قد يستغرب البعض للتشييع الاسطوري للراحل المقيم الفنان المرهف جدا محمود عبد العزيز (الحوت) واول من ارتفعت حواجبهم دهشة كانوا من حسدوه حيا وميتا والذين حاولوا مع سبق الاصرار والترصد وباستمرار طمس موهبته وتبخيس قدره منذ ظهوره البارق في نهاية ثمانينات القرن الماضي ولسبر غور هذه المحبة المحيرة والتقدير الذي ناله هذا الشباب النحيل الخلوق الخجول لابد من استقراء سريع لتاريخه الملفت للنظر. برزت نجومية محمود تزامنا مع صعود الجبهة القومية الاسلامية للسلطة بانقلابهم المشؤم في 30 يونيو 1989 وتلبد سماء السودان بغيوم الهوس الديني وتاجيج الحروب والفرقة بين ابناء الوطن الواحد ومناخ معاد للثقافة والفن والجمال في هذه البيئة سطع نجم الحوت ولفت انظار الشيب والشباب وحتي الاطفال حينها (كما في حالتي وقتئذ) فكانت تلك اول مصادمة له مع المشروع الحضاري الهادف لتغيير طبيعة وتركيبة الشعب السوداني بدعاوي الاسلام وكان الاسلام دخل السودان في 89 عشية انقلابهم المشؤم والذي اضحت حصيلته النهائية تقتيل وتشريد ملايين السودانيين بالاضافة للجريمة الكبري وهي تقسيم السودان لرفضهم المواطنة المتساوية في هذا الجو كان محمود هو سودان الشباب والاطفال المصغر المتسامح الرافض للعنصرية الدينية والعرقية ولذلك دخل قلوب السودانيين جنوبا وشمالا بصوته الرخيم المدهش والذي يجذبك (ولا كتر خيرك).تربع محمود علي عرش الاغنية السودانية منذ ظهوره والي رحيله المر في ظاهرة تستحق الدراسة من الباحثين والاكاديميين فهو فنان الشباك الاول بلا منازع وهو سبب انتعاش سوق الكاسيت قبل ظهور السي دي والميديا بلاير وكان وباختصار شديد كما يقول صديقي ودفعتي محمد عبدالله (اب حس) محمود دا متفق عليه.اذكر ونحن بعد اطفال في منتصف التسعينات لا نتردد في توصيفه كفناننا الاول وكان الكبار يصفوننا (بجيل محمود) وحتي عند لعبنا لكرة القدام في ملعب الحي (الدافوري) كان يكفي ان يهتف احدهم (يا جماعة محمود في التلفزيون) فينفض سامر القوم جريا ممنيين انفسهم برؤيته ولو لدقيقة وحتي عندما اشتدت محاولات اغتيال شخصيته وتشويهها بادخاله السجن باستخدام النظام العام الكريه سيئ الذكر الذي ينتهك خصوصيات الناس بدعاوي الطهر والعفاف الزائف كل هذا جاء مصحوبا بحصار اعلامي وحرمانه من الظهور التلفزيوني والمشاركات الدولية وهو الفنان صاحب اعلي المبيعات في تاريخ الكاسيت السوداني ولكن برغم هذه المؤامرات والمكائد تمكن محمود من هزيمتها وعاد اقوي والمع ومن المواقف القوية جدا في اول حفلة له في نادي الضباط عقب خروجه من السجن والتي جمعت الالاف من الجماهير بصورة ملفتة للنظر حتي ذكر الحوت نفسه في جلسة خاصة انه تفاجا وشعر بالخوف من هذه الجماهير الهادرة وزاده هذا اصرارا علي التميز والتجويد لارضاء جمهوره الغالي كما كان يصفهم دوما.ايضا في تلك الفترة كانت اغانيه في المركبات العامة والكافتيريات العامة حاضرة بصورة دائمة_كل هذا هو غيض من فيض لانسان بسيط ولكن كبير جدا بابداعه وحضوره الطاغي والذي توج بتشييع الاسطوري غير المسبوق كثاني اضخم تشييع وحزن جماعي علي شخص في سودان ما بعد اتفاقية السلام الشاملة بعد د.جون قرنق وكنت قد كتبت حينها في صفحتي في الفيسبوك قبل وصول جثمانه من الاردن (كم كنت اتمني ان اشارك في تشييع الفنان الانسان النادر الراحل محمود عبد العزيز وادعو كل شخص موجود في الخرطوم الخروج لتشييعه لانه يستحق ذلك) ولم يخذلني الشعب السوداني جنوبا وشمالا فبكاه الجنوب واكتست وجوه الناس في المدن بحزن تراه في وجوه محدثيك وفي الطرقات واعلن مكتب نائب رئيس جنوب السودان بيان تعزية لشعبي السودان الكبير. ختاما اقول محمود ظاهرة سودانية خالصة وفريدة في جوهرها فهو الفنان الوحيد في تاريخ السودان الحديث الذي يشبه تعلق الشباب به كتعلق الجماهير باساطير الغناء العامي من لدن فرقة البيتلز الشهيرة في منتصف الستينيات وبوب مارلي ومايكل جاكسون ملك البوب وكيف لا وظهوره في اي مناسبة او مكان هو حدث ملفت للنظر ويتهافت الناس عليه لاخذ الصور والتوقيعات والتامل فيه عن كثب وكان يقابلهم بابتسامته البريئة الصافية غير المصطنعة لذلك سيظل الحوت حيا في قلوب الملايين من معجبيه ومحبيه وغالبية الشعب السوداني (جنوبا وشمالا) لان الاساطير لا تموت. [email protected]