٍ إمتنع على الدوام عن الإنخراط في مديح الذّات. و قد شِئنا أن نُثبِتْ أيضاً، أنّ التضحيات الجسيمة لم تكن عبثاً،
و أنّ الجهود العظيمة التى بذلتها أجيال الحزب، لم تكن عملاً لا طائل من ورائه، و أنّ الدِّماء الذكيّة التى جادَ بها قادتُه و مناضلوه لم تضِع هدراً. و قد أوردناها، كذلك، كمحطّة أساسية للعبور إلى تقييم شامل لِرسالة الحزب
و لِمصيره ؛ و من نافلة القول، أنّ الحزب السياسي – أيَّ حزب – لا يُقَيَّمُ فقط في ضوء إنجازاته المُحَقَّقة، بل كذلك في ضوء الأهداف و الخطط التى طرحها و سعى نحو تنفيذها، و مآل تلك الخُطط في الحاضر و المستقبل،
و معناها و جدواها بالنسبة لِلناس الذين وُجِّهتْ إليهم، و قَصَدتْ إلى إعادة صياغة شروط حياتهم. و كلّ ذلك على خلفيّةٍ من تطوُّراتٍ عاصفة، إجتاحتْ هذا الكوكب من أقصاه إلى أقصاه، و قَلَبتْ الآيديولوجيّات و البرامج
و الخُطط رأساً على عقب.
تترتَّب على هذا التقييم الشامل، نتائج عملية تتعلّق بالحزب، بِوجودِه و فِكرِه، باستراتيجيَّته و تاكتيكِه، ببرنامجِه و لائحتِه، بوسائلِه و أساليبه ؛
و بالقوى الإجتماعية التى يتوَجَّه إليها. و على هذا التقييم أن يُجيبَ على أسئلةٍ أساسية، منها مَا يلي :-
هل استطاع الحزب الشيوعي السوداني أن يُحَقِّقَ الأهداف التى نشأ من أجلها؟ هل يستطيع الآن تحقيق تلك الاهداف؟ هل إحتفظت هذه الأهداف بقيمَتها ذاتها طِوال هذه العقود؟ و هل بإمكاننا إزاء هذه التطوُّرات التى عصفت بالكوكب أن نتظاهر بأنّ شيئاً لم يحدُثْ و أنَّنا نستطيع أن نواصل السَّير كما فعلنا في الماضي؟؟
أسئلة تُحيِّر الألباب، وتمسك بالرِّقاب، و تُؤرِّق الضمائر، و لا يستطيع أن يتجاهلها إلاّ أولئك "المعصومون من الإهتزازات" و الذين لا نحنُ منهم و لا هُمْ مِنَّا ..
3- تحويل الحزب الشيوعي إلى قوة إجتماعية كُبرى و إلى حزب على النِّطاق الوطني
إنّ أهمّ الوثائق التى أصدرها الحزب الشيوعي السوداني، توضِّح أنّ مُؤسِّسيه لم يدُر بخلدهم أن يكون الحزب حَلَقة صغيرة منطوية على ذاتها، أو تيّاراً ثانوياً على هامش الحياة السياسية في البلاد. فقد شرعَ أؤلئك المؤسِّسون في تكوين الحزب، و أمامهم أكبر المعارك و أعظمها شأناً، معركة الإستقلال الوطني. و كانت قضية توحيد القوى السياسية الوطنية، هيَ القضية الأولى التى كانت تشغل أذهانهم وقتها. كان أولئك المُؤسِّسون يفكِّرون في حِزبهم كأداة هامّة في تحقيق الإستقلال، أي كانوا يُفكِّرون فيه كمنظّمة وطنية، سياسيَّاً وتنظيميَّاً. و قد طُرِحت في دورة اللَّجنة المركزية في مارس 1953 قضيّة بناء الحزب على النطاق الوطني، لِيَصبح حزباً شعبيَّاً. و أُنشِئتْ في العام نفسه "الجبهة المعادية للإستعمار" بإعتبارها شكلاً من أشكال الوجود الوطني للحزب. و قد نجحتْ بالفعل في الوصول إلى مواقع إجتماعية، و أماكن جغرافية، ما كان من الميسور للحزب أن يصلها بصفته حزباً شيوعيَّاً. فضَمَّت شخصيات و قوى وطنية مؤثِّرة، و تكوَّنت لِجانها في قُرى و أقاليم بعيدة. و لكن تجربتها، مع ذلك، تعثَّرت و إنطوت لأسبابٍ سنتعرّضُ لها لاحقاً. لكنّنا نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ وُجود الحزب على النطاق الوطني العام، كان همَّاً باكراً و مُلِحَّاً من هموم قيادته. و في المؤتمر الثالث في فبراير 1956 كان الشِّعار الأساسي الذي خرج به الشيوعيون هو "تحويل الحزب الى قوة إجتماعية كُبرى" قوّة تؤثِّر ثأثيراً بارزاً على منحَى تطوُّر السودان، و تُساهم في تعزيز الديمقراطية، و تعطي الاستقلال أبعاده الإجتماعية و الإقتصادية. و تابعت اللجنة المركزية نفس القضية في دورتها في يناير 1963، إذ نادت بوضع الترتيبات اللاّزمة لتأهيل الحزب لاستقبال التطوُّرات المرتقبة في الحياة السياسية بعد نشوب المعارك الجماهيرية ضد النظام الدكتاتوري العسكري، و ظهور بوادر إنهيار ذلك النظام. و قد شهِدتْ هذه الفترة عُدّة خطوات؛ منها: مشروع تكوين الحزب الإشتراكي، لتوحيد قُوى اليسار و التقدُّم، و هو ما عُرِفَ في تاريخ الحزب بالإتجاه اليميني، و تمّ التراجع عنه بإعتباره تذويباً عمليّاً للحزب الشيوعي. و كان من المهام الأساسية التى ركَّز عليها المؤتمر الرابع للحزب، هيَ : "تحويل الحزب إلى قوّة جماهيرية تتصدّى لمَهام التغيير و التقدُّم". و عَبَّرت وثيقة المؤتمر "الماركسية
و قضايا الثورة السودانية" عن أهميّة هذه القضية في نضال الحزب بالعبارات التالية :-
"و عبرَ هذه السنوات و خلال ظروفها المختلفة، صعوداً و هبوطاً في حركة الجماهير الثورية، ظلَّ الحزب يستكشف الوسائل و الطُّرق المختلفة لِيُحَقِّق شعار المؤتمر الثالث لتحويل ذاته إلى قوَّة إجتماعية كُبرى. و إنّ كافّة مشاريع العمل بين الجماهير، و الصراع ضد الإتِّجاهات المنعزلة و الجامدة، كانت تستوحي ذلك الهدف".
واضح إذن من كلِّ مَا سَبَق، أنّ قضية تحويل الحزب إلى قوّة إجتماعية كُبرى، و إلى حزب جماهيري فاعل على النطاق الوطني، إحتلَّت مكانة جوهرية في أدبِه و في نشاطِه، و هذا أمرٌ مفهوم، لأنّ الحزب كان يضع نَصْبَ عينيه، و منذ البداية، قضية الوصول الى السُّلطة، و تغيير المجتمع وِفق برنامج متكامل يبدأ بمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية و ينتهي ببناء المجتمع الشيوعي.
إنّ الملامح العامة للصيغة التى وضعها الحزب ليتحوَّل عن طريقها إلى قوة إجتماعية كُبرى، و إلى حزب جماهيري على النطاق الوطني، يُمكن رسمها على النحو التالي :-
* تأهيل الحزب لنفسِه بترقية إلمامه بالماركسية اللينينية و التعامل معها كمُرشد للعمل، و ليس كنصوص جامدة أو أقوال مُقدّسة، و الاهتداء بها في دراسة المجتمع السوداني، و اكتشاف الصيغة المحددة و الخاصة لقوانين تطوُّرِه. و لا يتمُّ ذلك إلاّ بجذب خيرة المُثَقَّفين إلى صفوف الحزب، و إغناء حياته الداخلية و اتِّساعها للصراع الفكري الخَلاّق.
