٭ عندما يتسلل التوتر والقلق إلى دواخل الناس وتصبح اللامبالاة عنواناً يومياً للحياة في مختلف مجالاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يجب أن نأخذ حذرنا وننتبه ونقرع نواقيس الخطر ونضيء الأنوار الحمراء. ٭ ماذا يعني أن تسيطر كلمة اكتئاب على قاموس الحياة اليومية؟ ماذا يعني أن تصبح لغة الطب النفسي هي لغة العامة؟! لماذا تموت الدهشة أمام أي حدث أو أية ظاهرة؟ ٭ الناس يتابعون ما تقوله الحكومة بلا دهشة وبلا رد فعل سوى مزيدٍ من اكتئاب آخر.. أحداث الأمطار والسيول والخراب الذي انتظم كثيراً من أنحاء الوطن.. الحكومة تقول لم تبلغ درجة الكارثة ووالي الخرطوم يقول لم ينطبق عليها اسم كارثة إلا إذا فقد نصف السكان. وأهل الإرصاد كل يوم يقولون إن الأمطار الغزيرة قادمة ومعها السيول، والسلطات المحلية تحذِّر الأهالي وكفى، وحتى الظاهرات الإيجابية والمبشرة تقابل بالاتهامات والتوجس.. شباب نفير وجسر الذين طردوا السلبية وحولوا الصدمة إلى عمل نافع في مساعدة ضحايا السيول والأمطار.. وكثير من الناس انشغلوا في تعريف الكارثة أو النكبة أو المصيبة.. والناس في حالة توقع السيول والأمطار.. الأربعاء.. لا الخميس.. الجمعة، وهم في حالة اللادهشة والاكتئاب، ويتابعون الأسعار في قفزاتها المجنونة.. اللحمة، الخضار، الزيت، الفحم، الغاز، تقزم الرغيف، غلاء اللبن والبن والصابون وكل شيء. ٭ التقيت طبيب أمراض عقلية ونفسية، وعبرت له عن قلقي وتساؤلاتي عن هذه الظاهرة.. ظاهرة القلق والتوتر والاكتئاب وموت الدهشة قال لي: ٭ بالفعل إن الحياة المعاصرة قد غزتها لغة الطب النفساني كما تقولين حتى غدت تشكل مهرباً من مواجهة المسؤولية، فأصبح الكثيرون بدلاً من أن يواجهوا مسؤولياتهم ويبحثون عن حلول لمشكلاتهم يصرخون ويقول كل على حدة أنا حزين.. أنا مالي.. ما في أمل.. أنا عندي اكتئاب.. واستعمال كلمة «اكتئاب» بهذا الشيوع هو نوع من هذا الهروب. ٭ قلت له مستغربة يا دكتور هل معنى هذا أن كل حالة اكتئاب هي حالة هروب حتى وإن كانت أسبابها واضحة وقوية؟ قال بالطبع لا.. هناك نوع رائع من الاكتئاب هو الألم الواقعي.. هو الوعي بالواقع الذي يغلق دروب الهروب ويحدد للإنسان مكانه من الأمانة التي يتحملها، وهي أمانة الاختيار والعزم على مواجهة أسباب ذلك الألم، ومن هنا تأتي آلام المواجهة، ومن مظاهر هذا الألم تلك المسحة من الحزن التي تعلن صعوبة الحياة وتشابك المشكلات وعظم المعاناة من ناحية والإصرار على تخطي هذه الصعوبة من ناحية أخرى. ٭ قلت للدكتور إن موجة الاكتئاب والقلق تغمر حياة الإنسان السوداني بصورة عامة ووسط الشباب من الجنسين على وجه الخصوص، فإلى أين يمكن أن تقود هذه الحالة؟ قال لي أنا لا أوافق على أن حالة الاكتئاب وسط الشباب بهذه الحدة.. ولكن إن كانت فهذا معناه أن تقود إلى توقف النمو النفسي واللجوء إلى التبرير وضياع الحياة.. كما يمكن أن تؤدي إلى أمراض جسمانية خطيرة مثل ارتفاع ضغط الدم وقرحة المعدة وأمراض الجلد والذبحات الصدرية. ٭ القلق النفسي والتوتر والاكتئاب إذا نتج عنها توقف النمو النفسي.. فهو الخطر إنه الموت، فبدلاً من أن تتوجه طاقة الشباب إلى الخلق والإبداع والتجديد والتغيير تتوقف عند مرحلة الدوران حول النفس والإغماء والسخط ثم الانسحاب والتبلد فيما بعد. ٭ قلت مع نفسي في جزع وقلق وخوف نعم إنها موجة طاغية من القلق والحزن والاكتئاب.. ولكن عزائي أني أحس بأمل في أنها من شاكلة ذلك النوع الرائع من الاكتئاب.. الاكتئاب الذي ينتج عن مواجهة آلام الواقع من أجل التغيير.. أحس بذلك وأتمناه.. ولولا فسحة الأمل لضاقت الدنيا. هذا مع تحياتي وشكري. الصحافة