من البدهيات التي أضحت معلومة بالضرورة، أن أيما كارثة تحل بأي مجتمع تمر بثلاث مراحل، هي على التوالي، مرحلة ما قبل وقوع الكارثة، وأثناء حدوثها، وما بعد حدوثها، هذه التراتيبية التي تصاحب حدوث الكوارث، فرضت ذاتها على الأسلوب والكيفية التي تدار بها الكارثة، فإدارة أية كارثة والتعاطي معها لدرء خطرها وكف آثارها المدمرة تمر أيضاً بذات المراحل الثلاث، أما وأننا الآن في قلب الكارثة التي خلفتها الأمطار المصحوبة بسيول وضربت أجزاء من العاصمة الخرطوم ونواحي اخرى متفرقة من البلاد، راحت بسببها أنفس عزيزة وفقد الآلاف المأوى والممتلكات، وانقلبت حياتهم رأساً على عقب وأصبحوا في حاجة ماسة وعاجلة للغوث والمساعدة بتوفير الحماية والملاجئ الآمنة والعناية الطبية والاجتماعية واحتياجات الحياة الضرورية الاخرى من مأكل وملبس ومشرب، تكون البلاد ما تزال في مرحلة حدوث الكارثة، وهي المرحلة التي تتطلب توجيه كل القدرات والامكانيات وحشد كافة الجهود للسيطرة ما أمكن على هذه التداعيات المؤسفة والمحزنة حتى لو تطلب الأمر طلب المساعدة الدولية، وتعقب هذه المرحلة الحلقة الاخيرة من الكارثة وهي مرحلة إعادة تأهيل المنكوبين نفسياً ومعنوياً وإعادة حياتهم إلى طبيعتها بجبر ما تعرضوا له من أضرار وإعادة بناء مساكنهم المدمرة وبذل كل ما يمكن أن يعيدهم لممارسة حياتهم المعتادة. غير أن ما أهمني هنا وعنيت به عناية خاصة، هو مرحلة ما قبل وقوع الكارثة، وما تتطلبه هذه المرحلة المهمة جداً من احترازات وتدابير يستلزم القيام بها تحسباً لأية كارثة أو خطر محتمل، ومن البداهة هنا التنبيه لضرورة توقع اسوأ الفروض والاحتمالات وبناء خطة المجابهة عليها لتأتي المعالجة كلية وشاملة لكل مظان الخطر ومكامنه حتى لو لم تشكل خطراً من قبل ولكنها تظل مثل القنابل الموقوتة او«الخلايا النائمة» يمكن أن تنفجر او تصحو يوماً ما، لسبب ما، وتفعل فعلتها، كما حدث في الكارثة الحالية، حيث لم يتعظ القائمون على الامر بما سبقها من كوارث، حين اهتموا فقط بالمناطق التي تأثرت تأثيراً مباشراً واجتهدوا في اجراء معالجات جزئية افتقدت النظرة الكلية، وقد كشف عن هذه النظرة القاصرة المهندس عبد القادر همت مدير الطرق والتخطيط العمراني بالولاية، والرئيس المناوب لغرفة الطوارئ في حديثه للزميل الذي يتربع بجدارة على قائمة أفضل وأبرع من يجري اللقاءات والحوارات والمجابهات والمواجهات الصحفية والإعلامية، الطاهر حسن التوم، حين قال همت انهم في كارثة سابقة أقاموا سدوداً وكباري ومشاريع نثر مياه في المناطق التي تضررت، وقد استفادت هذه المناطق الآن كثيراً جداً من هذه المنشآت وأصبحت بفضلها عصية على الكارثة الحالية فلم تصب بأي سوء أو ضرر.. طيب يا سيدي لماذا تنظر فقط تحت قدميك، لماذا لم تنظر لكامل الخريطة الطبوغرافية والكنتورية لكل الولاية وما جاورها وعلى ضوئها تحدد بدقة مسارات السيول حتى لو كانت خاملة لعشرات السنين فتنشئ عليها ما يحميها مستقبلاً، خاصة وان التغير في المناخ صار معلومة يعرفها حتي شفع الروضة، ونفس الشئ ينطبق على غلوتية المصارف والمجاري التي لم تفعل الولاية ازاءها شيئا يذكر غير انها ظلت تذكرنا لسنين متطاولة بتكلفتها العالية ثم تطبق يديها وتصمت، في حين انها في كل عام لو انجزت شبراً لكانت الآن قد قطعت شوطاً مقدراً فيها. الآن وقد حدث ما حدث ووقعت الكارثة وحلّت الفجيعة التي نسأل الله ونتضرع إليه ان يخفف وطأتها ويلطف بعباده من آثارها خاصة في الناحية الصحية، أظن أنه قد آن الاوان للتركيز على معالجة المحتمل من الكوارث قبل حدوثها، حتى إذا ما وقعت كارثة -لا قدر الله - وجدتنا على أهبة الاستعداد على الاقل لتخفيف وطأتها وتلطيف حدتها، ولمثل هذا العمل آليات ونظم إدارية وفنية وتحضيرات معلومة لأهل الاختصاص عليهم أن ينهضوا بها ولو بأضعف الإيمان بتقديم النصح والمشورة لمن بيدهم الأمر والفعل.