* تدعيم مواقع الحزب وسط الطبقة العاملة، و جعله الحزب الأوّل في صفوفها، من حيث النفوذ السياسي و الوجود التنظيمي. و البدء بجذبِ الطّلائع العمّالية إلى صفوف الحزب، و تدريبها، و رفع مقدرتها النضالية و القيادية، و تأهيل الطبقة العاملة نفسها خطوة إثرَ خطوة، لتحتلُّ الدور القيادي في المجتمع. ليس عن طريق الفرضِ و الإملاء، بل عن طريق الوعي و الإقتناع بالضرورة التاريخية التى تؤهِّلها وحدها لذلك الدّور.
* تمديد تنظيمات الحزب لتُغطِّي كل أنحاء الوطن. و ذلك بإعتماد أشكال تنظيمية مرِنة، تستجيب لمقتضيات التطور غير المتوازن للمجتمع السوداني؛ وخلق الكوادر الشيوعية المحلية التى لا تشعر نحوها الجماهير بالتعالي، كما يحدُث غالباً في حالة الكوادر المجلوبة من الحواضر و المُدُن.
* بناء الجبهة الوطنية الديمُقراطية، كحركةٍ جامعة، متعددة الأشكال و الصُّوَر، لِتُعبِّرَ عن تحالف العمّال و المزارعين و المثقفين و الرأسمالية الوطنية.
و لِتُنجِز مهام الثورة الوطنية الديمُقراطية. و تفتح الآفاق للتطوُّر الإشتراكي، و تحتلُّ الطبقة العاملة المكان القيادي في الجبهة الوطنية الديمُقراطية (قيادة هذه القُوى، تكمُن بين جماهير الطبقة العاملة) كما جاء في وثيقة الماركسية
و قضايا الثورة السودانية. و يحتلّ الحزب الشيوعي المكان القيادي وسط الطبقة العاملة. و يصبح دور الحزب، بالتالي، في قيادة الدولة و المجتمع واضحاً. فما دامت قيادة الطبقة العاملة للتحالف تتخطَّى مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، لِتشمل المرحلة الإشتراكية، بل المراحل الأولى لبناء المجتمع الشيوعي، فإنّ المشروع المتكامل للحزب الشيوعي بأبعاده السياسية، الإجتماعية، و الثقافية، يكون واضحاً هوَ الآخر.
و يُمكِننا عند هذه النقطة أن نتساءل :
هل حقَّق الحزب الشيوعي شعاره الأساسي في التحوُّل إلى قوة إجتماعية كُبرى، و إلى حزبٍ جماهيري مؤثِّر و فعَّال على النطاق الوطني؟؟
و لا نتردّد في الإجابة بالنَّفي.
لقد فشلَ الحزب في تحقيق ذلك الشعار بالصورة التى تصوَّرها مؤسِّسوه، و بالكيفية التى تؤهِّله ليطمح طموحاً عقلانيّاً في الاستيلاء على السُلطة و تنفيذ البرنامج المُشار إليه. لقد ذكرتْ وثائق الحزب في تقييم الأداء الحِزبي، عند التحضير لثورة أكتوبر، أنّ عدد أعضائه لم يكن يتعدّى بضع مئات و هوَ يواجه الأحزاب السياسية. و هذا نفسه يُمكن أن يُقال عن الحزب بعد إحدى و عشرين سنة، و هو يواجه إنتفاضة أبريل؛ كما يُمكن أن يُقال عنه حالياً، و هو يُصارع الدكتاتورية العسكرية الثالثة. و قد حكى لي أحد قادة الحزب، أنّه مرّت عليهم لحظات أثناء دكتاتورية نميري، كانوا يشعرون فيها أنّ وجود الحزب يتمثّل فقط في وجود الأعضاء الخمسة لسكرتارية اللجنة المركزية ! ليست في حالة نشاط مشترك، بل كلٍّ على حِدة !! و إذا كان ذلك يُعبِّر عن الصلابة و قوة الإرادة و الإستماتة في التمسُّك
و الدفاع عن وجود الحزب، فهو يُعبِّر في نفس الوقت عن انكماش الحزب
و تحوُّله في ذهن ذلك الشخص القيادي إلى قبضة يد واحدة. و يُعبِّر بعض القادة حالياً عن إستهانة ظاهرة بأنّ عشرات الآلاف من أعضاء الحزب قد تركوا صفوفه أو جمَّدوا نشاطهم أو خَفَّضوه. و لا نحتاج إلى القول أنّ حزباً بهذا الحجم، لا يُمكن أن تُساوره الآمال بتغطية السّاحة الوطنية ؛ خاصّة إذا كانت مُتَّسِعة، و متنوِّعة، إتِّساع و تنوُّع السودان.
إنّ أهمّ الأسباب التى أعاقت نمو الحزب وحالتْ بينه وبين صيرورته قوّة إجتماعية كُبرى، و حِزباً جماهيريا على النطاق الوطني - في اعتقادنا - هي التالية :-
** القمع الشّرس الذي وُوجِه به الحزب منذ تأسيسه و حتى اليوم. فَطِوال سبعة وأربعين عاماً، لم ينعم الحزب بوجود قانوني إلاّ لخمسة أعوام تقريباً. و لم تكتَفِ الحكومات العسكرية طوال سبعة وعشرين عاما بالقمع القانوني، بل استخدمت ضدّه العنف دون تردُّد، و باستمرار. و إذا كانت الأحزاب الأخرى قد تعرَّضت أثناء الدكتاتورية العسكرية للقمع القانوني، و العنف أحياناً، فإنّ نصيبها من ذلك لا يُمكن أن يُقارَن بما وقَعَ على الحزب الشيوعي، سواء بالإعتبارات النسبيَّة أو المُطلقة. أمّا في فترة الإستعمار،
و في سنينه العشر الأخيرة، و فترات الحُكم الديمقراطي، فقد تَوجَّه القمع بأشكاله القانونية المختلفة أساساً، إلى الحزب الشيوعي. و إزاء هذا القمع الشرس و المتواصل، إضطرَّ الحزب الشيوعي إلى الحياة السِّرِّية المُطلقة و ما يُصاحبها من أمراض الحَلَقية و الإنكماش و الإحجام، و من الإنغلاق أمام الجديد و أمام الجماهير. و قد وَجَدتْ عناصر مؤثِّرة، كثيرة، أنّ الحياة السِّرِّية لا تُناسبها و لا تتَّسع لها. كما وجدت عناصر أخرى، أنّ الأبواب أمامها مُغلَقة.
** واقع تطوُّر بلادنا المُتَّسِم بكون القطاع الحديث الذي يمور بالنشاط
و الحيوية، قِطاعاً ضعيفاً نسبيَّاً، مع اتِّساع القطاع التقليدي الذي يضمُّ الأغلبية الساحقة للسكان، و يمثِّل قوة جذب هائلة إلى الوراء. و في مثل هذا الواقع، يكون من العسير بناء تنظيم وطني حديث يتخطَّى الإنتماءات القَبَلية و الطائفية و العِرقية و النِّزاعات الإقليمية.
** قيام الحزب على أساس الماركسية اللِّينينية، يتطلَّب من المرء ليكون عضواً من أعضائه، أن يتوصَّل لِتَبَنِّي موقف فلسفي متكامل من الوجود. موقف يصف نفسه بأنّه استوعب أعظم ما توصلت إليه البشرية في مجالات
و حقول العلم و الفلسفة و الاقتصاد و الاجتماع و الثقافة، و تخطاها تخطيا جدليا. إن مثل ذلك الانتماء لم يكن في متناول الأغلبية الساحقة من شعبنا، لا تاريخيا و لا معرفيا. و هو ليس في متناولها الآن أو في المستقبل المنظور.
