المجتمع السوداني بوسط السودان وأجزاء كبيرة من غربه وشرقه وشماله مجتمع بدوي تكون وعلى مدى قرون طويلة من التعايش والإنصهار بين القبائل العربية التى هاجرت من الجزيرة العربية ومصر والمغرب العربي وبين القبائل الإفريقية الأصلية والتى كانت تعيش بأرضه منذ ما قبل التاريخ , كون تحالف من زعيم العبدلاب عبدالله جماع وزعيم الفونج عمارة دونقس دولة فى السودان الأوسط قامت بتدمير مملكة علوة المسيحية وخربت كنيستها بسوبا وأنشأت دولة بديلة ,, وهكذا تجد فى هذه المجتمعات تنوعا عرقيا عجيبا وقد تجد فى الأسرة الواحدة عدة أشكال وألوان وسحنات مختلفة ,, وقد تبدو على هذا المجتمع بعض مظاهر التمدن ولكنه بدوي فى صميمة تحكمه العادات والتقاليد الموروثة ونظرة المجتمع البدوي لكل شئ ,, فى هذا المجتمع وفى كل المجتمعات العربية البدوية يستنكر كل خروج على المألوف وينبذ كل متمرد على التقاليد الموروثة والثقافة البدوية وينظر المجتمع إليه بنظرات الإزدراء والتحقير , يزدرى أي جديد سواء كان فى الملبس أو الغناء أو التفكير أو حلاقة الشعر أو أي شئ غير مألوف ,, لا مكان فى هذه المجتمعات للحرية الفردية ولا للإستقلال الذاتي والفرد فيها دائما تابع لا مستقل ,, هناك قهر شديد وقمع وقسوة تقوم به الأسرة والعائلة والمجتمع البدوي على أفراده وذلك لتحقيق الغايات التي تتحددها نظرة الأسرة والمجتمع من ذاك الفرد ,, وبسبب هذا القهر الدائم كثيرا ماتجد أفرادا فى هذه المجتمعات وقد أصيبوا بعطب نفسي وبعقد مستعصية وبحالات إكتئابية شديدة يحار الأطباء فى أصلها وأسبابها ,, وبسبب ذلك كثيرا مايهرب أفراد من هذه الجماعة دون أن يعودوا إليها وتسمع بفلان ذهب إلى السعودية – مثلا – ولم يعد منذ عشرين عاما أو فلان ذهب إلى أوروبا وتزوج هناك ولم يعد ويستغرب أفراد المجتمع هذا السلوك دون أن يعرفوا له سببا مقنعا بالنسبة لهم ,, وقد يصاب بعض الأفراد بالجنون الصريح وتجدهم يهيمون فى الشوارع وهؤلاء بعض من أذكى الناس فى تلك البيئة القاسية , ولقد سمعت بأشخاص كانوا من المتفوقين والأوائل وقد صاروا مجاذيبا ودراويش ,, ومرة أخرى يحار الناس فى أمرهم فالحياة هناك بكل قهرها وتحكمها فى الأفراد تبدو شيئا عاديا وأمرا مقبولا ويبدو التدخل فى شؤون الغير سلوكا إجتماعيا لا غضاضة فيه ,, تسود هذه المجتمعات القسوة ولغة العنف والقوة والعنف هنا قد يكون لفظيا ,, وكثيرا ماتجد نساء فى هذا المجتمعات من القوة بحيث يسيطرن على الأسرة وأفرادها جميعا وذلك بقوة اللسان والشخصية ,, سألت الدكتور طه بعشر إختصاصي الطب النفسي المشهور وقد كنا ندرس على يديه فى مستشفى الخرطوم للأمراض النفسية سألته عن سر العلاقة بين الذكاء والجنون فهذا الأمر منتشر فى السودان بصورة ملحوظة , وقد نفى الدكتور هذه العلاقة ولكنني كنت متيقنا من رابط ما وظللت أتسائل ,, الوجاهة الإجتماعية للرجل البدوي تقوم على قوة المال وخصائل الكرم ولا بأس ببعض التدين , لذا فإن أفرادها الطامحين دوما ما يسعون وراء المال وينفقون منه بكرم لايشذ عنه إلا قليل ,, إنها صورة الإعرابي منذ عصور ماقبل الإسلام .. وتجد هذه الخصائل تتكرر فى الأغاني الشعبية والوطنية وأغاني البنات فى الأعراس والمناسبات حيث ينتشي السوداني العربي عند سماع هذه الأغاني فيحمل سيفه ويبشر بنشوة وطرب ويعطي مطربة الدلوكة عطاء من لايخشى الفقر ,, والمرأة السودانية العربية بثوبها المزركش والمطرز تحدد مكانتها مقدار ماترتديه من ذهب ومجوهرات ونوعية ثوبها وجودته وكذلك مقدار وزنها الزائد بالإضافة لقدرتها على طبخ الأطباق السودانية وإكرام الضيوف الذين يتوافدون على البيت فى أي وقت ودون مواعيد .. هذه العقلية البدوية توجه سلوك أفرادها لاحقا فى حياتهم وتحدد ميولهم الفكرية وشكل تصرفاتهم , يخرج الأفراد المتعلمون بمختلف درجاتهم العلمية من هذه المجتمعات ليديروا المدارس والجامعات والمستشفيات والجيش والشرطة والوزارات والدولة بكاملها ويعاملوا رعيتهم ومرءوسيهم بنفس العقلية , عقلية البدوي الخشنة والقاسية والمتعصبة وكذلك المتدينة والكريمة ,, والتدين هنا تدين البدوي الذي قد لا يلتقي بالإسلام أحيانا ,, لا مجال فى تلك المؤسسات الحكومية سوى لنظرة البداوة للحياة والعالم وقسوة العقوبات للخارجين على هذه النظرة ,, من يشذون عن الجماعة ينعتون بالمتفلسفين والشيوعيين والعلمانيين والمتغربين ويتم عزلهم والتشهير بهم ودون تردد ,, الإنسان هناك لا يكون إنسانا معتبرا إلا ضمن هذا السياق البدوي ولذا فيجب أن تكون بدويا أو تهرب ,, وهكذا هرب الألوف من خيرة ما أنجب السودان من عقول , خرجوا ليعمروا بلدانا أخرى كان الوطن فى أمس الحاجة لخدماتهم ولعلمهم ,, إن جمهورية الإنقاذ وحزبها المؤتمرالوطني هي من صميم هذا المجتمع البدوي ونظرته للحياة ورعبه من أي تغيير ,, وفي أي تجربة ديموقراطية قادمة سوف يمتلئ البرلمان بأفراد من هذه البنية الإجتماعية القائمة على العادات و التقاليد متعلمين كانوا أو غير متعلمين , فالتعليم التقليدي فى السودان لا يغير شيئا من نظرة البداوة هذه وأما الكلية الحربية فهي تزيد الطين بلة لأنها تجعل من أبناء الجماعة البدوية قادة عسكريين ومتنفذين يتحكمون بألوف مؤلفة وطائعة من الجنود المسلحين .. هذا هو السبب الحقيقي فى تردي حال السودان بعد الإستقلال عن الإنجليز , حكم أبناء البدويين السودان بأساليبهم غير العلمية وغير العملية بعد أن كانت تحكمه عقول عملية تخرجت فى أكسفورد وكامبريدج وتحمل نظرة الغرب المتحضر والمتطور للعالم وللواقع السوداني ,, ولذا يجتر السودانيون تاريخ السودان الزاهر فى حسرة وألم ويتمنون لو عاد الإنجليز للحكم مرة أخرى ,, وللحقيقة ماذا جنينا من إستقلالنا سوى الحروب والفساد والفقر وانهيار الخدمة المدنية والبنية التحتية ؟؟ ولأن يتحمل الإنسان ذل أن يحكمه أجنبي متعلم وواسع الإدراك خير من تحمله لحكم وطنى جاهل وأحمق ومتعصب ,, وهل تجلب الوطنية خبزا للجوعى وعلاجا للمرضى أو حرية للمقهورين ؟؟ ليت الإنجليز حكمونا كهونج كونج مائة عام أخرى ,, ولو حكمت السودان فسوف أعلنها جمهورية للإيجار ,, كاتب المقال بدوي من الجزيرة ... د.مشعل الطيب الشيخ .. [email protected]