تلك رحلة اخرى! رحلتي الى بلاد العم سام.. تجربة شخصية في البحث عن وطن! الحلقة الأولى خضر كاشف (1) إليكم... إلى أمي التي إكتوت بنار غربتي و تغربت هي في آخر المطاف. غفرانك، ما كان لي في الأمر حيلة! إلى إخوتي، كم تمنيت أن لا تتجشموا عناء السفر و لكن هل كان لي في الأمر خيار؟ إلى معتصم شمس الدين الذي منحني تلك البداية ثم ضاع مني في دهاليز الغربة و غيبه الموت إلى الأبد، فلترقد بسلام أينما كنت. إلى خالد كاشف و هشام عبدالوهاب، وددت أن أواصل ما إنقطع من حديثنا و أكتب لكم عن ما مضى فعذراً إن وجدتم كتابتي مخيبة لحسن ظنكم. إلى الأحبة في كل مكان، مرهقاً كنت أنقب عن "وطن". يقيني الآن أن الوطن ما سكن داخلي و ليس ما تركته خلفي. ........... كل هذا الأرق، و هذه الرغبة المحمومة في كتابة سنين البعد و الغربة و الأشواق. ألتحف بالعتمة و الصمت آملاً أن أحتمى بهما من ضنك الأسى و وطأة الحزن المدفون. مساحات من الظلام تنقشع عن ذاكرتي الحالكة رويداً رويداً وتهرب من وعيّي و أنا أبحث عنك يا وطني المفقود. يا أيتها الذاكرة العاهرة، رفقاً بي فقد أرهقتني تباريح الشجن المأفون. يصمت الألم حيناً ثم يعود يعوي بشراسة و أنا أهرب منه أحتمي خلف جدار الذكريات. كل هذا الحنين...... كل هذا الشوق...... وأنا أعالج الكلمات ذكرى و أسأل نفسي: هل كان الوطن يوماً ما وطن و هل كنت أنا يوماً ما أنا؟ (2) تهبط الطائرة على مدرجٍ مليء بالثلوج و أنا أحدق من خلال النافذة متعجباً، هذه أول مرة أرى فيها الجليد. أخرج من باب الطائرة و أمشي متردداً في ممر قميء اللون و أتعجب، أهذه حقاً نيويورك؟ عند وصولي صالة القادمين أدور بعينيّ في أنحائها و تملكتني نفس الحيرة و أتعجب مرة أخرى، أتكون فعلاً هذه نيويورك؟ أخيراً أصل إلى نافذة تطل منها شرطية تحادثني بسرعة من يود أن يقضي على ألمٍ طاريء. أتمتم مجيباً عليها بلغة إنجليزية ركيكة و مستعصية الفهم. بنفاذ صبر تنهي إجراءات دخولي و ترد لي جواز سفري. لا أدري إن كانت تعلم أن ما خطته على إحدى وريقات جوازي في ثوانٍ معدودة قد غيّر ما كنته أنا إلى الأبد. و هكذا ببساطة وُلِدت من جديد! بعد إجتيازي إمتحان الفردوس الموعود، تعود لي بعض طمأنينة و أجيل بصري مرة أخرى في أنحاء المطار. يبلغ بي العجب مبلغه و أعود أتسائل: أحقاً هذه نيويورك؟. يتدفق سيل من الأسئلة في عقلي و تعود تسكنني الهواجس. أهذه هي المدينة التي من أجلها آليت على نفسي أن لا أستسلم لخواطر الموت و جروح الفشل؟ أهذه هي المدينة التي عولت عليها أن تداوي يأس الإنتظار و خيبة الأمل؟ أهذه هي المدينة التي كنت أظن أنها ستعتقني من أسري و تمنحني البدايات الجديدة؟ تبدو لي نيويورك أول وهلة بائسة، منزوية على نفسها، تلعق أحزانها و تندب الزمن الموتور. تبدو لي نيويورك أول لقاء دميمة، بشعة، خاوية الروح. تبدو لي نيويورك في البدء مظلمة، سوداوية المزاج، مكدرة السماوات. وهكذا تجرعت حين وصولي طعم الخيبة الأولى. و كانت تلك بداية ضمن بدايات أخرى! (3) أخرج من المطار أبحث عن سيارة أجرة فينقض علي البرد بضراوة و أحس بصقيع شرس ينخر عظام قدميّ بقسوة. أخطو خطوات مهتزة أحاول أن أمشي علي غطاء من الثلج يبدو لي من رعبي كأنه يمتد مدى البصر. "يا ألطاف الله، كيف يتسنى لي المشي على هذا الجليد و أنا إبن الشموس المحرقة"؟ "كيف لقدميّ التنقل على سطح هذا الثلج و أنا وُلِدت كي أحبو على الرمضاء"؟ أحاول المشي مرة أخرى و بالكاد أحفظ توازني المتأرجح، و يقودني بصري لأشباح أخرى تصارع المشى فوق الجليد. يبدو لي أنهم أيضاً من حيث جئت أنا فتتسلل المهانة إلى قلبي عندما يضحك المارة حين سقوط أحدهم يجر معه البقية. أصارع من أجل المشي بكرامة وأخيراً أبلغ غايتي في الوصول إلى الرصيف المقابل. أقف منتشياً بإنتصاري و فجأة يعتريني ألم طاغي و أحس بأن أطرافي تُنزع عن جسدي بسكاكين صدئة. لقد تجمدت أطرافي من البرد و صار جسدي يصرخ من الألم. و بسرعة أفكر إن كان بإمكاني الرجوع إلى الداخل و اللحاق بطائرتي العائدة إلى أرض الدفء. و أنا أقاوم آلامي، يتقدم شخص ما و يعرض عليّ توصيلي إلى جهتي المقصودة بمقابل. أهِمُّ بالموافقة فيهمس شخص كان يقف بقربي محذراً و أفهم أنه ينصحني بركوب سيارة أجرة مدهونة بطلاء أصفر. في لحظة خاطفة أتذكر الخرطوم و سيارات أجرة الخرطوم المطلية بدهان أصفر و أشعر بشيء من دفء. ممتناً أشكر ذلك الغريب و أستجمع قواي المنهارة من ألم البرد و أتجه صوب السيارات الصفراء. يتقدم أحد رفاق الطائرة، كان قد سبقني إلى موقف السيارات، و يعرض علي إقتسام مخاطر الرحلة صوب "بروكلين". أوافق على التو و نحشر أنفسنا في أول سيارة صفراء. حال دخولنا السيارة أدفع للسائق بورقة كتبت فيها عنوان صديقي و بسرعة أبدأ في لملمة أطرافي المتجمدة و أحاول تذويبها من البرد. يبدأ أيضاً رفيقي تدفئة أطرافه و هو يتأوه من الألم. في ظلام دامس تتهادى سيارة الأجرة و تتجه بنا صوب "بروكلين".............. (4) على مشارف "بروكلين" أرنو من نافذتي أبحث عن بصيص أمل، لكن تتوالى الخيبات. تبدو شوارع "بروكلين" مظلمة و مخيفة، و تبدو "بروكلين" نفسها جالسة كقطة سوداء خرافية، مقرورة، و مبتلة بالبرد. يهبط ليل "بروكلين" ثقيلٌ على قلبي و خيبة أملي تتمطى و تمتليء بها كل فراغات السيارة. تظل السيارة تتلوى بنا في شوارع ممتلئة بالبلل و غارقة في الظلمة. و أحدِّق من خلال نافذتي أبحث عن بارقة أمل و تتمنع عليّ "بروكلين" و تأبى إلا أن تسقيني حيرة بعد حيرة. ما زالت خيبة أملي عظيمة تثقل قلبي و أحس به يسقط منزلقاً عن صدري. و من خلال نافذتي يظل الظلام يصارع بصري و يصرعه. يطوف بنا السائق في أحشاء "بروكلين" المظلمة بحثاً عن منزل صديقي و أفهم منه أن صديقي يسكن في شارع صغير يصعب الوصول إليه. يستأذنني في أن يخابر صديقي، و يخرج من سيارته أكثر من مرة يخترق عمق الليل بحثاً عن هاتف غير معطوب. يخرج و يعود من