و أنه لطموح غير عقلاني أن نحاول بناء حزب من الفلاسفة في مجتمع أمي.
** الموقف الفلسفي المادي للماركسية، و الذي لا يمكن التوفيق بينه و بين التصورات الدينية حول الكون و الخلق إلا بمعجزة، قد سهل مهمة أعدائه في إنشاء حائط أصم بينه و بين أغلبية الشعب. إن تركيز القوى التقليدية
و الرجعية، بمكر و خبث على هذا الجانب، قد وضع عقبات كئود بين الحزب
و الجماهير، و ذلك في وسط اجتماعي يمثل الدين نسيجه المعرفي، و القيمي و الأخلاقي، و قد تعرض الحزب لحملات بالغة العنف و الفظاظة، اعتمدت على الترويج الخبيث لمواقف عملية مزعومة، يقفها ضد الدين، و قد تصدى الحزب بفعالية لا تنكر في التصدي لتلك الحملات، و لكن المأساة التي صاغها التاريخ، و طوق بها الحزب، هي أن الأغلبية الساحقة من الجماهير كانت تقف خارج دائرة البث الفعال التي يغطيها الحزب بأقواله و أفعاله، سواء بفعل الأمية السياسية و الثقافية، أو العزلة الجغرافية، أو محدودية أداة البث ذاتها. هذا في الوقت الذي كان خطاب القوى الرجعية واصلا لكل أقسام الجماهير، ولكل أنحاء القطر. و تستطيع أن تقول أن جيل المؤسسين و على رأسهم عبد الخالق محجوب، كان واعيا تماما بهذا الضعف الخطير في صلة الحزب بوطنه، و بشعبه، و بواقعه. و قد أشار عبد الخالق محجوب في حسرة، إلى أن الحزب ما يزال غريبا فكريا عن المجتمع، إذا كان في استطاعة القوى الرجعية أن تحاصره و تحله بالاستناد إلى حادثة مشبوهة، كحادثة معهد المعلمين العالي عام 1965، و التي فجرها طالب صغير، باع نفسه و ضميره،
و استغلتها قوى لم تتعامل مع الدين إلا كذريعة لتحقيق مرام سياسية
و معادية للديمقراطية و التقدم.
** تضاف إلى شمولية الانتماء الفلسفي، شمولية الموقف و البرنامج السياسي، و قد تمثل ذلك في برنامج الحزب الذي يغطي ثلاث مراحل، ويطرحها جميعا للتنفيذ، و هي مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، ثم الاشتراكية، فالشيوعية. و قد جاء ذلك في برنامج الحزب حيث قال "إن الحزب الشيوعي بطبيعته هذه، يهدف إلى تغيير المجتمع السوداني بإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية، و السير بالبلاد نحو الاشتراكية فالشيوعية".
و لا ينظر الحزب إلى مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية و المطروحة للإنجاز تلك، إلا كمرحلة إعداد للاشتراكية، وهي بالتالي مرتبطة بتلك المرحلة و مفضية إليها. بل إن كثيرا من المهام الأساسية لهذه المرحلة لا يمكن فهمها إلا في إطار الانتقال اللاحق الى الاشتراكية. فقيادة الطبقة العاملة لمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية تمليها ضرورة الانتقال الحاسم إلى الاشتراكية، كما أن الاشتراكية نفسها ليست سوى تحضير طويل للمجتمع الشيوعي، الذي تمثل هي مرحلته الدنيا.
برنامج الحزب، إذن، وثيقة مترابطة، متكاملة. إنه حلقات يمسك بعضها برقاب بعض. و لذلك فإن الشخص الراغب في نيل عضوية الحزب مطالب بتبني مشروع سياسي متكامل، يغطي الحاضر، و كل المستقبل، و يسعى نحو إقامة نظام اجتماعي، ليس لهذا الجيل وحده، و لا للجيل الذي يليه، بل للمجتمع الإنساني ككل، منذ اللحظة الحاضرة، و إلى الأبد. و إذا وضعنا في الاعتبار طبيعة قانون التطور الاجتماعي، فان مثل هذا المشروع لا يمكن أن يوصف بأنه مشروع علمي، و هذا ما ناقشناه في الورقة الأولى. و لكن الذي يهمنا هنا على وجه التحديد هو أن ترابط حلقات برنامج الحزب الشيوعي، يجعل من العسير جدا على المرء، أن يختار حلقة دون الحلقتين الأخريين، فإذا كان مقتنعا مثلا ببرنامج الحزب في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، أو ببعض القضايا الأساسية في ذلك البرنامج، أي أنه يلتقي مع الحزب في مرحلة تاريخية متكاملة، فانه سيحجم عن التقدم لعضوية الحزب لأنه لا يستطيع أن يعرّف نفسه تعريفا شيوعيا يقتضي منه أكثر من ذلك بكثير. و قد رأينا كيف كان الحزب في غير متناول جماهير القطاع التقليدي، و ها نحن نرى كيف صار الحزب بطبيعة برنامجه هذا في غير متناول أقسام واسعة من جماهير القطاع الحديث نفسه، و باستطاعة الحزب أن يكون في متناول هذه الجماهير لو اقتصر في خطابه على مرحلة تاريخية واحدة، يراها و يدركها،
و تراها و تدركها معه الجماهير الواسعة، و تنخرط على هذا الأساس في النضال من أجل تحقيقها، و ما دامت هذه المرحلة في اتجاه التطور التاريخي العام، فإن الأجيال القادمة، و التي تصاغ المشاريع الشمولية من أجلها، لن تخسر شيئا، بل ستتسلم الراية من نقطة متقدمة، و لن يخسر المستقبل الإنساني شيئا، بل سيكف عن الضغط بثقله على الحاضر، مفَتتا بعده قوى التقدم الماثلة، التي تؤدي اختلافاتها حوله على حجب اتفاقها حول واجبات الحاضر، و عرقلة وحدتها لإنجاز هذه الواجبات. و من الواضح أن خدمة المستقبل الإنساني ككل لا تتم إلا بالتعامل معه في نسبيته، و ليس في إطلاقه، و رسم أهداف قريبة، مرئية بوضوح، و قابلة للتحقيق، و عندما يتم تحقيقها فإنها تتحول إلى نقطة انطلاق جديدة لأهداف أبعد، تحققها أجيال لاحقة.
طرح الحزب الشيوعي نفسه للمجتمع السوداني باعتباره حزب الطبقة العاملة. يعبر عن مصالحها أولا و قبل كل شيء، و يجعل تلك المصالح البعيدة
و القريبة، معيارا لصحة المواقف و سداد السياسات، و يتوجه إليها بكل جهده و اهتمامه لتوعيتها برسالتها التاريخية، و إعدادها لقيادة المجتمع. و هذا لم يمنعه بالطبع من التوجه إلى الطبقات و الفئات الأخرى من مثقفين و مزارعين و برجوازية صغيرة ووطنية. و لكنه كان يطلب من أبناء تلك الطبقات، الذين يَلِجُون صفوفه، أن يتخلوا عن التعبير عن مصالح طبقاتهم، و الانحياز بالكامل لمصالح الطبقة العاملة. و هم بالتالي لا يَلِجُون أبوابه إلا بمقدار إيمانهم بعدم مشروعية مصالح الطبقات التي ينتمون إليها. أو على الأقل على قدر إيمانهم بأن مصالح طبقاتهم تلك، ليست سوى مصالح عابرة سيتخطاها التاريخ في نهاية المطاف، و بالطبع فإن تخلي المرء عن مصالحه الخاصة أو الطبقية، حتى و لو على نطاق المستوى النظري الخالص، أمر ينطوي على الكثير من النبل، و لكنه في الحقيقة لا يجذب سوى أقلية ضئيلة من أبناء تلك الطبقات.
و يصدق هذا خاصة في ظل أوضاع لا "تنحاز" فيها الطبقة العاملة نفسها إلى "فكرها و مصالحها"! و ربما كانت مقولة الانحياز إلى فكر و مصالح الطبقة العاملة ستكتسب أبعادا هامة لو أن التاريخ صدَّق النبوءة الماركسية الأساسية حول الاستقطاب الاجتماعي الشامل بين البروليتاريا من جانب،
و البرجوازية من الجانب الآخر. ذلك الاستقطاب، الذي لا تجد إزاءه الطبقات الوسيطة سوى الانحياز إلى هذا الجانب أو ذاك، مع غلبة تيار المنحازين الى البروليتاريا، لأن خلاص المجتمع سيتم على يديها، و لأن البرجوازية تعاني حينها سكرات الموت. و للأسف الشديد فإن التطور الاجتماعي لم يسر في تلك الوجهة. بل حدث العكس تقريبا. فقد تنامت الطبقات الوسطى على حساب البروليتاريا أساسا، و على حساب البرجوازية كذلك، و أصبحت تشكل الأغلبية الساحقة في كل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. و بانتصار الثورة العلمية التكنولوجية في تلك المجتمعات حدثت تطورات عاصفة حوَّلت البروليتاريا -أي الطبقة العاملة الصناعية- إلى قوة هامشية تتراوح بين 10
و 15% من مجموع السكان. و تحول إنتاج الثروة القومية بصورة حاسمة من اليد إلى الدماغ. و أصبحت المعرفة و المعلومة و الفكرة، و التصميمات الذهنية، هي أداة الإنتاج الأساسية. و هذه تمتلكها الطبقات الجديدة، والفئات الجديدة، التي ولدتها الثورة العلمية التكنولوجية. و قد أصبحت هذه الفئات و الطبقات هي المنتجة الأساسية للثروة، و أصبحت هي الوحيدة القادرة على قيادة المجتمع. لقد تضاءل دور البروليتاريا و جاء عهد "الكومنتاريا" كما سماها ألفن توفلر في كتابه (power shift)، التي تمتلك وسائل إنتاجها بامتلاكها للمعرفة، و هي أدوات إنتاج لا تستطيع البرجوازية نفسها أن تجردها منها، و هذه ظاهرة جديدة لم يعرفها ماركس و لم ينظّر لها.
إن كل الدلائل تشير إلى أن وجهة التطور التاريخي ستحكم على البروليتاريا بالاضمحلال المستمر. ومن الناحية الأخرى فإن العملية الإنتاجية في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، وبفضل نضال المنتجين، وبفضل المساومة التاريخية التي ارتضتها البرجوازية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت أكثر ديمقراطية لاشتراك العاملين أنفسهم في رسم أهدافها بهذا القدر أو ذاك، وباستقلال الإدارة النسبي عن ملكية وسائل الإنتاج، و باشتراك أعداد متزايدة في ملكية وسائل الإنتاج نفسها، وإن بأقدار متفاوتة. وقد كان هذا جزء من عملية شاملة توسعت فيها الديمقراطية لتشمل جل خلايا المجتمع. و قد ترسخت الحقوق والضمانات الاجتماعية. و بالرغم من أن ملكية وسائل الإنتاج ظلت مطلقة من الناحية القانونية، إلا أنها قد أحيطت بقيود اجتماعية كثيرة من الناحية الفعلية. و قد تم كل ذلك على حساب البرجوازية. على حساب سيادتها المطلقة على المجتمع، و تحديدها القاطع التام لأهداف العملية الإنتاجية.
هذه الظواهر كلها محصورة الآن في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. وربما تغري هذا الحقيقة البعض ليزعموا أنها لا تخصنا في مجتمعات العالم الثالث المتخلفة. ولكن مثل هذا الزعم سيكون خاطئا. فالذي حكم باضمحلال البروليتاريا في المجتمعات الصناعية المتقدمة سيحكم باضمحلالها أيضا في بلداننا ومجتمعاتنا، عندما تأخذ بأسباب التقدم على أساس منجزات الثورة العلمية التكنولوجية المعاصرة، وليس على أساس معطيات الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، و هي معطيات عفى عليها الزمن. وليس مكتوبا على مجتمعاتنا أن تترسم خطى المجتمعات المتقدمة، وقع الحافر على الحافر، بل يمكنها، ويتوجب عليها، أن تحوِّل الفارق الزمني والحضاري إلى صالحها، فتقطع بالطائرة المسافات التي قطعتها تلك المجتمعات بالقطار. و هذا لا يتأتى إلا بتخطي مرحلة الصناعة التقليدية التي ربطت إنتاج القيمة الزائدة بالإنتاج اليدوي أساسا، و الاتجاه إلى التغليب التدريجي للإنتاج الفكري المستند على المعرفة و المعلومة والوسائل التكنولوجية الحديثة.
إن مآلات و مصائر الطبقة العاملة هامة جدا بالنسبة لحزب كحزبنا. فمشروع حزبنا قائم بجوهره على صيرورة الطبقة العاملة، القوة الأساسية القائدة في المجتمع. و هذا الموقع لن يتحقق لها إلا إذا صارت المنتج الأساسي لثروة المجتمع، وتحققت لها الغلبة العددية. و لكن هذه الأهداف التي هي أهدافنا لم تعد أهدافا للتاريخ. فقد كف التأريخ عن السير في هذا الاتجاه.
إن كل هذه المعطيات تجبرنا على النزول على أرض الواقع، وتحملنا على الكف عن التعامل مع الطبقة العاملة كمقولة ذهنية خيالية، و كمستودع خيالي لكل ما هو خير و نبيل، والتعامل معها كما هي في الواقع، دون مديح كاذب أو هجاء مغرض، دون أنوار باهرة أو ظلال قاتمة، و تحدِّد مكانها ومكانتها، وفق معطيات موضوعية، ومقدمات حقيقية، فالطبقة العاملة جزء من المنتجين، ولكنه ليس الجزء الأساسي. ومع أخذ المجتمعات بمنجزات الثورة العلمية التكنولوجية ستتأكد هذه الحقيقة اكثر فأكثر والطبقة العاملة في بلادنا ضئيلة الوزن بالقياس إلى مجموع السكان و هي محصورة في قطاع حديث محدود و هي غير نقية في تكوينها الطبقي، لأن عددا كبيرا من أبنائها يجمع في الانخراط بين العمل المأجور و الاحتفاظ بالملكية الصغيرة، كما أن جزءا كبيرا من العمال ينضم إليها في هذا الموسم ويهجرها في الموسم الذي يليه. ومعنى ذلك أن موقعها في الإنتاج ليس المحدد الوحيد لأيديولوجيتها، هذا إذا كان الموقع في الإنتاج محددا وحيدا لأيديولوجية الطبقات، و هو قول بعيد جدا عن الحقيقة. و من هنا يصعب الحديث عن أيديولوجية للطبقة العاملة السودانية إلا إذا تعاطينا مع التلفيق، وحددنا بصورة مسبقة و تحَكْمية، أن الماركسية اللينينية هي تلك الأيديولوجية و على الطبقة العاملة أن تتبناها رغم أنفها وفي هذه الحالة لا يكون هناك أي فرق بين أن تتبنى هذه الأيديولوجية أو ترفضها، لأننا لم نضع أي اعتبار لهذا القبول أو الرفض، في وصف الماركسية بأنها أيديولوجية الطبقة العاملة. ونحن قد فعلنا ذلك وما زلنا نفعله، و لكن الوصاية المبثوثة في هذا القول لم تعد محتملة اليوم. فالوعي الديمقراطي قد تنامَى بصورة تجعل مثل هذه الادعاءات فادحة الثمن على المروجين لها.