جوف الظلام أكثر من مرة كبطل خرافي يبحث في شوارع "بروكلين" عن أميرة مفقودة. أخيراً يعود ظافراً من معاركه المظلمة مع الآلات المعطوبة و يخبرني أن الفرج قريب. تتلوى بنا السيارة مرة أخرى صوب منزل صديقي بعد أن حادثه السائق. سنوات طويلة مضت و مازلت أشعر بإمتنان عميق لذلك السائق، كم كان نبيلاً و شريفاً وهو يمد يد العون لغرباء. بعد مشقة و جهد يقودنا السائق إلى الدار المنشودة، و أصل إلى منزل صديقي. و تلك كانت بداية أخرى! (5) في صباح اليوم التالي أخرج مع صديقي لزيارة بعض أبناء حينا القديم. نتمشى في الشوارع و أكتشف كم كان الليل رحيماً بي. الفقر المدقع ينشر أسماله البالية على جدران البيوت المتهالكة و يزيدها في عينيّ قبحاً فوق بشاعة. الشوارع قذرة، مليئة بالأوساخ التي أحالت لون الثلج الساقط على الأرض إلى لون كالح. المارة، على قلتهم، يمشون كأشباح مرعوبة تتفادى النظر إلى بعضها البعض. الكل يبدو حذراً متوتراً و أفهم من صديقي أن الجميع يخشى الجميع فالجريمة ترتكب و الشمس في رابعة النهار. عند وصولنا البناية المنشودة أرى مجموعة تقف أمامها تتجاذب أطراف حديث ما، يهمس لي صديقي و يحذرني أن أنظر إليهم مباشرة وأن أتخطاهم بهدوء. عند دخولنا البناية تملأ أنفي روائح رطوبة متعفنة تتبعنا إلى البهو و تصعد معنا الدرج. هاشاً يفتح باب الشقة أحد أبناء الحي القديم و يحينا بترحاب. من خلفه تفوح نفس رائحة الفقر النافذة و تملأ فضاء الشقة و معها يهب الكل للترحيب بنا. تنهال عليّ الأسئلة عن بلاد الشمس التي تركتها خلفي و عن أحوال الوطن. أحاول الإجابة على أسئلتهم المترعة بالحنين و أكتشف أنني بالكاد أعرفهم. نتجاذب أطراف الحديث و يدور بخلدي سؤال واحد: كم شخص ياترى يسكن هذه الشقة المكتظة؟ (6) في ليلتي الثانية يخرج صديقي الذي يعمل ليلاً و يتركني للأرق و إجترار الذكريات. لا أدري إن كنت واهماً و لكني أنصت فأسمع زخات رصاص تمزق سكون الليل. برهة و يعود السكون يغمرني و أغوص في لجة أفكاري المضطربة. أسبح عميقاً في خواطري و تتقاذفني أمواج الذكريات. أتذكر أمي، كم عذّبتها آمالها وكم خيبت ظنونها الأيام، كالغريقة تتشبث بحبها لنا و تقاوم دوّامة الغربة والأحزان. أتذكرها تمنحنا مطلق جهدها كل صبح و تموت تعباً كل ليلة كمسيح يصلب و يبعث كل يوم من جديد. أتذكرها ترهقها همومها المزمنة و تحاصرها فتهرب منها بترانيم حنونة تنشدها ممنية نفسها بسعادتنا. أتذكرها و دموعها تنهمر مدراراً و أنا أفارقها إلى عالم غريب و مجهول. أتذكر كل ذلك في ظلام الليل و تنساب أغنية شجية إلى مسامعي و صوت عذب، حنون يشدو: "يا مراسي الشوق تعالى لا الليالي تمر بدونك هي الليالي من ضواحي الدنيا جيت و علي رحالي" أسمع و تنهمر دموعي أنهاراً تغرق ليل "بروكلين". أسمع و تنهمر دموعي تبكيني و تبكي ما سأكونه أنا. أسمع و تنهمر دموعي تبكي وطناً كان لي يوماً وطن. إلى اللقاء في الحلقة الثانية [email protected]