يضاف إلى ذلك التناقض الأساسي في بلادنا و في بلدان العالم الثالث على وجه العموم ( و الذي أصبح اليوم عالما ثانيا) ليس هو التناقض بين الطبقة العاملة و البرجوازية، بل هو التناقض بين المجتمع ككل و الشرائح الطفيلية السائدة و الحاكمة ؛ بين المجتمع ككل و التخلف؛ بين المجتمع ككل ودوائر الاستغلال الإمبريالي. و ستشترك مختلف الفئات و الطبقات بأدوار متفاوتة في المعركة الطويلة و الشرسة ضد الفئات الطفيلية الحاكمة و السائدة، أو تلك التي يولدها باستمرار تطور المجتمع، و ضد التخلف، و ضد الاستغلال الإمبريالي. و ستلعب الطبقة العاملة دورها في تلك المعركة، و لكن ذك الدور لن يكون الأساسي في الغالب، و ذلك بحكم وزنها السياسي و الاقتصادي
و الثقافي.
و البشري. وغالبا ما يذهب الدور الأساسي بصورة تدريجية، ولكنها مؤكدة
و وطيدة، إلى الفئات المرتبطة بالثورة العلمية التكنولوجية من المثقفين والفنيين والتقنيين والطلاب. وسيكون محتوى هذه العملية كلها محتوى ديمقراطيا عميقا، على كل المستويات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية،
و سيكون أعداؤها الأساسيون هم دعاة الدكتاتورية بكل صورة وأشكالها، بما في ذلك دعاة "دكتاتورية البروليتاريا". إن أحدا لا يمكن أن ينكر الدور الهام الذي ستلعبه الطبقة العاملة في تطور المجتمع وترسيخ الديمقراطية، وهي لها إرث مجيد في ذلك. و لكن الزعم بأنها وحدها تملك المفاتيح السحرية للأبواب المفضية إلى التحرر الإنساني الشامل، زعم لم يؤكده الواقع، و لم يشهد له التأريخ.
إن أزمة المشروع الماركسي تتمثل في هذه النقطة بالذات. فقد راهن هذا المشروع على حصان بدأ جامحا و لكنه أصيب بالوهن في منتصف الطريق.
و لعله سيكون من المفيد أن نتذكر أن تعلق ماركس بالبروليتاريا كان في أساسه تعلقا رومانسيا، لفتى لم يتعد العشرين إلا قليلا عندما كان يبحث عن العدالة المطلقة، فاستعار دون أن يعي مفهوم المسيح المخلص، و أصبغه على طبقة أثارت شفقته، واستفز شقاؤها حسّه العميق بالعدالة. وقد ظل ماركس في سن نضجه وشيخوخته، أمينا أمانة مدهشة، لمشروع كان قد صاغه في صباه. إن الذي يقرأ نصوصه حول العمال الفرنسيين، والعمال المهاجرين الألمان "الذين يشع النبل من أجسادهم" سيدرك بسهولة ما يرمي إليه. وإن المطّلع على أعمال ماركس لن يجد في ترشيحه للبروليتاريا لقيادة التأريخ الإنساني سوى أسباب واهية.
إن الحزب الشيوعي السوداني قد بذل جهدا كبيرا ومتصلا لتأكيد هويته "البروليتارية"، "وترقية" تكوينه البروليتاري، وقاد ذلك، في نظرنا، إلى سيادة اهتمامات ضيقة، وغذى روح الانتظار الحالم لتلك اللحظة التي تنمو وتنضج وتسود فيها الطبقة العاملة. وقاد ذلك إلى غربة الشيوعيين عن واقعهم غير البروليتاري أساسا، فأعرضوا عن الانخراط اليومي الحميم في معركة الواقع وتوجيهه وفق منطقه الخاص وليس وفق تصورات ذهنية غير واقعية. وقد أدى البحث عن "الهوية البروليتارية" إلى نشوء عدم الحساسية تجاه الفئات والطبقات الأخرى، وأنشأ جدارا من الاستعلاء والغربة بين الحزب وبين العناصر الراغبة في الانضمام إليه من تلك الفئات والطبقات. وقد تأثر المثقفون خاصة بهذه الاتجاهات. كما أن النقاء البروليتاري قد تطابق في كثير من الأحيان مع التعصب و الحمية، واحتقار الرأي الآخر، وقمعه، باعتباره يمثل "فكرا غريبا" عن أيديولوجية الطبقة العاملة. لقد كانت هذه التهمة فادحة بالفعل، فالتعبير عن "أفكار غريبة" يعني الوكالة الفكرية عن طبقات أخرى، وتمثيل مصالحها، غير المشروعة، داخل الحزب، وهو عمل يمكن أن يوصم بالخيانة. وفي حالة براءة الشخص من تهمة الخيانة فإنه في هذه الحالة لن يكون بريئا من الجهل، ولا من عدم نضوج الانتماء البروليتاري. وتكون مجهوداته السابقة كلها في "التثقيف الماركسي" قد ضاعت هباء.
إن الجو الفكري الخانق في الحزب الشيوعي، والخوف الشديد من أي خلاف في الرأي، والإحجام عن التعبير عن أية أفكار غير مألوفة، وغير مقبولة للقيادة، والإحجام حتى عن استخدام مفردات لغوية جديدة، ومحاربة بروز خطاب خاص لأي عضو من أعضاء الحزب، إذ يشجع الجميع على التحدث بنفس اللغة، ترجع أسبابه إلى هذا الخطر الماثل المتعلق بالخروج من ملة البروليتاريا. وهذا الخوف يشمل البروليتاريين أنفسهم داخل الحزب. فالخيانة الطبقية تشمل أيضا خيانة الذات.
وللتحلل من هذا العبء الفادح، والخوف المقيم، تُركت مسألة التعبير عن أيديولوجية البروليتاريا لقساوسة أيديولوجيين، لمفوضين من طراز سوسلوف. وقد أدى هذا إلى خنق الفكر داخل الأحزاب الشيوعية، وتفريخ روبوتات بدلا من أفراد. وربما لا يكون هذا قد تحقق بكامله في جميع الأحزاب. ولكنه اتجاه قوي لا يستطيع أن ينكره أحد
‪.4 المركزية "الديمقراطية"... داء الحزب العضال
العوامل التي عددناها، والتي أعاقت نمو الحزب، ذات طابع خارجي، برّاني، أي أنها تختص أساسا بعلاقة الحزب بالمجتمع، أو الطبقات أو الفئات المختلفة. ولكن ثمة عقبة ذاتية، داخل الحزب ذاته، تعيق نموه وتحبط تطوره.
و هي تتمثل في المبدأ التنظيمي الذي يحكم حياته الداخلية و المسمى المركزية "الديمقراطية". فسيادة هذا المبدأ هي المسؤولة عن عقم حياة الحزب الداخلية، و ضيقه بالخلاف في الرأي، و تبرمه باستقلال الفرد و نمو شخصيته المستقلة، و توخيه للطاعة المطلقة في كوادره و اعتبارها شرطا أساسيا للترقي الحزبي. و هي المسؤولة عن ظهور الشيخوخة المبكرة في هيئات الحزب القيادية.
و على كثرة ما قيل في هذا المبدأ من مدائح، و ما دُبٍّج في الدفاع عنه من مقالات و كتب، فإن الحجج التي تسنده لا تخرج عن اثنين:
1. 1- ضمان وحدة الحزب و الوقوف في وجه أية محاولات تكتلية أو انقسامية، و سحقها في مهدها.
2. 2- إقامة نظام طاعة حديدي يزعم أنه يرتفع بفعالية الحزب إلى الدرجة القصوى.
و إذا افترضنا أن مبدأ "المركزية الديمقراطية" يؤدي بالفعل إلى تحقيق هذين الهدفين، فإنه يحققهما، في رأينا، بثمن فادح يٌملي علينا الإقلاع عن تبني هذا المبدأ، و نبدأ بتمييز أساسي، ربما لا يوافق عليه البعض، و هو أن هذا المبدأ لينيني و ليس ماركسيا، فقد أملاه في رأينا واقع القمع القيصري الفظيع، و واقع الإمبراطورية الروسية المترامية الأطراف،
و مستوى الثقافة التنظيمية التي كانت سائدة في تلك السنوات الباكرة من القرن العشرين. في تلك الظروف كان واجبا على الحزب الثوري، لكي يكون موجودا، و لكي يكون فعالا، أن يقوم على المركزية الصارمة، و ربما المطلقة. و أن يستند على حكمة و رجاحة عقل القيادة، بل عبقريتها إذا شئت، في رسم كل سياساته و تحديد كل خطواته. و ربما يجد البعض تبريرا كافيا للقول بأن الحزب البلشفي، لو لم يكن قائما على هذه المركزية الصارمة لما نجح في استلام السلطة. و ذلك من واقع التأريخ الرسمي للحزب. و لكن الباحث المدقق سيعثر على حقيقة مدهشة، و هي أن الحزب البلشفي لم ينتصر إلا بتكسيره الحازم لمبدأ المركزية المطلقة. و هذا أمر سنعالجه في موضع آخر.
المهم أننا لو سلّمنا جدلا بأن المركزية المطلقة كان لها ما يبررها في بداية القرن، في بلاد مثل روسيا، فإنها حاليا قد فقدت أي مبرر تأريخي. و يبدو لنا أن الذي فكّر في الجمع بين المركزية و الديمقراطية قد اتخذ الأول كنقطة انطلاق وأضاف إليها الثانية كمسوغ لقبولها ليس غير. و ذلك لسبب بسيط و هو أن الديمقراطية تحتوي على مركزيتها الخاصة. فخضوع الأقلية لرأي الأغلبية مبدأ ديمقراطي معروف، يضمن وحدة المنظمة المعنية، و يجسد إرادتها. يضاف إليه مبدأ التمثيل "Representation" الذي يؤدي نفس المهمة على المستويات الأعلى فالأعلى. و تُكمل البناء الديمقراطي،
و ترتقي بالفعالية الحزبية، مبادئ أخرى صاغها الفكر السياسي الديمقراطي عبر القرون. مثل التوزيع الأفقي للسلطة الحزبية، التخصص، الاعتبارات الفئوية و الجغرافية، العرقية والقومية، المؤتمرات المنتظمة للصحافة الحزبية... الخ.
و بما تشيعه الديمقراطية الحزبية من رضى عام وسط الحزب وهيئاته، فإنها ترفع فعاليته إلى الحد الأقصى. وهكذا فإن وحدة الحزب و فعاليته يمكن ضمانها باعتماد الديموقراطية وحدها كمبدأ تنظيمي. و لكن هذه الديمقراطية المكتفية بذاتها عندما تُلحق كرديف ثانوي لمركب "المركزية الديمقراطية" و تُستخدم كمسوّغ لقبول المركزية المطلقة، و كطلاء سُكّري لجرعتها المريرة، فإن نهايتها تكون قد حلّت. و بالفعل فإن ممارسة الأحزاب الشيوعية تشهد أن الديمقراطية قد تمت التضحية بها على الدوام، لصالح مخدومتها المُبَجّلة: المركزية المطلقة. فعلى مستوى الحزب، صارت القيادات الحزبية العليا تفرض هيمنتها على كل عضويتها، و تحتفظ لنفسها بسلطات تظل تتسع باستمرار، و تتطور في أثناء ذلك آليات تنظيمية تسحق كل نزعة مستقلة.
و على مستوى الطبقة العاملة، و بفضل نفس المبدأ، تحولت المؤسسات التي أنشأتها لخدمتها إلى مؤسسات سيدة، و متعالية عليها. و على مستوى المجتمع ككل، صارت السياسات البيروقراطية المتنزلة من سماوات السلطة أوامر إلهية لا تقبل الأخذ والرد.
إن النغمة السائدة حاليا هي إرجاع كل الشرور العظيمة، والجرائم المرعبة التي ارتكبت أثناء عقود التجربة الاشتراكية التي سقطت، إرجاعها إلى الظاهرة الستالينية دون توضيح حقيقة أن الظاهرة الستالينينة نفسها هي الابنة الشرعية للمركزية الديمقراطية. فعن طريق مبدأ الطغيان القيادي، صعد جوزيف ستالين، إلى السكرتارية المركزية للحزب الشيوعي، ولم يكن في مقدور مؤسس الحزب نفسه، فلاديمير ايليتش أن يزيحه من موقعه ذاك رغم محاولاته المستميتة، و "تآمره" مع مجموعة تروتسكي، وتحضيره لقضية شيوعي جورجيا الذين اضطهدهم ستالين، لتفجيرها داخل المؤتمر. لم يفلح في ذلك لأنه كان بفعل المرض قد فقد السلطة الحزبية. و عندما حدث ذلك فإن العبقرية السياسية، و النفوذ المعنوي الهائل، لم تعد تجدي فتيلا. وهذا هو أسطع مثال على أن المركزية "الديمقراطية" هي مبدأ الحماية المطلقة للقيادة في مواجهة قاعدتها بالذات. فعندما تصل القيادة إلى مراكزها السماوية عن طريق آليات المركزية "الديمقراطية"، فإن شيئا أقل من زلزال لن يزيحها من أماكنها. هذا مع الاعتبار الكافي لكون ممثليها كأفراد يمكن أن يزاحوا عن طريق الموت أو العجز الكلي، أو التآمر!
و حتى لا نُتّهم بالتحامل على المركزية "الديمقراطية" دعونا نأخذها في صورتها المثالية، و نفرض أن التنظيم القائم على أساسها قد طبقها تطبيقا كاملا. فهيئاته من القاعدة إلى القمة هيئات منتخبة، ويسود فيها مبدأ خضوع الأقلية لرأي الأغلبية، وتخضع الهيئات الدنيا للعليا، و تعقد مؤتمرات الحزب بصورة منتظمة، وتقرر برامجه ولوائحه في هذه المؤتمرات، وتصدر مجلاته الداخلية تحمل الآراء المختلفة و المتصارعة لأعضائه،
و تصدر مجلاته و صحفه الجماهيرية لتحمل تصوراته الموَحَّدة إلى الشعب، هل ينتفي حينها طغيان القيادة و استئثارها بصلاحيات شبه مطلقة؟
أعتقد أن الإجابة بالنفي. و ذلك لسبب محدد هو أن إجراءات انتخاب اللجنة المركزية، و كل الهيئات القيادية التابعة لها هي إجراءات غير ديمقراطية. فاللجنة المركزية السابقة، أو مكتبها السياسي بالأحرى، هي التي تقدم قائمة الترشيحات للجنة المركزية الجديدة. و ما دامت هي القائمة الوحيدة فإنها ستفوز في جميع الحالات، و في ضوء القانون اللائحي بمنع التكتل و الاتصالات الجانبية، فإنه يستحيل عمليا تبلور أية مجموعة، بمعزل عن المجموعة القائدة، تستطيع أن تقدم قائمة بديلة، و يبقى من حق الأفراد، إذا احتملوا الهمهمات الساخرة و النظرات القاسية، أن يتقدموا بترشيحات فردية، و حظها من النجاح يكاد يكون صفرا.
و لكن حتى إذا فازت فإنها لا تؤثر على تركيبة القيادة، و لا يبقى أمام المعارضين للترشيحات الجديدة سوى الامتناع عن التصويت، و هو حق العاجز، الذي لا يقدم و لا يؤخر و بمجرد انتخاب اللجنة المركزية فإن هيئات الحزب القيادية كلها يكون أمرها قد حسم. و اللجنة المركزية،
و المكتب السياسي، و الهيئات المحيطة بهما، هي التي تحدد سياسات الحزب، و مواقفه العملية، و هي التي تحكمه حكما صارما.
و يتم التركيز دائما على أن إجازة البرنامج السياسي هي الأمر الأهم.
و أن العضوية عندما تجيز ذلك البرنامج فإنما ترسم للقيادة اتجاهها،
و تحدد لها دورها. و هذا صحيح نظريا. و لكن عمومية البرنامج نفسه، تسمح بسياسات و تفسيرات متعددة، و ربما متناقضة. و لذلك لا يمكن الاحتجاج به. و ما يقال عن الوحدة حول البرنامج، يقال بصحة أكثر حول الأيديولوجية.
إن المركزية الديمقراطية تنادي بحق الأقلية في الاحتفاظ برأيها و الدعوة إليه من داخل المنابر الحزبية، و لكنها في واقع الأمر تجعل وجود أقلية داخل الحزب أمرا مستحيلا، فتكوين أقلية حزبية يقع مباشرة تحت طائلة المبدأ اللائحي القائل بتحريم التكتل و الاتصالات الجانبية، و لا توجد الأقلية بالتالي إلا كأفراد منعزلين، لا يلتقون إلا كمتآمرين. وذلك هو السر في أن الأقليات لا تتكون داخل الحزب الشيوعي إلا عشية الانقسام،
و تشهد على ذلك ظاهرة المناشفة و البلاشفة في روسيا، و المجموعات التي ظلت تنسلخ على الدوام من الأحزاب الشيوعية على طول الدنيا وعرضها. إن الحديث عن إمكانية وجود أقلية داخل إطار المركزية "الديمقراطية" ليست سوى واحدة من إستهبالات الفكر السياسي
و التنظيمي الأكثر مرارة و الأكثر إثارة للهزء. و إذا كانت الأقلية لا توجد داخل الحزب، فإن الرأي الآخر لا يوجد بالتالي، بالنسبة للمجتمع، حيث يفترض أن يعبر عضو الحزب عن رأي الحزب بصرف النظر عن وجهة نظره الشخصية.
و عندما تستند القيادة إلى مبدأ خضوع الهيئات الدنيا للهيئات العليا فإنها ستتمكن من فرض رأيها على مجموع الحزب حتى إذا كانت كل الهيئات الدنيا تعارض هذا الرأي. و إذا كان هذا المبدأ هاما لفعالية أي تنظيم سياسي فإن الضمانات الكفيلة بعدم طغيان القيادة لم تُوَضّح مطلقا.
ها نحن قد افترضنا هنا حالة مثالية لتطبيق المركزية "الديمقراطية"
و أوضحنا أنها مركزية و حسب، و ليست ديمقراطية على الإطلاق. و لكن الواقع غالبا ما يكون بعيدا جدا عن المثال. فمؤتمرات الحزب لا تعقد بنفس الانتظام الذي تنص عليه اللائحة. فالحزب الشيوعي السوفيتي لم يعقد مؤتمرا خلال ثلاثة عشرة سنة، من 1939 إلى 1952. و قد كان هذا الحزب – وقتها – في السلطة، وكان يحكم شعبا خاض لست سنوات حربا عالمية. و الحزب الشيوعي السوداني لم يعقد مؤتمرا طوال ربع قرن. إن هذا يوضح أن المركزية يمكن أن تستغني عن خدمات الديمقراطية، في أي وقت، و دون أن تخشى الحساب. و حتى عندما تعقد المؤتمرات فإنها غالبا ما تتحول إلى ساحة لتمجيد القيادة، و إظهار الإجماع أمام المجتمع
و العالم، و ليس منابرا للحوار المثمر البَنّاء واختلاف الآراء. إن مؤتمر الحزب الشيوعي الروماني قد انتخب نيكولاي شاوشيسكو أمينا عاما للحزب بالإجماع، و ذلك قبل أيام فقط من محاكمته و إعدامه!!
و غالبا ما لا تخضع الوثائق التي يخرج بها المؤتمر لحوار جدي قبل المؤتمر أو أثناء انعقاده. فوثيقة الماركسية و قضايا الثورة السودانية على سبيل المثال، تمَّت قراءتها على الأعضاء أثناء المؤتمر الرابع، و هي كتاب.
و تمَّت تعبئة الحزب حولها بعد انفضاض المؤتمر و استمرت التعبئة لأكثر من عام.
نخلص إلى أن الحزب القائم على المركزية "الديمقراطية" كما أثبتت تجارب الأحزاب الشيوعية دون استثناء، هو حزب غير ديمقراطي. و إذا كانت ثمة ديمقراطية داخله، فهي من نصيب القيادة وحدها، في حين تتجه المركزية إلى إخضاع القاعدة و تأديب المارقين.
إن المبادرة في مثل هذا الحزب تأتي دوما من القيادة وحدها. و يصبح التلقي و التنفيذ هو القَدَر الذي لا مفر منه بالنسبة للقاعدة. فالمركزية المطلقة هي الأداة الفعالة لخلق قاعدة حزبية سلبية، عديمة الإرادة، مغتربة داخل حزبها الذي جاء ليجتث الاغتراب من كل المجتمع، و ممزقة لا تدري ما تفعل. و لا نعدو الحق إذا قلنا أن العلاقة بين القيادة والقاعدة مأزومة دائما و مريضة. فالقيادة تُنَزًّل رؤيتها دائما في شكل توجيهات، و تتوقع من القاعدة أن ترفع لها الشواهد و البراهين التي تؤكد لها صحة تلك التوجيهات و تقمع و تحجب ما عداها. و إن القاعدة تنتظر رأي "الحزب" في كل صغيرة و كبيرة، معتقدة أن الحزب هو هيئاته القيادية، و بين هذه وتلك، يوجد الجهاز الحزبي المتخصص في تنزيل التوجيهات و رفع التأكيدات.
و بالتدريج، و بفعل هذه الآلية، و بفعل الدوافع و النوازع الإنسانية، البالغة التعقيد، و بفعل تأثيرات السلطة الحزبية، أو السلطة السياسية إذا وجدت، يتحول رأي الحزب و توجيهاته إلى أوامر أوتوقراطية غير قابلة للمراجعة.
و تتحول تأكيدات القاعدة إلى مديح و ثناء وعبادة. فعبادة الفرد ليست سوى عبادة القيادة. و ليست سوى الثّمَرَة السّامة للمركزية "الديمقراطية" و إذا كانت تخلق، على مستوى القيادة، طغاة، قساة القلوب، مثل ستالين
و شاوشيسكو، أو تسمح لهم بالصعود، فإنها على مستوى القاعدة تخلق جيشا كاملا من المدّاحين، و الكذّابين، و ماسحي الجُوخ المُزَيِّفين والمُزَيَّفين. هؤلاء هم الذين سيحتلون تدريجيا أهم الوظائف الحزبية، و يفرضون سيطرتهم الكاملة على جهاز الحزب، و يُسَخِّرونه في عمليات القمع القاسية،
و عمليات الافتراء الخبيثة و التي يوجهونها ضد أشرف و أنظف العناصر الحزبية، هذه العناصر التي تستفزهم استفزازا لا يحتمل بمحض نبلها
و استقامتها و صدقها، و استماتتها في الدفاع عن القضية النبيلة التي أُنشِئ الحزب أساسا من أجلها. و هنا يصبح الحزب مريضا مرضا لا شفاء منه، مغتربا عن ذاته، و عن رسالته، و عن مجتمعه. و بدلا من أن يكون منقذا للمجتمع يتحول إلى خطر ماحق يتهدده. إنه يغرق بالكامل في مرحلة انحطاطه و لن يشفى إلا باستئصال تام لأورامه الخبيثة.
و يمكن للحزب أن يقاوم هذه الاتجاهات التي أشرنا إليها، من التعبير عن نفسها بالكامل، ما دام في صفوف المعارضة. و لكنه لا يستطيع مقاومتها مطلقا إذا استولى على السلطة. و تجربة الأحزاب الشيوعية في ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي خير شاهد على ذلك. فالظاهرة الستالينية هي القاعدة
و ليس الاستثناء في جميع هذه التجارب. و بانتقال الحزب إلى السلطة ينتقل مبدأ المركزية "الديمقراطية" ليشمل المجتمع ككل. و تنتقل ظواهرها السالبة من حيزها الحزبي المحدود إلى الحيز الوطني العام. كما أنها تصبح أكثر تفاقُما، و عُمْقا، و عُقْما أيضا.
إن منع تكوين الديمقراطية، ومسايسة الرأي الآخر، و مصادرة الديمقراطية، و إنشاء بنية سيكولوجية متينة لدي عضو الحزب، تخشى الاختلاف،
و الاستقلال و التّمَيُّز خشيتها للمرض، هي ظواهر كفيلة بإحباط و سحق تطور أي حزب أو منظمة. و لا غرو، فذلك يمثل الإلغاء العملي لفعالية قانون التناقض الماركسي و الذي هو القوة الدافعة لكل تطور. فهذا القانون القائم على وحدة و صراع الأضداد قد أبطل فعله داخل الحزب بالتركيز الوحيد الجانب – المَرَضِي أحيانا- على الوحدة، و على حساب الصراع. و أنه لمن المفارقات الأليمة في تأريخ الفكر السياسي والتنظيمي أن يبادر الدّاعون إلى نظرية ما، و المؤمنون بِصَحَّتِها و صَوَابها، إلى إلغاء جوهرها حينما يشرعون في تطبيقها. خاصة وأن تلك النظرية تُصِرُّ على وُحدة الفكر و التطبيق،
و تعتقد أن حقيقتها لا تَتَكَشَّف إلا في وُحدتهما. و للأسف الشديد فإن هذا هو بالضبط ما حدث، بل أن أكثر ما يُثير القيادات الحزبية و يُفجِّر غضبها هو القدْح في مبدأ المركزية الديمقراطية الذي أدى إلى كل هذه النتائج السالبة. و لا يحدث هذا إلا لأن هذا المبدأ يتعلق بالسلطة الحزبية و بحماية المواقع القيادية.
و يمكن للبعض أن يقول أن تجربة الحزب الشيوعي السوداني تثبت أن المركزية الديمقراطية لا تؤدي بالضرورة إلى الظواهر التي أشرنا إليها. و لكننا لا نرى أي أساس لهذا القول، و لهذا الاستثناء. و في حقيقة الأمر فإن الأدب الحزبي يفيض بالحديث عن المركزية "الديمقراطية" و قد تحولت إلى مركزية بيروقراطية، و أفسدت حياة الحزب الداخلية، و أعاقت نموه و تطوره. فقد جاء في وثيقة إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير ما يلي:
"إن بعض الرفاق يدوسون على هذا المبدأ؛ أي المركزية الديمقراطية، الذي لن يستقيم الحزب الشيوعي بدون تطبيقه. إنهم يَضَعُون السُّلطة التنظيمية محل الصراع الفكري و الإقناع، أنهم لا يحترمون رأي الأقلية، إنهم لا يناقشون سياسة الحزب، بقدر ما يصدرون الأوامر العسكرية. ساعد على نمو هذا الاتجاه انعدام الديمقراطية في بلادنا و ظروف الضغط و الاضطهاد التي يعيشها الحزب"‪.
و تتحدث وثيقة الماركسية و قضايا الثورة السودانية عن أن العجز في استقبال الطلائع و تحويل الحزب الشيوعي إلى قوة جماهيرية بعد ثورة أكتوبر 1964، لا ترجع أسبابه إلى عجز في النشاط الجماهيري، لأن الحزب قد جذب الآلاف من خيرة ممثلي الشعب نحوه، و لكن العجز يرجع إلى "عُقم الحياة الداخلية، و إلى الخلل الناتج عن ضعف مبادئ المركزية الديمقراطية"‪.
و تتحدث وثائق الحزب الأساسية عن ظواهر الوصاية المفروضة على فرع الحزب، و عدم إشراك العضوية إشراكا نشطا في حياة الحزب الداخلية،
و عن روح الحلقية الضيقة، و سيادة البيروقراطية و الانغلاق الذي يصعب كسره لاستقبال الجديد، و ما يصاحب ذلك من انصراف العضوية الجديدة عن الحزب و انكماشه وتقلصه في الوقت الذي تتوفر فيه كل الشروط الموضوعية لنموه. و تنعى وثيقة الماركسية و قضايا الثورة السودانية ضعف الديمقراطية في الحزب بالكلمات التالية:
"إن هذا الأساس لتنمية الديمقراطية في حزبنا ضعيف، و مهزوز جدا. فما زال فرع الحزب الشيوعي يتلقى التوجيهات المفصلة، و يجري تدخل في حياته بحجة أن الفروع لا تستطيع العمل وحدها".
هذه نصوص واضحة جدا في دلالتها على أن الممارسة الديمقراطية معدومة على مستوى قاعدة الحزب، و قد أوضحنا أنها معدومة – خاصة- على مستوى قيادته. و لا يمكن تجاهل الأسباب المعقدة التي تجعل تطبيق الديمقراطية في مجتمع مثل مجتمعنا أمرا صعبا جدا. و لا شك أن الفكر الديمقراطي مطالب بترسيخ أسسه في كل المؤسسات الاجتماعية و السياسية. و لا يتم ذلك إلا بصراع شرس ضد كل إرث الوصاية و الأبوية والطغيان، المتجسد في مؤسسات تبدأ بالعائلة وتصل إلى الدولة. و لا يتم في الأحزاب الكبرى إلا بإقصاء الطائفة و تحجيم دورها السياسي. و لا يتم داخل حزبنا إلا بإلغاء مبدأ المركزية "الديمقراطية" الذي ينصب قيادة طائفية جديدة تربطها الولاءات الشخصية و روح العصبية.
و يجب الإشارة إلى أن الوثائق المشار إليها تعتقد أن الخلل يتمثل في تطبيق مبدأ المركزية "الديمقراطية" بينما نعتقد نحن أن الخلل يتمثل في المبدأ نفسه. فيما عدى ذلك فالاتفاق جوهري، لأن ما تحذر منه هذه الوثائق و ترفضه هو ضمور الديمقراطية و مصادرتها لصالح المركزية. و هذا ليس أمرا عارضا بل هو من طبيعة المبدأ نفسه الذي تصاغ على أساسه البنية الحزبية كلها. و هو ليس أمرا عارضا لأن جميع الأحزاب الشيوعية المحكومة بهذا المبدأ اتسمت ممارستها بالمركزية المطلقة و صادرت الديمقراطية و لم تتنازل إلا مجبرة و في ظروف استثنائية مكّنت عضوية هذه الأحزاب بمغالبة قيادتها واسترجعت حقوقها عنوة واقتدارا وبوضع اليد.
خلاصة القول أن المركزية الديمقراطية مبدأ لا يصلح لحزب يرغب أن يكون ديمقراطيا، و أن يشيع الديمقراطية وسط أعضائه خاصة، و وسط المجتمع بشكل عام. و من المفارقات أن قيادة حزبنا تقبل الديمقراطية الليبرالية كنظام سياسة للمجتمع و تعمل لها و تناضل من أجلها، بينما تعض بالنواجذ على نظام حزبي هو أبعد ما يكون عن الديمقراطية و يكون ادعاء الحزب هنا بأنه سيكون أمينا على الممارسة الديمقراطية في المجتمع، بينما يقمعها داخل صفوفه، إدعاء بلا أساس. و يكون قبوله المعلن للديمقراطية نوعا من النفاق. وبالطبع فإن هذا القول ينطبق على المجتمعات التي تسودها الديمقراطية كنظام للحكم و الحياة، و هو ما نعتبره الوضع الطبيعي لكل مجتمع في هذا العصر. أما إذا كان يسود المجتمع حكم دكتاتوري أو فاشي، كما هو الحال في بلادنا اليوم، فإن شكلا من أشكال المركزية القوية لا مفر منه. إذ أن وظائف ديمقراطية معينة لا يمكن ممارستها تحت ظل حكم دكتاتوري، يصادر حرية التعبير و التنظيم و الصحافة، و يلجأ لكل وسائل القمع. حينها يصبح وجود الحزب كله في خطر وتصبح السرية، و ليس العقلانية، هي التي تحكم حياته. إن عضوية الحزب تقبل هذا الوضع باعتباره ضرور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.